في الأسبوع الفائت، تزلزلت الأرض في عالم السياسة، إذ اختار الشعب الأميركي دونالد ترامب، الرجل الثائر والفوضوي، رئيساً له، فاهتزت الأسواق المالية، وأصيب العالم كله بذهول. لقد كانت استطلاعات الرأي كلها تتوقع فوز هيلاري كلينتون، السيّدة الراقية وصاحبة التاريخ الطويل في ممارسة السياسة. فكيف كان ذلك؟ ولماذا حصل ما حصل؟
إنه الحلم. الحلم بالتغيير. الحلم بأن هناك شيئاً وراء الأفق أفضل من الأشياء التي تتراءى أمامنا. لقد وعد الرئيس أوباما شعبه بالتغيير. وفي طريقه الى البيت الأبيض علت هتافات مناصريه. "أنا قادرٌ. نعم، أنا قادر" إلا ان الرجل نفسه لم يكن قادراً. ولم يأت التغيير. لم يرق أوباما الى مستوى أحلامه، ولم يصعد بأميركا الى قمة الجبل كما أراد. وها قد جاء اليوم رجل آخر، من نوع آخر، يرفع راية التغيير، ويقول إنه قادر على صنعه. لم يأت هذا الرجل من عالم السياسة بل جاء من عالم المال. ولم تكن سيرة حياته، سيرة رجل عظيم. كان تاجراً. ولم تكن أحلامه في سبيل خدمة الآخرين، كانت أحلامه كلها تصب في خدمة شخصه. لم يكن مرشّح حزبه الفعلي، فمعظم أقطاب حزبه تنصّلوا منه. لم يملك رؤيا سياسية واضحة لمستقبل أميركا، ولم يكن في الكلام على مستوى حضاري يليق بالقائد الرئيس. وعلى رغم كل ذلك أخذ هذا الرجل حزبه ومناصريه الى النصر وأصبح اليوم الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية.
لم تكن هزيمة الحزب الديموقراطي هزيمة لشخص هيلاري كلينتون بقدر ما كانت هزيمة لشخص الرئيس أوباما وطاقمه السياسي. فهناك من يعتقد أن الرئيس لم يكن صادقاً في وعوده، ولم يكن ناجحاً في سياسته الداخلية. وأما في السياسة الخارجية، فإن الأميركيين يجهلون الكثير عنها، لكنهم يعرفون أن العالم ينظر الى رئيسهم كقائد ضعيف وأن هيبة الولايات المتحدة قد انحدرت الى الحضيض في عهده. وفي هذا المجال، نجح دونالد ترامب في رسم صورة لنفسه كرجل قوي، واثق من نفسه، قادر على اتخاذ القرارات المصيرية بعكس أوباما الخائف دائماً والمتردّد دوماً. وسيكون ما يعتبره أوباما أهم انجاز في عهده، وهو مشروع أوباما للعناية الصحية، الضحية الأولى للعهد الجديد اذ أن ترامب وفريق عمله يعتبران هذا المشروع خدعة كبيرة. هذا في الداخل. أما في الخارج، فسيحترم الرئيس الجديد الاتفاق النووي الذي وقع مع ايران، إلا أن ايران لن تكون على لائحته للدول الصديقة.
والسبب الثاني لهزيمة الديموقراطيين هو شخصية هيلاري. هيلاري الإنسان. الإنسان فيها مجمّد. فمن الصعب أن تصل الى حقيقتها. ومن الصعب أن تعرف بيقين من هي! إذا عانقتها، لا يمكنك أن تعانقها كلها. يبقى دائماً شيء منها وراء ذراعيك. أعرفها عن كثب، إذ أنني عملت معها في السنتين الأوليين من عهد زوجها. يومها كانت رئيسة للجنة المسؤولة عن تطوير برنامج العناية الصحية. فهي مترددة، متلوّنة يصعب عليك أن تحدد أين تقف من الأمور. وهناك شك كبير في مصداقيتها، فقلما يصب كلامها في قلب الحقيقة، والحقيقة عندها هي ما يثمر أصواتاً انتخابية ومصالح شخصية. إنها صلبة وقوية، لكن قوتها ليست بالضرورة لخدمة الضعفاء.
والسبب الثالث هو الوضع الاقتصادي. فالاقتصاد هو عصب الحياة الأميركية. كل الأمور تدور في فلكه. وهنا تكمن قوة ترامب. فهو رجل مال وأعمال ناجح. يتهم الرئيس الجديد الرئيس الحالي بالفشل في هذا المضمار. فالنمو الاقتصادي بطيء. وفرص العمل ضئيلة، والشركات الأميركية الكبيرة هربت الى خارج الولايات المتحدة بسبب السياسات الضريبية والمالية. ويعد الرئيس المنتخب الاميركيين بتخفيف الضرائب عنهم. وقد نجح في الوصول الى عقول وقلوب العمال الأميركيين البيض الذين يخافون أن تصبح بلادهم، بلاداً لغيرهم.
والسبب الرابع هو الارهاب في العالم والأمن في الداخل الأميركي. فالأميركيون يشعرون أنهم مهددون من الخارج وفي الداخل. ذلك أن العنف في المدن الأميركية زاد عنفاً. والرئيس أوباما في نظرهم لم يكن على مستوى التحدي الذي فرضه الإرهاب، فلم يكن قائداً شجاعاً للولايات المتحدة، ولا زعيماً ذا هيبة للعالم الحر. ويعتبر ترامب أن الإرهاب كان نتيجة حتمية لفشل السياسة الأميركية، كما كان نتيجة حتمية للتطرف الديني الاسلامي، ويجب أن ننتظر لنرى ما هو موقفه بالنسبة الى الإسلام كدين، والى المسلمين كبشر، ولنرى كيف سيحارب الإسلام المتطرّف. فمن الأكيد أن التطرّف لا يحارب بالتطرّف. هذه النقطة بالذات ستحدّد أي نوع من القادة سيكون هذا الرئيس. أما بالنسبة الى الشرق الأوسط، فواضح أنه سيكون متعاطفاً مع اليمين الاسرائيلي وغير متعامل مع اليمين الإيراني. وهو لن يطلب من الرئيس بشار الأسد أن يتنحّى عن الحكم، كما أنه لن يتّكل على السعودية في حربه ضد "الدولة الإسلامية".
وما يهمنا نحن هو لبنان. بالطبع، إن الرجل لم يتمكن بعد من بلورة رؤيا واضحة للقضية اللبنانية ولقضايا هذا الشرق. لكن الأكيد هو أن الطريق الى هذا الرئيس معبّدة. لقد عبّدها أميركيون من أصل لبناني. من أقرب الناس اليه طوم براك. فهو صديقه وشريكه وأكبر الداعمين لحملته الانتخابية. وبراك رجل هادئ ومتّزن وشخص يفرض الاحترام ولا أشك لحظة في أن نفوذه في البيت الأبيض سيكون قوياً. هذا الرجل يحمل لبنان في قلبه ويفتخر بأن أهله جاؤوا من أرضنا. وكنا قد اشتركنا في افتتاح مؤتمر الطاقة الاغترابية الذي انعقد في بيروت في أيار 2015 والذي دعا اليه وزير خارجية لبنان. ولكن يجب ألا ننسى إن التعامل مع أميركا، كي يكون جدياً، يجب أن يكون على مستوى الدولة. وكلنا آمال أن ترتفع الدولة في لبنان الى مستوى الدولة في هذا العهد الجديد. على الدولة اللبنانية أن تحدّد ماذا تريد. فالذي لا يعرف ماذا يريد، لا يمكن أحداً مساعدته. في حوارنا مع أميركا يجب أن نبتعد عن المطالب الفضفاضة والكليشيات التقليدية ونحدّد مطالب واضحة تؤمّن لنا السلام في بلادنا، وتحمي حدودنا وتعمل على عودة اللاجئين، كل اللاجئين، الى بلادهم.
وماذا عن الشعار الذي رفعه هذا الرئيس؟ العودة بأميركا الى العظمة.عظيم هذا الشعار، لكن العظمة لا يصنعها رجال عاديون، يصنعها رجال عظام. هل هذا الرجل قادر على الارتفاع الى العظمة؟ سنرى.