لم يفاجئنا اعتراف الدكتور اياد علاوي اول رئيس وزراء للعراق تحت ظل الاحتلال الامريكي وحرابه، في حديثه المطول لصحيفة “الشرق الاوسط” الذي نشرته اليوم (الاثنين)، “بأن العراقيين صاروا يترحمون هذه الايام على نظام الرئيس صدام حسين، بسبب اداء الحكومات التي احرقت العراقيين بنار الطائفية والمحاصصة”، نقول بأن هذا الاعتراف لم يفاجئنا لانه لم يأت بجدبد، ولاننا نعرف الدكتور علاوي والدور الذي لعبه وآخرون يعرفون انفسهم جيدا، لايصال العراق الى ما وصل اليه اولا، ولاننا كنا من ابرز المحذرين من “المؤامرة” الامريكية التي استهدفت العراق وجيشه العظيم، وقيادته الوطنية، وبذرت بذور الانقسام الطائفي ونسفت كل مقومات التعايش والتكافل بين ابناء شعبه.
ما قاله الدكتور علاوي في اعترافاته الجريئة حول عدم وجود سياسات داخلية وخارجية للعراق، وغياب المؤسسات، واستفحال مرض المحاصصة الطائفية والعرقية، والمذهبية، كله صحيح، ولكنها اعترافات جاءت متأخرة 13 عاما على الاقل، وبعد خراب العراق، وبسبب تراجع آماله في العودة الى الحكم، وفصله من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية من قبل السيد حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي، ورغبته في تسوية الحساب مع الاخير.
“العراق الجديد” بات واحدا من اكثر ثلاث دول فسادا في العالم، وجيشه العظيم الذي حارب ايران لاكثر من ثماني سنوات انهزم وولى جنوده الادبار امام اقل من 800 مقاتل من “الدولة الاسلامية” استولوا على نصف العراق، وهو الجيش الذي جرى انفاق اكثر من 27 مليار دولار على تدريبه وتسليحه.
الدكتور علاوي، لم يتحدث بكلمة واحدة عن الاحتلال الامريكي للعراق وترميل مليون امرأة عراقية، وتيتيم اكثر من اربعة ملايين طفل، واغتيال اكثر من 300 عالم، وتدمير البنى التحتية، كما لم يتطرق مطلقا الى حليفه وصديقه الجنرال بول بريمر، اول حاكم عسكري امريكي للعراق الذي كان اول من بدأ مسلسل المحاصصة الطائفية والعرقية، واتخذ قرارا بحل الجيش العراقي والمؤسسات الامنية، وبذر بهذا القرار البذور الاولى لـ”الدولة الاسلامية”، التي تحشد بلاده امريكا ومئة دولة وجيوشها وطائراتها لمحاربتها واجتثاثها.
عراق اليوم، الذي لعب الدكتور علاوي، الذي اعترف بتعاونه مع 13 جهاز مخابرات غربي وعربي، من اجل انشائه، على انقاض النظام السابق، بات فاقد الهوية والكرامة، ومثل الرجل المريض الجاثم على فراش الموت، ويتقاتل الكثيرون على جثته وورثته، والكل ينهش قطعة منه، وتستبيح اراضيه وسيادته قوى اقليمية ودولية يصعب عدها لكثرتها.
لا توجد هوية موحدة للعراق، بل هويات طائفية واثنية متعددة، فهذا شيعي وآخر سني، وثالث كردي، ورابع مسيحي، وخامس ايزيدي، وسادس تركماني، والقائمة تطول.
نعم.. الامن معدوم في “العراق الجديد”، والعاصمة بغداد باتت تنام مبكرا بسبب اعمال القتل والاختطاف، وتحولت الى غيتوهات طائفية مذهبية، تقّطع اوصالها الحوائط الاسمنتية العالية، والشيء نفسه يقال عن البصرة، وباقي المدن الاخرى، ولولا القوات الامريكية لكانت اعلام “الدولة الاسلامية السوداء” ترفرف فوق صواريها.
ندرك جيدا ان النظام السابق لن يعود، مثلما ندرك ايضا ان هذا النظام ارتكب اخطاء، وان سجله في حقوق الانسان كان دمويا، ولكنه اقام عراقا قويا موحدا مهابا، وقوة اقليمية عظمى، ووضع اسس قاعدة علمية صلبة، واحتفل قبل ثلاثين عاما بالقضاء على الامية، ورسخ كرامة الانسان العراقي، وقاوم حصارا امريكيا وعربيا استمر لاكثر من عشر سنوات، ورفض “الهدنة” مع اسرائيل، ووقف بصلابة امام انتفاضة اهلها، واكرم شهداءها وذويهم.
لا نعتقد بأن الدكتور علاوي البعثي السابق الذي كان في يوم من الايام من اركان هذا النظام يمكن ان يقول كلمة حق واحدة، ومن منطلق الموضوعية، عن هذا النظام، او يعترف بشجاعة زعيمه الذي وقف امام المشنقة مثل الطور الشامخ، رافع الرأس، منتصبا كالرمح مرددا الشهادتين، وصارخا باسم العروبة وفلسطين.
كنا نتمنى لو ان الدكتور علاوي، وكل حكام العراق الحاليين قدموا البديل الافضل، والنموذج المشرف في ميادين العدالة، ودولة المؤسسات، والمصالحة الوطنية، والعدالة الاجتماعية، والتعايش الطائفي والعرقي، لينظفوا سجلهم من خطيئة التعاون مع الاحتلال الامريكي، ولكنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا، لانهم ليسوا اهل لحكم هذا العراق العظيم لامراضهم الطائفية المزمنة.
هذا “العراق الجديد” الذي يغلق ابواب عاصمته امام اهالي الرمادي الفارين بحياتهم من امام زحف “الدولة الاسلامية”، ويطالبهم بكفيل كشرط للسماح لهم بـ”اللجوء”، وهي العاصمة التي كانت تضم اكثر من مليون كردي، واحتضنت الملايين من سكان الريف دون السؤال عن هويتهم، هذا العراق بصورته الحالية، يشكل وصمة عار لكل الذين اوصلوه الى هذا المصير البائس.
مؤامرة تفتيت الامة واذلالها، وقتل مئات الآلاف من خيرة ابنائها، وتشريد الملايين في المنافي، وغرق الآلاف في البحار بحثا عن ملاذ آمن، هذه المؤامرة ما كان لها ان تمر او تنجح لو بقي العراق القوي الشامخ بعروبته واسلامه، ولهذا بدأوا باحتلاله، وتمزيق وحدته الوطنية، وحل جيشه العظيم، لتمرير هذه المخططات.
الدكتور علاوي وكل من تآمر مع الاحتلال الامريكي ضد بلده يجب ان يعتذر لشعبه العراقي اولا، ثم للامتين العربية والاسلامية، ويقف امام العدالة متهما بالتواطؤ مع الاعداء لتدمير بلده، وقتل مئات الآلاف من شعبه.
لن ننسى من اساء الى هذه الامة، وتآمر عليها، حتى لو نسي، او تناسى، الآخرون، فهذه المؤامرة من الكبائر، ولا تسقط بالتقادم، او هكذا نعتقد ونؤمن.
“راي اليوم