اعترف جون نيكسون ضابط وكالة المخابرات المركزية الامريكية الذي حقق مع الرئيس العراقي صدام حسين بعد القبض عليه في كانون اول (ديسمبر) عام 2003 انه، أي صدام، كان من اكثر الشخصيات المؤثرة التي قابلها في حياته، وقال في كتابه الجديد الذي حمل عنوان “استجواب الرئيس″ انه كان لطيفا وجذابا ومهذبا، ولكنه اذا ما جرى استفزازه يتحول الى شخص مرعب متغطرس، فظ ونرجسي، وأشار الى انه لو استمر في السلطة لأصبحت منطقة “الشرق الأوسط” والعراق افضل حالا في ظل ما يجري حاليا.
لم اقابل الرئيس صدام في حياتي، باستثناء مصافحة عابرة في مؤتمر للقمة العربية في ديسمبر عام 1979 في تونس، ان لم تخني الذاكرة، وكنت في حينها صحافيا مبتدئا، ولكن ما لا انساه مطلقا انه خصني، عندما كنت رئيسا لتحرير “القدس العربي”، بخمس رسائل كتبها بخط يده كانت الأولى في أواخر نيسان (ابريل)، عام 2003، أي بعد احتلال العراق مباشرة، قال في الأولى انه كتبها على ضوء شمعة، وخاطب فيها الشعب العراقي “العظيم” وماجداته، والأمة العربية بأسرها، معلنا انطلاق المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي، مذكرا بإرثه المقاوم البطولي، ومؤكدا انه، أي الشعب، سينتصر على هذا الاحتلال طال الزمان او قصر.
***
حملات التشكيك في صدقية هذه الرسائل توالت، من قبل بعض “العملاء” الذين يعملون تحت راية الاحتلال الأمريكي في لندن وغيرها، وينفذون اجنداته، تماما مثلما يحدث حاليا على أوساط التواصل الاجتماعي من قبل عناصر تابعة للجيوش الالكترونية، ولكن تحقيقا حولها اجرته صحيفة “الصنداي تايمز″ البريطانية (توزع مليون ونصف المليون نسخة أسبوعيا) من قبل خبراء في الخطوط اكد انها للرئيس صدام وبخط يده.
لا نحتاج، مرة أخرى، الى المستر نيكسون، رجل المخابرات الامريكية لكي يقول لنا ان المنطقة والعراق سيكونان افضل لو عاش الرئيس صدام، لسبب بسيط، وهو ان الإطاحة به، واعدامه بالطريقة التي شاهدناها، كان حجر الاساس للمخطط الأمريكي الإسرائيلي لاغراق المنطقة في الفوضى الدموية، واشعال نار الفتنة الطائفية والعرقية وتفتيت وحدتها الديمغرافية والجغرافية.
مخطط اذلال الامة العربية، وانهاك جيوشها الوطنية او حلها، والتدخل عسكريا في شؤونها، لا يمكن ان ينجح في ظل عراق قوي، بجيش عملاق، وقاعدة علمية، وتعايش بين جميع مذاهبه واعراقه ودياناته، في ظل مشروع وطني يرتكز على عقيدة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وليس صدفه ان تكون كل من ليبيا واليمن وسورية، وجميعها دول حاربت الاستعمار وحققت التعايش هي الهدف بعد العراق.
صديق عزيز (عراقي) عاد للتو من العراق، ومعروف بمواقفه العروبية، ولم يكن يوما مؤيدا لصدام حسين، وكان اقرب الى الامام الخميني وثورته، وما زال، اقسم لي ان حكام العراق الجدد لم يبنوا سدا، ولا جسرا، ولا جامعة، ولا مسرحا او دار سينما، وان الطائفية “البشعة” باتت هي اللغة السائدة لهم، والمتحكمة بجميع سياساتهم وممارساتهم.. واقسم مرة أخرى ان قادة في الحشد الشعبي ترحموا امامه على الرئيس صدام حسين وعهده، ناهيك عن العامة، وقال ان ما يجري في العراق حاليا لا يمكن ان يبني عراقا موحدا بهوية وطنية جامعة، واختتم حديثه بالقول “من يحكم العراق ليسوا رجال دولة، جاءوا من أحزاب دينية، لا يعرفون كيف يديرون بلدا عظيما مثل العراق، وقضوا كل حياتهم في المعارضات، وهم الآن متقاتلون فيما بينهم على المحاصصة والمناصب والأموال، وغارقون في ابشع أنواع الفساد والافساد”.
***
نسأل سؤالا بسيطا: هل لو كان صدام حسين ما زال في الحكم يمكن ان تجد بذرة “الدولة الإسلامية” او “داعش” التربة الصالحة والغنية للنمو والسيطرة على نصف العراق، وتحول البلد الى جحيم من المتفجرات والقتل والدمار؟
الرئيس صدام حسين ربما كان “طاغية” يحكم بالحديد والنار، وقتل الآلاف من خصومه، ولكنه لم يكن طائفيا على الاطلاق، ووقوفه شامخا امام المقصلة مرددا الشهادتين، وهاتفا باسم الامة العربية، ومؤكدا على تحرير فلسطين القضية العربية والإسلامية المصيرية، يؤكد حقيقة معدن هذا الرجل، واخلاصه لقيم ومبادىء امته وعقيدته.
حبل المشنقة الذي التف حول عنقه وسام شرف له وارثه، ووصمة عار للذين يحتفظون به، ويلفونه حول عنق تمثال له في صدر بيوتهم، ونكتفي بهذا القدر تأدبا.
عبد الباري عطوان