في اللحظة الاولى التي بدأت فيها اخبار الانقلاب العسكري في تركيا الذي وقع ليلة الجمعة الماضي، وصل الى شعوب منطقة الشرق الاوسط الذين كانوا يتثأبون استعدادا للنوم، انقسمت الآراء بين من يصلي لنجاح هذا الانقلاب، ويرقص فرحا لحدوثه، وبين من وضع يديه على قلبه، وانخرط في الدعاء لفشله، كل حسب موقفه من الرئيس التركي، وتدخلاته العسكرية والسياسية.
الرئيس اردوغان قد يكون تجاوز مرحلة الخطر للوهلة الاولى، ولم يواجه مصير حليفه وصديقه الرئيس المصري “السابق” محمد مرسي، ولكننا نختلف مع الكاتب والصحافي التركي المخضرم جنكيز كاندار في قوله، بأنه قد يصبح “بوتين” الثاني، لانه يسير على خطاه لعدة اسباب، لان الرئيس اردوغان يختلف كليا، وجذريا، عن بوتين، لان الاول جاء من مدرسة اسلامية، والثاني تخرج من اكاديمية جهاز المخابرات الروسي “كي جي بي”، وان كانت هناك قواسم مشتركة بين الرجلين، وابرزها، انهما، وايا كان موقعهما، سواء في منصب رئيس الوزراء، او رئيس الجمهورية، فان السلطة المطلقة تنتقل معهما، ويظل دور الآخرين حولهما ثانوييا، او هامشيا، ومن يعترض، مثلما هو حال كل من عبد الله غل، واحمد داوود اوغلو، فان عليه ان يشرب من مياه البوسفور، او البحرين الابيض والاسود.
ما فعله الرئيس اردوغان بالامس، اي اعلان حالة الطوارىء والاحكام العرفية لمدة ثلاثة اشهر، لم يفعله صديقه الرئيس مرسي، ولا حتى سلفه (سلف مرسي) حسين مبارك، مما يؤكد استمراره في سياسة القبضة الحديدية التي تبناها منذ اليوم الاول للانقلاب.
هذه الخطوة جاءت بعد ساعات من انعقاد مجلس الامن القومي، مما يعني ان القرار جرى اتخاذه اثناء جلسة الانعقاد ليلة امس الاربعاء، ومن المؤكد انها لم تكون الوحيدة، ولا بد من ان هناك قرارات، او خطوات اخرى في الطريق.
وفق الدستور التركي، يتم اعلان حالة الطوارىء اذا حدثت كارثة طبيعية، او في حالات الشغب، والتمرد والنزاعات المسلحة، مثل الحروب الاهلية، ومع بدء حالة الطوارىء يبدأ العمل وفق الاحكام العرفية التي تعني منح السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة، مثل فرض حظر التجول، وتنفيذ اعتقالات وتعليق السلطة التشريعية (البرلمان)، واصدار قوانين جديدة.
الرئيس التركي بدأ في تنفيذ الاحكام العرفية قبل اعلان حالة الطوارىء بخمسة ايام، حيث طرد او اعتقل اكثر من ستين الف شخص من القضاة، ورجال الامن، والعسكريين، والمدرسين، والاكاديميين، ومنع صحافيين واستاتذة جامعات من السفر، كل هذا تحت ذريعة القضاء على الحركة الانقلابية، و”تطهير” البلاد من عناصرها.
الشعب التركي ومعه احزاب المعارضة، ونوابها وقادتها تظاهروا للتعبير عن رفضهم لحكم العسكر ومعارضته، حرصا منهم على الديمقراطية، والدولة المدنية، فقد جربوا اربعة انقلابات واكتوا من نارها، ولا يريدون العودة الى هذا “الكابوس″ مرة اخرى، فالديمقراطية السيئة افضل بكثير من الحكم العسكري، لا هذه الديمقراطية خاصة في السنوات العشر الماضية، حققت لهم الامن والاستقرار، والرخاء الاقتصادي، قبل ان تتدهور الاوضاع بعد التدخل عسكريا في الازمة السورية.
الديمقراطية التي خرجت الملايين للحفاظ عليها تواجه تحديا هذه الايام، لانها تتآكل بشكل تدريجي من خلال حملات الاعتقال والتطهير والاحكام العرفية، وحالة الطوارىء التي يمكن ان تتمدد لاشهر، وربما سنوات، حتى ان مجلة “الايكونوميست” البريطانية قارنت حملات التطهير هذه بنظيرتها التي اجراها الحاكم العسكري الامريكي للعراق بعد احتلاله عام 2003، وسياسة “اجتثاث البعث” التي طبقها، وسّرح من خلالها، مئات الآلاف من العسكريين ورجال الامن التابعين للنظام السابق.
مجلة “الايكونوميست” لم تقل ان هؤلاء الجنود المسرحين، ومعظمهم من ضباط الحرس الجمهوري، وكذلك اعضاء حزب البعث وقياداته الامنية، كانوا نواة المقاومة العراقية للاحتلال الامريكي اولا، ولتنظيم “الدولة الاسلامية” و”جبهة النصرة” ثانيا.
نحن هنا لا نقارن بين الجنرال بول بريمر الحاكم العسكري للعراق والرئيس المنتخب رجب طيب اردوغان، الذي فاز في اربع انتخابات حرة ونزيهة على مدى 14 عاما من حكمه، فالظروف مختلفة كليا، وانما نتساءل ونحذر، ونحاول قراءة المستقبل، وتحليل الخطوات الحالية، والنتائج التي يمكن ان تترتب عليها.
لا يخامرنا ادنى شك من ان الاولوية المطلقة للرئيس اردوغان هي “اجتثاث” انصار الداعية فتح الله غولن، المقيم في بنسلفانيا الامريكية، الذي اتهمه بالارهاب، والوقوف خلف الانقلاب الفاشل، ولكنها مقامرة خطيرة غير مأمونة العواقب، لان علينا ان نتذكر دائما ان الرئيس اردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي ينتمي اليه، فاز بنصف اصوات الناخبين، مما يعني ان النصف الآخر لم يصوت له ومعسكره، وهذا الانقسام هو مصدر الخطر.
الرئيس اردوغان قال في مقابلته الاخيرة مع قناة “الجزيرة” التي بثت امس “ربما تكون هناك دولا وقفت خلف محاولة الانقلاب، وسيأتي الوقت لكشف جميع المتورطين” في تلميح الى الولايات المتحدة ودول عربية ايضا.
ما زلنا نعيش الدقائق الاولى في المشهد التركي بمقاييس التاريخ وحساباته، ومن المؤكد ان هناك مفاجآت عديدة في اكمام “الساحر” اردوغان، سنتعرف عليها في الايام والاشهر المقبلة، ولكن المؤكد ان التحديات كبيرة، وتتسم بالكثير من الصعوبة والتعقيد.
المثل النموذج بالنسبة الى الرئيس اردوغان، اي نظيره الروسي بوتين، استطاع ان يعيد لروسيا قوتها وعظمتها، ويفرضها كقوة عظمى مجددا، فهل يحقق الرئيس اردوغان الشيء نفسه، ويعيد لتركيا عظمتها الامبراطورية؟
الاجابة في رحم المستقبل
عبد الباري عطوان