يرتاح عامّة الناس إلى التقليد وإلى "السير على خطى السلف الصالح" وإلى تبسيط
التصنيفات والخيارات في الأمور كلّها، حتّى في القضايا الدينية. لذلك نرى الآن
ازدهاراً كبيراً في معظم البلاد العربية لظاهرة "الفتاوى" والركون إلى ما يقوله
"المفتون" بدلاً من تشغيل العقل في فهم النصوص. أيضاً، تستسهل المؤسّسات
الإعلامية المختلفة تصنيف الجماعات والتيّارات السياسية في أحد اتجاهين: مع
وضد. لذلك نشهد حالياً توزيع المواقف السياسية بين إمّا داعمٍ لحكم أو مؤيّدٍ
لمعارضة، رغم ما في ذلك التوزيع من إجحاف لمواقف البعض المنتقدة في هذا البلد
أو ذاك للحكم وللمعارضة معاً.
فالإنسان العربي المعاصر هو الآن إنسانٌ تائه، رغم ما حصل من تقدّم في العلوم
والمعرفة. فلا هو يعرف إلى أين يسير مستقبله، ولا حتّى مصير وطنه وأرضه
ومجتمعه. هو شعور بالتّيه يسود معظم شعوب المنطقة العربية، فالحاضر مذموم والغد
مجهول. لا البلد هو الوطن المنشود، ولا الغربة هي الأمل البديل!.
الإنسان العربي يعاصر اليوم عالماً فيه هيمنة كاملة للمصادر "المعلوماتية" على
عقول الناس ومشاعرهم ومواقفهم. فالناس في زمننا الحالي، وبمختلف المجتمعات،
نادراً ما يتعمّقون في معرفة الأمور ويكتفون بالمعلومات السريعة عنها، بل أصبحت
عقول معظمهم تعتمد الآن على البرامج الإلكترونية، حتّى في العمليات الحسابية
البسيطة، وأصبحت هذه البرامج هي أدوات التواصل بين البشر بدلاً من التفاعل
الشخصي المباشر، وكذلك ربّما مع العائلة في المنزل أو مع الزملاء بمكان العمل
المشترك.
فما يصنع "رأي" الناس ويُوجّه عقولهم في هذا العصر هو "المعلومات" وليس "العلم"
و"المعرفة"، وهذا ما أدركه الذين يصلون للحكم أو يسعون إليه، كما أدركته أيضاً
القوى التي تريد الهيمنة على شعوبٍ أخرى أو التحكّم في مسار أحداثها.
هنا أهمّية "المعرفة" التي يضعف دروها يوماً بعد يوم، وهنا أيضاً أهمّية
"الحكمة" المغيَّبة إلى حدٍّ كبير. فبوجود "المعرفة" و"الحكمة" يتمّ تشغيل
العقل، حيث تخضع "المعلومات" لمصفاة العقل المدرِك لغايات "المعلومات" ولأهداف
أصحابها ولكيفيّة التعامل معها. ف"المعلومات" قد تجعل الظالم مظلوماً والعكس
صحيح، وقد تُحوّل الصديق عدواً والعكس صحيح أيضاً. لكن "المعرفة" و"الحكمة" لا
تسمحان بذلك.
أيضاً، هناك عوامل كثيرة تدفع بعض الناس إلى حبس أنفسهم في عادات وتقاليد
وأفكار متوارثة، فيعتقدون أنّهم بذلك يصونون أنفسهم من مخاطر "الآخر" أو
"الجديد" في عالم اليوم، بينما هم في الواقع يسجنون ما لديهم من معتقدات ورؤى،
فلا "الآخر" يصل إليها أو يتفاعل معها، ولا هم يتطوّرون أو يكسبون فكراً
جديداً، بل يبقون على ما هم عليه جامدين متحجّرين.
فقليلٌ من الناس من يرى احتمال الخطأ في فكره أو احتمال الإصابة في فكر الآخر.
وهذا منطلقٌ مهمّ لإمكان نجاح أي حوار بين أفكار وآراء مختلفة، إذ مع انعدام
هذا المنطلق المشترك الذي يتقبّل احتمال الصواب والخطأ في كلّ رأي، سيسير أي
حوار بين رأيين أو موقفين مختلفين في طريقٍ مسدود.
هكذا هي أيضاً مشكلة بعض الحركات السياسية العربية، أنّها لم تحسن إدراك
التعريف الصحيح للمفاهيم المتداولة أو للانتماءات الدينية والقومية، وقام هذا
البعض بخلط المفهوم الفكري والثقافي مع المضامين والمواقف السياسية، فأصبحت
أخطاء الممارسة مقرونة بمفهوم الانتماء أو الهُويّة نفسها. من أجل ذلك خرجت
مواقف سياسية تدين "الهُويّة العربية" أو هذا الاتجاه "الديني" أو ذاك
"العلماني" أو تلك الانتماءات الوطنية، بحالٍ من التعميم لكلّ ما هو يرتبط
بالتيّار "الآخر"!.
فالتوافق على فهمٍ مشترَك لمعنى ومضمون أي مصطلح فكري، والمنطلق من حوار عقلاني
منفتح، هو المدخل الأهم لأي عمل مؤسّساتي أو جهد فكري متعدّد الآراء. هذا الأمر
ينطبق حتّى على ما يندرج تحت خصوصياتٍ دينية أو إثنية قائمة داخل الوطن الواحد.
فالحلُّ لا يكون برفض "الفكر الآخر" لمجرّد اختزان "كتب تراثية" أو مفاهيم عن
تجارب سلبية حملت تسمية الفكر نفسه، فالأفكار والعقائد كلّها تعرّضت إلى تجارب
تطبيقية سلبية ومسيئة، بما في ذلك الحرّية والديمقراطية والعلمانية والقومية
والمعتقدات الدينية.
هنا أهمّية دور "الآخر" في المجتمعات العربية وبين العرب أينما وجدوا، وهذا
"الآخر" قد يكون على أساسٍ مذهبي أو طائفي أو إثني أو عقائدي وسياسي. لكن
المعيار ليس بإقرار حقّ وجود "الآخر" فقط، بل في القدرة على التعامل السليم معه
وبحقّه كشريك طبيعي في المجتمع المحلّي أو في المواطنة، وبضمان صيانة حقوقه
الكاملة كإنسانٍ متساوٍ مع الإنسان "الآخر" في كلّ الحقوق والواجبات.
الأمّة العربية تقوم حضارتها على الحوار مع "الآخر" بينما لا يفعل ذلك ناسُها.
الأمّة العربية هي مهبط كل الرسل والرسالات، وفيها ظهرت قبل الإسلام حضاراتٌ
كثيرة ورسالاتٌ سماوية. كذلك في الدين الإسلامي دعوةٌ صريحة للتّعارف بين
الشعوب ولعدم التفريق بين الرسل والأنبياء. فهي أمَّةٌ عربية مجبولة على
التعدّدية والتنوّع وعلى حقّ وجود الآخر، وتقوم روحياً على تعدّد الرسل
والرسالات، وتقوم ديموغرافياً على تعدّد الأجناس والأعراق والألوان، وحضارياً
على تجارب وآثار أهمّ الحضارات الإنسانية، بينما يسود واقع الأمَّة العربية
الآن حال التخلّف والتفرقة والفئوية والتعصّب.
فإذا فهمنا العروبة بأنها هُويّة ثقافية لا تقوم على أسس دينية أو إثنية، وتجمع
بين مختلف التيّارات الفكرية والسياسية – ومنها ما هو يُصطلح على تسميته
بالتيّار الديني وبالتيّار العلماني- فإنّ ما هو منشود، وما هو مفقود الآن، هو
"مشروع نهضوي عربي" يشترك فيه الحريصون على وحدة أوطان الأمّة العربية وتقدّمها
وتحرّرها مهما اختلفت طوائفهم الدينية ومنطلقاتهم الفكرية ومواقعهم السياسية.
صحيحٌ أنّ الديمقراطية هي حاجةٌ ملحّة وضرورية لمعالجة الكثير من الأمراض
الكامنة في الجسم العربي، لكنّها (أي الديقراطية) ليست مسألةً منعزلة عمّا
تعيشه أيضاً البلاد العربية من قضايا أخرى ترتبط بالتحرّر الوطني وبالعدالة
الاجتماعية وبالوحدة الوطنية وبالهويّة العربية.
إنّ التعامل مع المسألة الديمقراطية في المنطقة العربية لا ينفصل عن تحدّيات
الوجود الإسرائيلي والقوى الأجنبية الكبرى (الإقليمية والدولية) وما لها من
أطماع أمنية وسياسية واقتصادية، يستلزم تحقيقها إشعال الصراعات داخل وبين بلدان
الأمّة العربية.
ففي الأمَّة العربية مزيجٌ مركّب من الأزمات يحتاج إلى مزيجٍ أيضاً من الحلول.
فبناء آليات ديمقراطية وانتخابات نزيهة لا يحقّق وحده فقط العدل بين الناس، أو
يصون وحدة المجتمعات، أو يمنع التدخّل الأجنبي، أو يحرّر الأراضي المحتلّة ..
وهي كلّها حالات تعيش معظمها أوطانٌ عربية مختلفة من المحيط الأطلسي إلى الخليج
العربي. فرفض الحكومات والنظم الشمولية يقتضي الآن عربياً أفكاراً وحلولاً
شمولية.
الأمّة العربية تحتاج إلى مشروع فكري نهضوي متكامل يقوم على التلازم والترابط
بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والعروبة والعدل الاجتماعي. وبتوفّر
هذا المشروع، والمؤسّسات والأفراد العاملين من أجله، يمكن بناء مستقبل أفضل
للأوطان وللشعوب معاً. فالمشكلة ليست بتجارب النظم "الشمولية" فقط، وإنّما هي
أيضاً بالأفكار والتجارب "الاجتزائية" التي تُجزِّئ الحلول المنشودة لأمَّةٍ
جزّأها منذ قرنٍ من الزمن المستعمر الأجنبي، ويحاول ورثته الآن تجزئة المجزّأ !
وحينما تتحرّر العقول العربية من قيود تراث الماضي، وتفرز بين ما فيه من "غثٍّ
وسمين"، وعندما يتمّ تفعيل هذه العقول بحثاً عن مستقبل أفضل، ستنهض من جديد
أوطان العرب وشعوبها.
صبحي غندور"مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن