ينكّب السعوديون هذه الأيام على إعادة ملء الفراغ الذي أحدثه إخراج بندر بن سلطان من لعبة التشبيك مع دوائر صنع القرار في الولايات المتّحدة، بعد تلمّس الحاجة إلى ضرورة استعادة التغلغل في مراكز النفوذ بواشنطن من جهة، وتحسين صورة النظام السعودي في الداخل الأميركي من جهة ثانية، وذلك على خلفية ما تمرّ به العلاقة بين الحليفين من فتور وتضعضع. يتجلّى هذا الأمر من خلال إنشاء لوبي سعودي، لجنة شؤون العلاقات العامة السعودية الأميركية «سابراك»، بالتوازي وحملة تعاقد مع شركات العلاقات العامّة
خليل كوثراني
ثمّة تطورات في السنوات الأخيرة شهدها ميدان جماعات الضغط والحملات في الولايات المتّحدة، بينها دخول متموّلين جدد إلى جانب العائلات الثرية المعروفة بدعمها المالي للأنشطة السياسية والإنتخابية (ويلكس، ميرسر، توبي نيوغبيير،...)، وفق تحقيق لصحيفة «نيويورك تايمز» تناول العائلات المموّلة للإنتخابات الرئاسية المرتقبة. جديد آخر تمثّل بتفعيل بعض النوادي أو إنشاء لوبيات جديدة لدول في الشرق الأوسط.
برز على هذا الصعيد بعض النوادي الإيرانية، التي جرى الحديث عن مساهمتها في تسويق الإتفاق النووي الإيراني، على الرغم من أنّه يتعذّر العثور على ناد للضغط السياسي، يعمل وفق رؤية النظام الإيراني، بل إن أشهر هذه النوادي نشطت في الدعاية ضدّ بعض مؤسسات هذا النظام، وبعضها تلقّى أموالاً حكومية مما يسمّى برامج دعم الديمقراطية في أميركا. ولو كان ذلك لا يمنع تعاطف ذوي الأصول الإيرانية مع بلادهم في الملف النووي، حتى وصل الأمر ببعض المتابعين أن يصف توقيع الإتفاق بأنّه انتصار تاريخي للوبي الإيراني على اللوبي الإسرائيلي. بأي حال فإنّ بعض الأنظمة العربية متأثّراً بالتقارير التي تتحدّث عن أدوار لجماعات ضغط إيرانية داخل الولايات المتحدة من جهة، ولحاجته إلى محاربة خصومه العرب من جهة أخرى، عمد إلى تنظيم عمل الضغط السياسي في الولايات المتّحدة. الإمارات مثلاً موّلت نادياً جديداً (معهد دول الخليج العربي) في واشنطن، عمل على ضرب دولة قطر وتشويه سمعتها في أميركا، بحسب مقال في «نيويورك تايمز». أمّا النظام السعودي، فمن الجلي أنّ سعيه في تنظيم العمل السياسي الضاغط والتغلغل إلى دوائر القرار الأميركي، وإعادة هيكلة هذه القنوات، محكوم بهاجس ما يعدّه خسارة أمام تسويق مشروع الإتفاق النووي مع طهران، إلى جانب مواصلة محاولات تحسين صورة المملكة ومجابهة الإنتقادات المتصاعدة لها في الآونة الأخيرة داخل الولايات المتحدة. وبالطبع ليس من ضمن الحسابات -كما يحلو لبعض الكتّاب السعوديين أن يروّج- مجابهة اللوبي الإسرائيلي الذي عانى العرب تفرّده في العمل داخل أميركا، يكفي دليلاً على ذلك أن تستيقظ السعودية لهذا المشروع بعد كل هذه السنين. في الواقع ما يجري الآن ما هو إلا استكمال للعمل السعودي السابق، وإعادة لهيكلته وتنظيمه وفق الآليات المتعارف عليها حديثاً. هذا العمل لم يحتج إلى الكثير من الجهود في الفترة التي كان فيها بندر بن سلطان سفيراً للرياض في واشنطن (1983-2005)، وإن كانت مهمّة الأمير المعروف بعلاقاته العميقة مع الأميركيين، تعقّدت أكثر في أعقاب أحداث 11 أيلول (وقّع بندر عقداً بقيمة 3.2 ملايين دولار مع مؤسّسة «غورفيز ام اس ال غروب» لتجميل صورة نظامه بعد الهجمات)، فما كان يجمع البلدين من مصالح لم يكن على درجة يرقى إليها الإلتباس أو تتطلّب شيئاً من نقاش أميركي داخلي.
في الآونة الأخيرة يتحسّس السعوديون تغيّراً في نظرة حلفائهم الأميركيين إلى الشرق الأوسط. يعزّز هذه «المخاوف» نجاح الإتفاق النووي الإيراني. المحلّل السياسي السعودي سلمان الأنصاري المقيم في الولايات المتحدة، كشف عبر موقع «سي أن أن» (حيث ينشر مقالات له من حين إلى آخر) عن موعد 16 آذار المقبل لإطلاق «لجنة شؤون العلاقات العامة السعودية الأميركية» وهي ستعرف اختصاراً -باسم مشابه لنظيره الإسرائيلي آيباك- «سابراك». ووفق الأنصاري فإنّ المنظّمة، الجاري الإعداد لها منذ أشهر، تسعى إلى «الوصول إلى المواطن الأميركي وتثقيفه حول كافّة القضايا الخاصّة بشأن العلاقات السعودية الأميركية والشؤون العربية».
يشار إلى أنّ سلمان الأنصاري المفترض أن يدير «سابراك» هو من أصحاب نظرية وجود علاقة بين تنظيم «داعش» وإيران! لكن لا يبدو المستوى الشخصي مهمّاً في من سيوكل إليه ملفّ تسويق السعودية أميركياً، إذ إنّ الأمثلة متضافرة على ما ستعتمد عليه الرياض في هذا الموضوع. فالسيناتور الجمهوري السابق نورم كولمان، الذي وقّع بيده عام 2005 عريضة لأعضاء الكونغرس تدين الحكومة السعودية لتوزيعها مطبوعات تحرّض على الكراهية ولنشرها أيديولوجيات متطرّفة في أنحاء العالم، كولمان هذا نفسه وقّع عقداً، بعد هزيمته في الانتخابات في 2008، مع مؤسّسة «هوغان لوفيز» التي يشير تحقيق لمجلة ذا نيشين الأميركية إلى أنّها من بين مجموعة مؤسّسات تتلقّى تمويلاً من الحكومة السعودية، بجانب مؤسّسات أخرى ومراكز أبحاث (المجلس الأطلسي، مجلس سياسات الشرق الأوسط، معهد الشرق الأوسط،...) باتت تثير إشكاليات قانونية، مع وجود ثغر في هذا الملفّ لكون هذه المنظّمات «غير ربحية» في ظاهرها. يعلّق خبير جماعات الضغط كريغ هولمان على ذلك بالقول: «من المؤسف أنّه لم يعد من غير المعتاد أن تجد مشرّعاً سابقاً يعمل كبندقية مستعارة لدى الحكومات الأجنبية، لكن هذه هي المرّة الأولى التي أسمع فيها بشخص دوّار _ في إشارة إلى كولمان- يعمل في آن واحد كخبير جماعات ضغط لدى حكومة أجنبية، ومديراً لعملية محلّية للإنفاق على الحملات الإنتخابية من خلال لجنة عمل سياسية ومن خلال مجموعة غير ربحية تمويلها غامض، لم يكن من المفروض أن تتلقّى أو تنفق أموالاً مصدرها خارجي في انتخاباتنا...».
يستأنف اليوم مساعد بندر بن سلطان السابق ورفيقه الموثوق في عمله بواشنطن أي وزير الخارجية عادل الجبير ما بدأه رئيسه القديم الذي تدرّج على يديه في مجال تشبيك الروابط مع دوائر صنع القرار في الولايات المتّحدة.
تترافق هذه المساعي السعودية على الأراضي الأميركية وحملات تعاقد مع الشركات العملاقة للعلاقات العامّة الأضخم في العالم، من أجل تحسين صورة السعودية، كشركتي «ايدلمان» و«بوديستا غروب».
الأعمال التي تضطلع فيها الشركة الأخيرة تشي بأن المسألة تتعدّى فكرة استئجار مساحيق التجميل والتلميع لوجه النظام السعودي في مرآة الغربيين، فـ«بوديستا» الآن هي من تقود حملة المرشّحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. الكاتب لي فانغ -معدّ تحقيق ذا نيشين المذكور- كشف في مقال له بموقع «انترسبت» الأميركي عن هذا الدعم لبوديستا، وهو ما يقود إلى الإعتقاد وفق المتابعين بأنّ اختيار بوديستا يؤكّد حماسة السعوديين لنجاح كلينتون، وعدم وصول «أوباما» ثان إلى البيت الأبيض. أمّا كلينتون من جهتها، فهي معتادة تلقّي الأموال السعودية. مؤسّسة كلينتون، التي أعلنت وقف تلقّيها الأموال من السعودية تجنّباً لمزيد من الإنتقادات باتت كلينتون في غنى عنها، ولا سيما مع مواصلتها السباق الرئاسي، تقدّر وول ستريت جورنال المبالغ السعودية التي تلقّتها بين 10 ملايين و25 مليون دولار.
في الخلاصة يمكن الملاحظة أنّ أمام اللوبي السعودي المستحدث الكثير من العمل في مجالات عديدة، أهمّها الإنتخابات الرئاسية التالية، أمّا الجهد في سبيل تحسين صورة المملكة أمام الرأي العام الغربي فربما يتطلّب عملاً أقرب إلى المعجزة. الرهان على أنّ الأموال تستطيع أن تحقّق اختراقات على مستوى دوائر القرار رهان منطقي، لكنّ تعليق الفشل في ملفّ النووي الإيراني على غياب هذا اللوبي أمر يفتقر إلى الدقّة، فلن يكون « سابراك» السعودي بأحسن الأحوال متفوّقاً على زميله الإسرائيلي «ايباك»، الذي يملك امتداداً متجذّراً في شريحة من المواطنين الأصليين.
(الأخبار)