متابعة التطورات السياسية والميدانية المتعلقة بالملف السوري توحي بأن معظمها يتم وفق “التفاهمات” الروسية الامريكية، وان كل ما يجري في فيينا وجنيف من لقاءات ومفاوضات، هي مجرد كسب للوقت، ونوع من التضليل، فما يقرره وزيرا خارجية روسيا وامريكا في الغرف المغلقة هو بمثابة “خريطة طريق” تحدد مستقبل سورية، وقد يتم فرضها بالقوة في نهاية المطاف.
لم تكن زلة لسان ما قاله جون كيري وزير الخارجية الامريكي بأن شهر آب (اغسطس) المقبل سيكون بداية تطبيق لمرحلة الحكم الانتقالي، وليس صدفة ان يتم اختيار صحيفة لبنانية، مقربة من سورية و”حزب الله”، لتكون احد المنابر لتسريب مسودة دستور جديد تضعه موسكو بالتنسيق مع واشنطن.
هذه المسودة تكرس تسريبات امريكية روسية سابقة حول نزع معظم صلاحيات الرئيس السوري التشريعية والتنفيذية، وتغيير هوية سورية العربية، وتحويلها الى دولة فيدرالية يتم رسم حدودها وفق الاعتبارات العرقية والطائفية، وعزلها كليا عن المحيط العربي، والنص حرفيا على عدم انخراط جيشها في اي حروب مستقبلية خارج الاراضي السوري، في اشارة الى اسرائيل.
هناك عدة نقاط اساسية لافتة في ما قيل انها مسودة الدستور الروسي لسورية نوجزها كالتالي، في محاولة لدراسة بنودها والهدف من تسريبها في هذا الوقت بالذات:
اولا: تغيير المادة الاولى من دستور عام 2012 بالاشارة الى سورية بالقول انها الجمهورية السورية، بدلا من الجمهورية العربية السورية، اي اسقاط صفة العروبة وهويتها عنها.
ثانيا: اسقاط المادة الثالثة التي تقول ان دين الدولة هو الاسلام، وان الفقه الاسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع، اي ان تكون سورية الجديدة بدون اي هوية دينية محددة.
ثالثا: المساواة بالكامل بين اللغتين العربية والكردية كلغتين رسميتين للدولة، بغض النظر عن نسبة الاكراد في هذه الدولة بالمقارنة للعدد الاجمالي للسكان، وهذا لا يعني المساواة في اللغة وانما في الشراكة الترابية والسياسية ايضا، ربما كمقدمة للانفصال التدريجي لاحقا، فلعب القوات الكردية الدور الابرز في “تحرير” الرقة والموصل لن يكون دون ثمن.
رابعا: اعتماد اللامركزية كأساس لنظام الحكم، واعطاء صلاحيات واسعة لبرلمانات المناطق، التي جرى اطلاق صفة “ادارات المناطق” عليها.
خامسا: الغاء صيغة مجلس الشعب، واستبدالها بصيغة “جمعية الشعب” وهي تسمية غريبة وغير مسبوقة، تذكر بتسميات مماثلة مثل الجمعيات الخيرية، والجمعيات التعاونية (بقالات) والجمعيات والروابط الطلابية، اي انه لن يكون هناك شعب، وانما شعوب سورية.
سادسا: ان تكون مسؤولية الرئيس “مهمة الوساطة” بين الدولة والمجتمع، وبدون اي سلطات تشريعية، وحصر سلطاته التنفيذية بشرط التشاور مع البرلمانات او الجميعات المناطقية.
سابعا: “جمعية الشعب”، مجلس الشعب سابقا، هي التي تعين اعضاء المحكمة الدستورية، ورئيس المصرف الوطني (المركزي سابقا) وتتولى “جمعية الشعب” الى جانب “جمعية المناطق” السلطة التشريعية في البلاد، اصالة عن الشعب السوري، واسقاط كل صلاحيات الرئيس في هذا المضمار.
ثامنا: تخضع القوات المسلحة للرئيس الذي سيتولى منصب القائد الاعلى، ويحق له في حال العدوان اعلان حالة الطواريء، واعلان التعبئة العامة، ولكن بعد الموافقة المسبقة لـ”جمعية المناطق” اي الادارات المحلية ذات الطابعين الطائفي والعرقي.
تاسعا: تعيين مناصب نواب رئيس الوزراء والوزراء، يجب ان يكون تمسكا بالتمثيل النسبي لجميع الاطياف الطائفية والقومية لسكان سورية، وتُحجز بعض المناصب للاقليات القومية والطائفية، بمعنى آخر تكريس المحاصصة الطائفية.
عاشرا: يُحرم تنظيم اي اعمال عسكرية، او ذات طابع عسكري خارج مناطق سلطة الدولة، على ان ينحصر دور الجيش في الدفاع عن سلامة ارض الوطن وسيادته الاقليمية فقط.
احد عشر: التأكد على الاقتصاد الحر، وحرية النشاط الاقتصادي، والالتزام بمعايير السوق، اي الغاء جميع المعايير الاشتراكية، بما في ذلك دعم السلع الاساسية، وتحديد الاسعار، ورفع اي حماية للمواطن الفقير امام التغول الرأسمالي.
ندرك جيدا ان مسودة الدستور الروسية هذه مجرد صيغة قابلة للنقاش والتعديل، ولكنها بمثابة “بالون اختبار” ايضا لرصد ردود الفعل، وامتصاص عنصر المفاجأة لدى المتلقي السوري، وتعويد الرأي العام عليها، والتطبع مع عنصر التغيير الجذري الذي تتضمنه معظم بنودها، ومن هنا، في رأينا، تكمن خطورتها، والهدف من تسريبها في هذا الوقت بالذات.
اللافت ان معظم هذه البنود تتمحور حول هدف اساسي متفق عليه بين القوتين العظميين، هو تكريس مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية، والغاء الهوية الوطنية السورية الجامعة الموحدة، واستبدالها بهويات طائفية عرقية، وفك ارتباط سورية كليا بالهويتين العربية والاسلامية، وتحريم اي دور لها في مواجهة المشروع الاسرائيلي العنصري الاحتلالي في فلسطين وسورية ولبنان، فالجيش السوري هو للدفاع عن الدولة السورية، وما هو داخل حدودها فقط، وممنوع عليه القيام بأي تحرك او لعب اي دور خارج الحدود.
الحروب التي بدأت حاليا للقضاء على “الدولة الاسلامية” و”جبهة النصرة”، الموضوعتين على قوائم الارهاب، الهدف منه هو ازالة كل العقبات في طريق هذا المخطط، او السيناريو المعتمد امريكيا وروسيا.
السيناريو المرسوم لـ”سورية الجديدة” هو نفسه الذي جرى تطبيقه لاقامة “العراق الجديد”، نفس التقسيمات، والمحاصصات الطائفية والعرقية، وفك ارتباط العراق مع العرب والقضية الفلسطينية، وتحويله الى عراق ضعيف، مفكك، متقاتل، وغير مستقر، ودون اي هوية وطنية جامعة موحدة.
هذه الصيغة الدستورية، وسواء كانت صيغة اولية او نهائية، تشكل خطرا على سورية اكبر من خطر الارهاب، لانها اذا ما جرى اتباعها ستكون “تشريعا” لمخططات التفتيت والتقسيم، وما علينا الا النظر الى اوضاع العراق وليبيا واليمن لنتعرف على مكامن هذا الخطر وتداعياته اذا ما جرى تطبيقه وانجاحه.
عندما قلنا ان سورية بعد ليبيا والعراق على مشرحة التقسيم والتفتيت، سخر منا البعض المخدوع ببعض الطروحات الامريكية والعربية، المدعومة بمليارات الدولارات، وآلة اعلامية جبارة، وها هي الوقائع على الارض تميط اللثام عن هذه المخططات في وضح النهار.
نتمنى ان نسمع رأي السوريين في السلطة والمعارضة حول هذه الطبخة، والا فإننا سنعتبر الصمت يعني الموافقة، وهذا في حد ذاته صادما ومخيبا للآمال، بالنسبة الينا على الاقل.
عبد الباري عطوان