قبل سنوات وصلتنا دعوة الى أنقرة ، وحين التقينا القيادات التركية ، قاموا بتشجيعنا على دعم " الربيع العربي " والوقوف ضد الانظمة والجيوش العربية للاطاحة بالحكومات العربية الفاسدة التي تمنع الحريات وتسدّ اّفاق الشباب . وحينها قمت بسؤال رئيس البرلمان التركي ( يا بيك ، هل هناك اية امكانية ان يمتد الربيع العربي الى تركيا ؟ ) فغضب الرجل ورد باجابة قاسية مضمونها أن الربيع العربي يبقى في العالم العربي وأن تركيا عصيّة على مثل هذه الافكار . ولو أنني أجبته بسؤال اّخر كان سيطردني من الجلسة .
ولكن " خيرات " الربيع العربي كانت وافية ونافذة ، ووصلت الى أمريكا واوروبا وافريقيا . وصرت ترى اطلاق النار في شوارع امريكا بشكل لا يمكن ان يصدق ، ويجري قتل الشرطة في وضح النهار . والولايات المتحدة التي كانت تردف الفوضى المنظمة بلميارات الدولارات تقف اليوم حائرة ، حتى أن المرشح ترامب امتدح الرئيس العراقي السابق صدام حسين وكيف استطاع ان يمنع التمرد . فيما تقف اوروبا التي دعمت الربيع العربي وغنّت له ، تقف اليوم في بحيرة من الدماء والمهاجرين ، ولن تجد اي زعيم اوروبي يجرؤ اليوم على قول ما جاهر به قبل سنوات .
تركيا التي لعبت لعبة مزدوجة مع داعش والربيع العربي ، تورطت تماما وبشكل فظ وعنيد في الدم السوري والعراقي والكردي . ما تسبب في تراجع غير مسبوق في شعبية حزب العدالة والتنمية ، وصولا الى فوز طفيف له بالانتخابات الاخيرة . كما تورطت مع روسيا في موقف حاد وغير مفهوم فتسبب ذلك في خسائر اقتصادية هائلة ، وعادت تركيا مرتبكة لتوقيع مصالحة مع تل أبيب ، واعتذر اردوغان الى بوتين . والاهم العلاقة السيئة بين تركيا وبين مصر بسبب رفع اردوغان شعار رابعة وقد وصلت العلاقة بين تركيا ومصر الى أسوأ ما يمكن ان تصل اليه ، ولم يتبق سوى ان تعلن الدولتان الحرب على بعضهما ( هناك حرب اعلامية حقيقية بينهما ) . ولا داعي لنذكر تجربة اليمن وكيف تنحر من الوريد الى الوريد لمجرد ان الاخرين سمحوا لانفسهم بالتدخل في قرار اهلها .
المشهد الأكثر ألما في الملف التركي كان انتهاء العلاقة بين رجب طيب اردوغان وبين صديق عمره ورفيق حزب داوو اوغلو . فقد قام اردوغان بعزل اوغلو و" طرده " من الحكم . وفي نفس الوقت الذي يمتدح البعض نزول الشعب التركي الى الشوارع للوقوف في وجه الانقلابيين ، لا يزالون هم انفسهم لا يسمحون لعشرات ملايين المصريين ان ينزلوا الى الشوارع ويغيّروا نظام الحكم !!!!
الانقلاب الذي حدث أمس أظهر مدى النفاق والطفيلية في العلاقة بين الدول والاحزاب ، وترى في العديد من العواصم ، أن الذين كانوا أمس ليلا لا ينبسون ببنت شفة من شدة الخوف والهلع على حليفهم اردوغان ، أفاقوا يتبجحون باحداث التاريخ وانهم انتصروا . اما الذين فرحوا وغبطوا الليلة الماضية فقد أصبحوا يباركون لرئيس الوزراء علي يلدريم وللرئيس اردوغان فشل الانقلاب !!
شعوب مريضة بالقلق والخوف ، وأحزاب غبية بالطمع والنفاق ، وأنصار من الهوجاء والمتطرفين ، يتباهون بما حدث وبما لم يحدث في تركيا ، وينسون قضاياهم وشعوبهم . وقد لفت انتباهي المقارنة بين ما حدث في مصر وبين ما يحدث في تركيا . فقد وضعت تركيا كل ثقلها في التدخل بالشؤون العربية بشكل حاد ودموي ، ووقع العداء مع الجيش المصري . تماما مثلما قام بعض العرب بالرقص في الساحات وتوزيع الحلوى عند فوز الرئيس مرسي والاخوان في مصر ،وتورّطوا في التدخل بأحداث ميدان رابعة فانقلب المشهد على رؤوسنا وندفع الثمن لغاية اليوم واغلاق معبر رفح خير دليل على ذلك .
والاغرب اننا اليوم نعيش كل الازمة التركية بشكل مريض ، ونعاتب بعضنا اذا نجح الانقلاب واذا لم ينجح ... وترى الدهماء فرحون انه لم ينجح ، وترى الأكثر غوغائية فرحون انه نجح . وكلاهما مجرد كائن طفيلي عربي لا قيمة له في القرار التركي .
أكثر ما يلفت انتباه المراقبين موقف احزاب المعارضة التركية ، وكيف رفضت الانقلاب ، فهي التي ستقرر وليس الاحزاب العربية التي تباهي او تبكي لما يحدث في تركيا .
خيرات الربيع العربي وصلت تركيا ، والمجتمع التركي منقسم الى نصفين ، نصف قومي يشرب من أفكار مصطفى اتاتورك ، ونصف اسلامي يقوده حزب التنمية والعدالة . وكلاهما علماني . والمؤيدون العرب لاردوغان يجاهرون بالعداء للعلمانية !!! والمعجبون بمصطفى أتاتورك يعرفون انه مؤسس تركيا الفتاة التي تركت الوطن العربي جريحا ذليلا وفريسة سهلة للاحتلال الفرنسي والاحتلال الانجليزي !!
ان الربيع العربي فايروس ، اخترعه غير العرب ، ولكنه انتقل اليهم .. وانها مسألة وقت حتى نشاهد نفس الفلم في دول عربية اخرى دعمت الربيع العربي ، وقد لاحظت أمس أن بعض الدول العربية صارت تتحسس رأسها خوفا من انقلاب عسكري فيها ، أسوة بما حدث في تركيا .
بعض الدول الغربية دعمت المتمردين من الجيوش العربية بصواريخ ومدافع ..
تخيّلوا لو أن دولة عربية دعمت الانقلاب التركي بالصواريخ والمدافع والفضائيات ..
وتخيّلوا ان تركيا ، تدعم الان الانقلابيين العرب بالمدافع والصواريخ والمليارات ....
نحن العرب ، وبديلا عن السباحة في نهر النفاق والانفعالات الهستيرية. دعونا نسأل : هل تستفيد تركيا من الدرس ، وتكف عن التدخل في الدول العربية وتسمح للشعوب ان تقرر لوحدها ، وان لا تتدخل فينا كما لا نتدخل فيها الا بالخير والتعاون ؟