نعم موريتانيا لكل من لم يزرها....حكاية مبهمة...وصورة مثيرة للتساؤلات..وغواية قديمة ! ،لكنني زرتها وأمضيت فيها ما يكفي لأحس بالرمل يذوب تحت قدمي .وباللغة حين تهمس لي بين الأزقة...زيارة تكفي لأقول أن موريتانيا هي من يعطي شمسنا الاسلامية والعربية القوة للإشراق في صبح جديد بعد أن قضت ليلتها مستجيرةً بشنقيط... بلادٌ لا يبهرك فيها سوى الإنسان...وأكاد أجزم أن أجمل المدن عمرانا لو نقلت إليها..لطغى عليها وهج الموريتاني..بجمال أخلاقه وكرمه وعلمه وبتواضعه..
في موريتانيا تصيبك حمى العروبة وسماحة الإسلام...تتوغل فيك ودون هوادة لحظات الدهشة.. يصيبك في موريتانيا ما يسمى بالصدمة الثقافية..
في موريتانيا إذا لم يقابلك شاعر...صافحك راوي!..الكل في موريتانيا يعيش في جو متخم بالادب والشعر..الطفل المرأة الرجل بائع القماش سائق التاكسي الحلاق المؤذن....لاتسمع أذنك إلا ما قاله الشعراء والأدباء والمثقفون...القرآن تراه عياناً في صدورهم بأكثر من قراءة...حفظ القرآن ليس تميزاً هناك..الغالبية يحفظونه ، قليل ما تجد إذا دخلت للمسجد من يمسك بمصحف..الكل يقرأ من الذاكرة..الوزير والراعي في الصحراء...تكاد تسمع الترتيل حتى في الرياح التي تمر!. موريتانيا التي زرت هي فعلاً ساقية العلماء ومجيرة الشمس.
نزلنا إلى مطارها مجموعة من الشعراء العرب يمثلون كافة التوجهات من الشاعر التقليدي الى الشاعر الحديث..من مختلف بقاع الوطن العربي، من المشرق والمغرب..يحمل كل منا تجربته ونرجسيته وفكره..وبدون أي مقدمات ذبنا...انصهرنا في بوتقة الدهشة أصبحنا وبقدرة قادر دون أن نشعر نسمعهم..وبدل أن يكون الموريتانيون متلقين أصبحنا نحن!..سحرتنا بكل معاني الشعر والادب والثقافة هذه الموريتانيا ، هذه الشنقيط الساحرة..تلقفت عصاها كل حبالنا وعصينا وآمنا بالرغم من فرعونية نرجسيتنا الشعرية بيقين الثقافة الموريتانية.
ماذا أقول إن قلمي يعجز عن وصف هذه الدولة التي تقع في أقصى وطننا العربي ويقع فيها أقصى ماتصبو إليه مجتمعاتنا الثقافية والأدبية..
هناك إكتشفنا أن نهضة الأدب والشعر العربي لم تظهر مع البارودي وأحمد شوقي وحسب بل ظهرت في موريتانيا لشعراء يكتبون أجمل الشعر العربي المتناسب مع ذلك الزمان بلسان عربي مبين وبسبك مبهر وذلك قبل التاريخ الذي تعاقد عليه أهل المشرق بمئات السنوات!.
لا بد لكل محب للغة والأدب والشعر من الورود إلى ساقية شنقيط..فهناك سيعلم أن الله حق! وأن اللغة العربية في موريتانيا مصانة لا يمضغها متكلف ولايبصقها متغرب..طاهرة كأرواحهم عميقة كتاريخهم وقوية كعقيدتهم. المراهقون في موريتانيا تمر سنواتهم بين دهاليز اللغة وبين أسماء كسيبوية وابن جني..بين قراءات عاصم وورش...وبين أروقة الفقه.. وشعر المتنبي وأبي تمام..عندما تلقي شعراً في موريتانيا إياك واللحن في اللغة أو كسر الوزن...فذلك يحزنهم كثيراً..فالأذن الموريتانية ليست متعودة على الزحافات فما بالك بالكسور! . أياك والتحدث عن موضوع في الشعر أو اللغة أو حتى القرآن إلا إذا كنت مطلعا جيداً عليه، ولو كان هذا الحديث أمام راعي أبل تسأله عن الاتجاهات في الصحراء..فلا تستبعد أن يكون أعلم منك في هذا!
ورغم كل هذه التنبيهات فالموريتاني فيه من دماثة الخلق ما يخفي به إحساسه بجورك على اللغة..مؤدب في ردوده ولبق في التعامل مع الآخر بما كان يتعامل به السلف الصالح دون إفراط.
كتبت هنا عن موريتانيا بما رأيت وأحسست..لم أحشو المقال بالمعلومات وحاولت فقط أن أسرد ما كانت تجيش به نفسي منذ غادرت ذلك البلد المبارك ، ومنذ ان فارقت عيناي أحفاد يوسف بن تاشفين وأبوبكر بن عمر لمتوني.
ولم أجد بيتاً أجمل من بيت المتنبي وأنا في طريقي إلى مطارهم مغادراً:-
يامن يعز علينا أن نفارقهم....وجداننا كل شيء بعدكم عدمُ