خمسون طفلاً يمنياً يموتون يومياً لأسباب يمكن تلافيها، تتعلق أساساً بنقص الغذاء والدواء ... سبعة ملايين يمني يعانون من المجاعة، وأكثر من عشرة ملايين آخرين، يقبعون بيأس على حافة المجاعة ... هكذا تقول التقارير الأممية التي ما فتئت تحذر من "الآتي الأعظم" الذي ينتظر اليمنيين في غضون أسابيع قلائل.
تدافع المانحون لتقديم العون الإنساني لليمنيين في جنيف، بعضهم أو جلهم كانوا سبباً في إيصال اليمن إلى حافة الكارثة الإنسانية الأكبر في العصر الحديث ... لكن "حميّتهم الإنسانية" لم تبلغ حتى في ذروتها، نصف ما يحتاجه اليمن من مساعدات طارئة، قدرتها الأمم المتحدة بحوالي 2.1 مليار دولار ... كل ما تم جمعه أمام شاشات التلفزة، وعلى طريقة البازارات ودور المزايدات والمناقصات، لم يصل إلى مليار دولار، من المشكوك أن يصل بكامله إلى مستحقيه، جرياً على مألوف المؤتمرات والبازارات والتجارب المشابهة.
مائة مليار دولار، كلفة إعادة إعمار اليمن، كما قدرها رئيس حكومة "الشرعية"، لا أدري من أين سيأتي اليمنيون بهذا المبلغ "الفلكي"، في الوقت الذي عزّ فيه على "المجتمع الدولي" أن يلبي حاجة اليمن للإغاثة العاجلة، إنقاذاً لأرواح الأطفال التي تُزهق مرضاً وجوعاً، إذ قضى منهم خمسون طفلاً في إثناء مداولات مؤتمر جنيف، وفيما كانت الوفود تلتهم أطايب الطعام والشراب السويسريين.
تجار السلاح، الذين أبرموا الصفقات الفلكية مع الدول المنخرطة في الحرب على اليمن والمتسببة في خرابه ومجاعته، لم يغيبوا عن بازار جنيف ... واشنطن تبرعت بـ 75 مليون دولار، وهي التي حظيت بنصيب الأسد من صفقات السلاح الفلكية خلال العاملين الفائتين، ولا يعادل هذا المبلغ، أرباح صفقة ذخائر واحدة، لملء المستودعات التي أفرغت على رؤوس اليمنيين واليمنيات ... بريطانيا كانت أكثر كرماً، وهي الشريك في قتل أطفال اليمن ونسائه، وأحد الموردين لأسلحة الموت والدمار التي أحالت اليمن إلى خرائب.
من المفروض أن اليمن دخل في مرحلة "إعادة الأمل" منذ عامين وخمسة أيام على وجه التحديد، لكن الأمل يفارق اليمنيين، ويبدو أبعد منالاً مع كل يوم يمر على هذه الحرب العبثية المدمرة، التي أكلت الأخضر واليابس ... والأخطر من كل ما تقدم، أن لا ضوء في نهاية النفق اليمني حتى الآن، سيما مع قرع طبول الحرب ونداءات "تحرير" مدينة الحديدة ومينائها اللذين يمر منهما أكثر من سبعين بالمائة من المساعدات ومواد الإغاثة، ويقطن فيهما أكثر من مليون مواطن يمني.
والحقيقة أنه أمام هول الكارثة الإنسانية المحدقة باليمن من جهاته الخمس، تتضاءل أهمية الأسئلة والتساؤلات، عن أسباب الأزمة ومجرياتها ومآلاتها ... ويصبح التراشق بالاتهامات والإدانات، أمراً يدعو للغثيان، ويصيب الضمير الإنساني في مقتل ... فالمطلوب اليوم، فوراً ومن دون إبطاء، وضع حد لهذه الحرب العبثية، وإعلان وقف شامل لكل الأعمال الحربية، وتنظيم أوسع عمليات الإغاثة للمنكوبين في وطنهم، وبعث الأمل، عن جد هذه المرة، في نفوس اليمنيين واليمنيات، وبعد ذلك، وبعد ذلك فقط، لتأخذ الحوارات والمفاوضات مجراها ... فما نفع الانتصار في اليمن، أياً كان المنتصر، فيما ملايين اليمنيين يتحولون إلى هياكل عظيمة بالكاد تقوى على الوقوف على أقدامها ... لكأنهم الأموات الأحياء الذين نراهم في أفلام الرعب والخيال المريض ... وما قيمة الانتصار إن كان سيشُيّد فوق أكوام من العظام الغضة التي لم يكتمل نموها ... أي مستقبل لليمن، إن كان جيل بأكمله، مهدد بالموت جوعاً، أو بالإعاقة والمرض والإعادة طوال حياته.
آن الأوان لهذه المأساة الإنسانية أن تنتهي ... أن الأوان لهذه الحرب المنسية أن تحظى بنصيبها من الاهتمام العالمي ... أن الأوان لأن تتحرك النخوة العربية في عروق من تبقى من العرب، إنقاذاً لأصل العرب ... آن الأوان، لكي تصمت المدافع والطائرات، وينتقل الصراع من الخنادق إلى موائد الحوار والتفاوض بين مختلف الأطراف ... آن الأوان، لوقف سياسة تصفية الحسابات و"حروب الوكالة" التي يراد لأطفال اليمن ونسائه وشيوخه، أن يكونوا وقودها الذي لا ينضب له معين ... آن الأوان، لطي صفحة النفاق الدولي، ووقف تجار السلاح المتدثرين بياقات الدبلوماسيين المنشّاة ... الوضع في اليمن، أكثر كارثية من سوريا والعراق، ومن العيب أن يُكتب على اليمنيين الموت بصمت، وأن يدفنوا من دون مراسم تشييع ولا بيوت عزاء.