تابعتُ باهتمامٍ شديد الكتابات العديدة، التي جرى نشرها في أكثر من مكان عن وفاة الدكتور كلوفيس مقصود، وما أظهرته هذه الكتابات من تقديرٍ كبير لفكره ودوره وشخصه، لكن ما لم أستحسنه في بعضها وأختلف معه هو هذا النعي للعروبة وللقومية العربية من خلال نعي رائدٍ من روّادها. فهذا “البعض” كتب عن أنّ عصر القومية العربية انتهى بوفاة مقصود، وهذا فيه مبالغة وتضخيم لما كان عليه الفقيد من جهة، وهو أيضاً تقزيمٌ وتقليل من قيمة العروبة التي كان يحمل الفقيد الكبير قضيتها بإخلاص.
إنّ العروبة أو الهُويّة القومية العربية لم يخترعها أشخاص لتذهب بذهابهم، وهي أصلاً ليست بفكرة من صناعة أو اختراع مفكّرين، بل هي هُويّة شعوب المنطقة العربية بغضِّ النّظر عمّن يقبلها أو يرفضها، عمّن يموت مجاهداً من أجلها، أو عمّن يحاربها ويستبدلها بهُويّات أممية أوسع أو فئوية أضيق.
لقد شهد القرن الماضي بروز العديد من المفكّرين العرب الذين عملوا على نشر وخدمة الفكر القومي العربي، ومعظهم غادر هذه الحياة ولم تغادر معهم مسألة العروبة، بل على العكس، لقد ساهم هؤلاء قبل رحيلهم بإنضاج الفهم الصحيح للهويّة القومية. فالفارق كبير بين “الهُويّة القومية” المستمرّة وبين “الفكر القومي” الذي يُبنى على أرضية هذه الهُويّة، ويخضع للتعديل والتطوير من قِبَل هذا المفكّر أو ذاك. كذلك، من المهمّ تقدير الدور الكبير الذي يقوم به الآن مفكّرون ومناضلون عروبيون معاصرون في أكثر من ساحة عربية، وفي مجالاتٍ مختلفة، حيث لا يجوز التقليل من أهمّية عطائهم رغم الظروف السيئة التي تحيط الآن بالدعوة للعروبة.
وكم كان جمال عبد الناصر محقّاً عندما قال إنّ الدعوة القومية العربية كانت قبل جمال عبد الناصر وستستمرّ بعده، وبأنّه لا يجوز ربط مصير هذه الدعوة بأشخاص يأتون ويذهبون. ففي مشرق الأمّة العربية وفي مغربها وفي قلبها مصر، آلافٌ من الحاملين لمشاعل العروبة، والذين يحرصون الآن على بقاء وهج نيران هذه المشاعل في مرحلةٍ يسودها ظلام وظلم عصر الجاهلية الذي يتجدّد في أكثر من بلدٍ عربي.
إنّ أهمّية الحديث عن “الهُويّة” وعن “العروبة” في هذه المرحلة لا تفرضها فقط الكتابات التي تُنشر عن روّاد عروبيين يرحلون الآن، لكن أيضاً أهمّية هذا الموضوع تتأتّى من التطوّرات الخطيرة التي تشهدها المنطقة، ومن ظاهرة الانقسامات الطائفية والإثنية التي تعيشها البلدان العربية، والتي هي تعبيرٌ عن عمق مشكلة غياب الفهم الصحيح للدين وللهويّة الوطنية والقومية، وبالتالي فإنّ مسألة “العروبة” هي قضيةٌ معاصرة عنوانها كيفيّة المحافظة على الهويّة الواحدة المشتركة، في مقابل محاولات الفرز الطائفي والمذهبي والإثني داخل الأوطان العربية.
نحن العرب نعاني، لحوالي قرنٍ من الزمن، من صراعاتٍ بين هُويّات مختلفة، ومن عدم وضوح أو فهم للعلاقة بين الهويّات المتعدّدة لأوطاننا وشعوبنا. فما بين مرحلة التبعية لقرونٍ عدّة للدولة العثمانية التي اختارت لنفسها صفة “الخلافة الإسلامية”، وما بين اقتسام المنطقة بين الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية في اتفاقية “سايكس – بيكو” ونشوء كيانات وأوطان بفعل هذه الاتفاقية، تعثّرت “الهويّة القومية العربية” واُطلِقت السهام على صدرها من كلِّ حدبٍ أممي (ديني وعلماني) أو صوبٍ إقليمي (طائفي أو إثني).
أيضاً، فإنّ مشكلة “الهويّة العربية” نابعة من هذا الانفصام الحاصل بين وجود ثقافة عربية واحدة وعدم وجود دولة عربية واحدة. وأيضاً، بسبب خلط البعض بين أمم تقوم على وحدة الدين أو الحضارة، وبين تعدّد الهُويّات الثقافية لشعوب العالم، حتّى التي ينتمي البعض منها إلى حضارةٍ مشتركة، كما هو حال الحضارة الغربية الآن التي تنضوي تحت مظلّتها ثقافاتٌ متعدّدة. فهناك خصوصيات ثقافية لكلّ شعب، حتّى لو اشترك مع شعوبٍ أخرى في حضارةٍ واحدة.
ونجد الآن داخل الجسم العربي من يُطالب بدول لثقافات إثنية (كحالة الأكراد والأمازيغيين، وكما جرى في جنوب السودان) بينما الثقافة العربية الأم نفسها لا تتمتّع بحالة “الدولة الواحدة”. فالموجود الآن من الدول العربية هو أوطان لا تقوم على أساس ثقافاتٍ خاصة بها، بل هي محدّدةٌ جغرافياً وسياسياً بفعل ترتيبات وظروف مطلع القرن العشرين التي أوجدت الحالة الراهنة من الدول العربية، إضافةً طبعاً لزرع دولة إسرائيل في قلب المنطقة العربية.
إنّ الهويّة العربية هي دائرة تتّسع، في تعريفها ل”العربي”، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية أو الإثنية. فالهويّة العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي، ولا تخضع لمتغيّرات الظروف السياسية. الانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة من حيث تكامل عناصر الأمَّة فيها: لغة وثقافة واحدة لشعوب ذات تاريخ مشترك على أرض مشتركة ولها مصائر ومصالح مشتركة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكلٍ من أشكال التكامل أو الاتّحاد بين بلدانها.
إنّ “القومية” هي تعبير يرتبط بمسألة الهويّة لجماعات وأوطان وأمم، وهي تحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، لكنّها (أي القومية) لا تعني نهجاً سياسياً أو نظاماً للحكم أو مضموناً عَقَديّاً/أيديولوجياً. لذلك من الخطأ مثلاً الحديث عن “فكر قومي” مقابل “فكر ديني”، بل يتوجّب القول “فكر علماني” مقابل “فكر ديني”، تماماً كالمقابلة بين “فكر محافظ” و”فكر ليبرالي”، و”فكر اشتراكي” مقابل “فكر رأسمالي”.. وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه في أيِّ بلدٍ أو أمّة، في حين يجب أن يختصّ تعبير “الفكر القومي” فقط بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافي. ولذلك أيضاً، يكون تعبير “العروبة” هو الأدقّ والأشمل حتّى تبقى مسألة الهويّة الثقافية المشتركة بين كلّ العرب (بغضّ النظر عن أصولهم) منفصلة عن مفاهيم التعصّب القومي، خاصّةً في ظلّ وجود عرب من أصول ثقافية إثنية غير عربية.
إنَّ الأمَّة العربية هي الأمَّة الوحيدة وسط كلِّ العالم الإسلامي التي لا يصحّ التناقض فيها بين الإسلام وبين الانتماء للعروبة. فالأمَّة العربية هي الأمَّة الوحيدة التي نسج خيوطها الإسلام ولم تكن موجودة قبله، وهي تتميّز بهذا عن بقية الأمم الأخرى ولو كانت أمماً مسلمة. وبينما الإسلام هو دين وحضارة للعرب المسلمين، فإنّه حضارة وتاريخ وتراث للعرب المسيحيين. فلو أمكن للهويّة القومية بشكلٍ عام أن تتناقض مع الإسلام في أيَّة أمَّة في العالم، فهذا غيرُ مُمكنٍ لها في الأمَّة العربية. فالعرب كانوا هم حملة رسالة الإسلام، واللغة العربية هي لغة قرآنه الكريم وحاوية معظم تراثه الفكري، بل إنّ في توحّد العرب قوّة للعالم الإسلامي كلّه.
هي علاقة خاصّة جداً بين الثقافة العربية والدعوة الإسلامية، تتميّز بها الثقافة العربية عن غيرها من الثقافات العالمية، بما في ذلك الثقافات المنضوية تحت الإسلام وحضارته. وهو حال مميِّز أيضاً للأرض العربية التي منها خرجت الرسالات السماوية كلّها والرسل جميعهم، وعليها كلّ المقدّسات الدينية، ولغة أبنائها هي اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، والوعاء الثقافي للحضارة الإسلامية، وبالتالي يصبح الحفاظ على “الهُويّة العربية” واجباً دينياً إسلامياً أيضاً.
كانت قيمة الراحل الكبير كلوفيس مقصود أنّه أدرك هذه الأبعاد كلّها للهويّة العربية، وقد قال في إحدى ندوات “مركز الحوار العربي” بواشنطن: “لقد عرفت الإسلام وأحببته من خلال معرفتي وحبّي للعروبة”.
صبحي غندور "مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن