كان الدرس بالفرنسية. وقد خطر لأستاذنا لسبب لم أعد أذكره أن يحدثنا عن استحالة التنسيق والتعاون بين الدول العربية، ناهيك عن التضامن أو الوحدة. فرسم ما يشبه خريطة للوطن العربي على السبورة، ثم أخذ يستعرض واقع العلاقات بين الدول العربية. ورغم أنه كان مسترسلا في الكلام بالفرنسية، فإنه كان كلما ذكر بلدين متجاورين، علق بالعامية التونسية تعليقا واحدا يتكرر في كل الحالات ويثير ضحك الطلاب. مثل أن يقول: العلاقة بين المغرب والجزائر، «ما قال أحد لأحد» ( وهو تعبير عامي يعني أن الأمر من السوء بحيث لم يبق فيه قول لقائل)، العلاقة بين تونس وليبيا (وكان ذلك في عهد بورقيبة والقذافي)، ما قال أحد لأحد. بين مصر وليبيا، ما قال أحد لأحد. بين العراق وسوريا، ما قال أحد لأحد. وهكذا دواليك. ثم لخص بمرارة: إذا كانت الدول العربية قد هام بعضها ببعض عشقا وصبابة إلى هذا الحد، فهل يمكن لأحد أن يتعجب من استحالة اتفاقها على أي شيء؟
كان ذلك أول ثمانينيات القرن الماضي. أما في منتصف عام 2017 فإن الأمور قد تحسنت قليلا. حيث أن حكومتي المغرب والجزائر توصلتا لحل جميع الخلافات القديمة، ولم يبق إلا مسألة بسيطة جدا استدعت أن تتهم الجزائر وفدا دبلوماسيا مغربيا بالتحرش بدبلوماسية جزائرية، وأن يدفع المغرب بأن أحد أعضاء الوفد الجزائري وجه لكمة لدبلوماسي مغربي! وكانت كل هذه الإنجازات المشرّفة مما تفتق عنه الخيال السياسي في اجتماع دولي بجزيرة جامايكا القصيّة، القريبة من «كوبا الأبية»، لأنه يبدو أن نشر الغسيل العائلي لا يكون مجديا إلا إذا وقع على مرأى من الأباعد والأغراب. على أنه لا يحق لأحد من العرب أن يسارع إلى الابتئاس بهذا المشهد البائس البئيس إلا بعد أن يؤدي واجب تمليه النظر في المشهد العربي الإسلامي الكامل الشامل الذي أخرجته الرياض قبل أيام بمناسبة حلول الضيف الكريم، رجل الفضل والمروءة والأدب الجم واللسان العف، الرجل الهازل الذي يأخذ الحكام العرب هزله مأخذ الجد القاتل.
وقد لقن «رئيس الصدفة» الأمريكي مستمعيه العرب درسا مزدوجا في الشكل والجوهر. حيث رأوا كيف أن هذا الرجل شبه الأمي، السفيه عقلا والمبتذل قولا، قادر على أن يرتجل خطابا متماسك المعاني وأن يسترسل في الكلام المترابط الفقرات دون حاجة إلى الاستعانة بمذكرة او ورقة واحدة. أما الحكام العرب فإن أكثريتهم، باستثناء ثلاثة أو أربعة، لا يستطيعون أن يقرؤوا مجرد القراءة من خطاب مكتوب سلفا بالحرف الغليظ. ولهذا تراهم يتلعثمون في بسم الله الرحمن الرحيم ويتعثرون ويتأتئون ويأتون من فاضح اللحن وإجرامي الأخطاء ما يعاقب عليه الأطفال في المدارس الابتدائية شديد العقاب. أما في الدرس الجوهري، فقد قال ترامب اللبيب، لا فُض فوه، في اقتباس واضح من خطاب بن لادن الشهير، إن العالم قد انقسم اليوم إلى فسطاطين: عصابات الإرهاب؛ وبقية الإنسانية المتوحدة قلبا وقالبا ضد الإرهاب. وتتألف الإنسانية، في تعريفها العلمي الدقيق، من أمريكا وإسرائيل والدول الغربية، مع إمكانية فتح باب الترشح للعضوية أمام المجتهدين في النقمة على الإرهاب. أما المشكلات التفصيلية، مثل الصراع العربي الإسرائيلي، فإنها ستحل بسهولة في سلسلة صفقات لا يعلم سرها إلا ترامب ذاته. والدليل أنه قد بشر الإسرائيليين بأن محمود عباس ساع للسلام راغب فيه قبل أن يبشرهم بأن صديقه العزيز بنيامين ساع هو أيضا للسلام راغب فيه. وهكذا قضي الأمر.
وإذا كان من المعقول أن تعدّ هزيمة يونيو/ حزيران التي تحل بعد أيام ذكراها الخمسين أنكر هزيمة عربية – هزيمة قل نظيرها في التاريخ العسكري المعاصر – وإذا كان من المفهوم أن يعدّ مسلسل التشرذم والتدمير الذاتي وتمزيق الأوطان وتفتيت المجتمعات ناجما، ابتداء، عن تلك الهزيمة الشاملة التي شلت الإرادة ثم أغرت العرب بالتماس النجاة، فرادى، لدى العدو الأكبر، فإن مشهد الخزي العربي الإسلامي الشامل الذي وقع في الرياض قبل أيام يمثل، على مستوى الفعل والرمز، الهزيمة النهائية التي ما بعدها هزيمة. أمة سليبة الإرادة صلبة الذات بين حد الحماية وحد الرعاية. دولها الغنية تتسول الحماية، ودولها الفقيرة تتسول الرعاية. والجميع يبذل في سبيل ذلك ثروة الأرض وعزة النفس وما تبقى من ماء الوجه.