يستطيع بنيامين نتنياهو أن يفتح أبواب حكومته وبيته ويطلب من العرب طبق «المنسف» لتوزيعه احتفالاً بالنصر. الرجل ألقى خطاباً استثنائياً قبل أيام من على منبر الأمم المتحدة كادت معه «الأسرة الدولية» الكريمة تقارع في تصفيقها ما صفق له قبل أشهر أعضاء الكونغرس الأميركي، رغم خصومته آنذاك مع باراك أوباما. كان خطاباً مدروساً وعميقاً ومتماسكاً ومؤثراً.. وزاخراً بالأكاذيب.
كيف لا يصل نتنياهو الى نيويورك منتشياً، وهو التارك خلفه حرائق العرب ودمارهم وخوفهم وقلقهم وفتنهم وتمزقهم تقدّم له النصر على طبق من ذهب؟ كيف لا يسكر على دمنا واقتتالنا ودمارنا؟
ولأن كثيراً من العرب معتادون على عدم القراءة، أو لأن معظمهم كان في سرِّه يريد التصفيق وقوفاً للحليف الجديد، فقد ينفع التذكير ببعض ما قاله نتنياهو لعلنا نعتبر، وهذا أبرز ما جاء في خطابه:
إن الكلمة التي سألقيها سوف تُدهشُكم، ذلك أن إسرائيل ينتظرها المستقبل الباهر في الأمم المتحدة، وهي صارت تقيم الآن علاقات دبلوماسية مع أكثر من 160 دولة أي ما يضاعف تقريباً عدد هذه الدول عندما توليتُ هنا منصب سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة قبل نحو 30 عاماً.
سألتقي في وقت لاحق من هذا اليوم زعماء 17 دولة إفريقية لنبحث كيفية استفادتهم من التقنيات الإسرائيلية لإنجاح جهودهم الرامية إلى إحداث الثورات في دولهم. هكذا تتغيّر الأمور في أفريقيا. كما أن النظرة إلى إسرائيل في كل من الصين والهند وروسيا واليابان قد تغيّرت أيضاً (لاحظوا الصين وروسيا... وضعوا بعدهما كثيراً من علامات التعجب)..
إسرائيل تسيطر حالياً على ٢٠ في المئة من مجموع الاستثمارات العالمية الخاصة في مجال أمن الفضاء الإلكتروني. أي أنها ضاعفت استثماراتها في هذا المجال ٢٠٠ مرة، ونجحت في تدوير مياه الصرف الصحي بنسبة ٩٠ في المئة، بينما الدولة الثانية بعدها على مستوى العالم لم تنجح في تدوير أكثر من ٢٠ في المئة. (نحن نجحنا في تدوير صرفنا الصحي على كل الأنهر والبحار والبيوت لتعبر بين أكوام النفايات... عال).
كل ما تقدّم مهم، لكن الأهم هي القنبلة التي فجّرها نتنياهو هذه المرة والتي اعتبر أنها ستدهش العالم المنصت اليه وتتعلق بالعرب. قال بلهجة المنتصر:
أما الآن فألقي عليكم مفاجأة من العيار الأثقل، ذلك لأن التغيير الأكبر في الموقف من إسرائيل يجري في مكان آخر وتحديداً في العالم العربي. ما زالت معاهدتا السلام اللتان وقعناهما مع مصر والأردن تشكّلان ركيزة أساسية من الاستقرار في الشرق الأوسط المتقلب. غير أنه يجب أن أؤكد لكم ـ لأول مرة في حياتي ـ أن هناك دولاً كثيرة أخرى في المنطقة باتت تعترف بأن إسرائيل ليست عدواً لها. إنها تعترف بأن إسرائيل هي حليفتها. إن أعداءنا المشتركين هم إيران وداعش.
ليس مهماً حجم الأكاذيب التي ساقها نتنياهو ليقدم إسرائيل على أنها حمامة سلام وأنها تداوي الفلسطينيين وترعى أطفالهم كما لم تفعل الأم تيريزا في تاريخها.
ليس مهماً أيضاً تبريره التعاون مع المعارضين والمسلحين السوريين بدواعٍ طبية، حيث قال «إن إسرائيل نفسها هي التي قدّمت العلاج الطبي في مستشفياتها لآلاف من الجرحى السوريين، لا بل إنني أوعزتُ بإنشاء مستشفى ميداني بمحاذاة حدودنا مع سوريا في هضبة الجولان».
إنما الأهم هي الخلاصة التي يريدها نتنياهو من كل هذا الخطاب، فبعد تقريعه الوقح للأمم المتحدة وقوله إن دورها ضد إسرائيل انتهى، وصل الى زبدة الكلام الجازم: «إذا كانت هناك قضية واحدة لن أتفاوض حولها أبداً فما هي إلا قضية حقنا في وجود الدولة اليهودية الواحدة الوحيدة».
واللافت للنظر أنه ما إن أنهى جملته هذه حول التهويد الكامل حتى هبّ معظم الحضور يصفقون له.. وبعض أركان النظام العربي صفقوا في سرهم.
وصف نتنياهو هذه العلاقات الجديدة لإسرائيل بأنها «ليست أقل من ثورة». قال بلهجة الواثق تماماً من المستقبل: «ان فترة قيام سفراء الدول لدى الأمم المتحدة بإدانة إسرائيل تلقائياً تقترب من نهايتها بصورة مؤكدة مهما كانت بطيئة».
يستطيع نتنياهو الاحتفال بالنصر وتوزيع الحلوى. اتفاقيات أوسلو ضاعفت سرطان المستعمرات ـ المستوطنات 600 مرة. الإرهاب قدّم له هدية هائلة لزرع إسفين الفتنة السنية ـ الشيعية. المقاومة الفلسطينية محاصرة بالنظام العربي وإسرائيل، والمقاومة اللبنانية صارت «إرهابية». فهل نعجب لو أن النظام العربي جاءه قريباً حاملاً سيف العروبة والنخوة والشهامة يقدمه له احتفالاً بالتهويد الكامل والقضاء على ما بقي من فلسطين؟
قد يفرح بعض العرب بأن ينصرهم نتنياهو على «العدو المشترك» إيران، كما قال في خطابه. لكن الأكيد ان إسرائيل لا تحبّ السعودية اكثر من ايران ولا مصر أكثر من سوريا، ولا الأردن أكثر من العراق. وهي لا تحب محمود عباس أكثر من حماس، ولا مفتي الأزهر أكثر من الأب المناضل عطالله حنا. نحن جميعاً أعداؤها. هي فقط تعرف كيف تستفيد من الفتن والانقسامات وأوهام بعضنا بالانتصار على البعض الآخر. الآن نفهم أن «ربيعنا العربي» كان له هدف وحيد هو «ثورة نتنياهو العربية».
متى نصحو؟ يا حيف!