معظم من يتحدث عن العبودية في موريتانيا، يتحدث عنها من زاوية واحدة وهي أنها مشكلة بين نوعين من المواطنين هما البيظان البيض، والحراطين فقط، وحقيقة الأمر أن هناك مجموعة مستفيدة من هذا الطرح العنصري البغيض الذي يهدف إلى الوقيعة بين فئات هذا المجتمع, وفي نفس الوقت ينسى أصحاب هذا الطرح أو يتناسوا أن ظاهرة العبودية كانت موجودة وبشكل جلي في المحيط الإقليمي الموريتاني، بل إن المتعلق منها بالجزء الآخر من الشعب الموريتاني (الزنوج) أخطر بكثير مما هو موجود عند البيظان… فالتميز الطبقي داخل مجموعة الزنوج تمييز جامد ودقيق… بحيث لا يكمن لأي فرد من طبقة زنجية دونية في السلم الاجتماعي أن يتساوى مع نظيره من الطبقة الأخرى الأكثر مكانة.. فالتعليم مثلا محتكر داخل مجموعة بعينها هي مجموعة (تورودو) فمن غير المتاح لأي من أفراد الفئات الأخرى حتى ولو كان متعلما أن يؤم الناس في الصلاة ولا أن يصدر رأيا في الأمور الدينية البسيطة التي تعتبر مما علم من الدين بالضرورة في حضور أي شخص من المجموعة المحتكرة للسلطة الدينية حتى ولو كان هذا الشخص لا يحسن القراءة والكتابة… لأن ذلك يعتبر تعديا على مكانة هذه الفئة..
إن هذا التمييز يصل إلى عدم المساواة داخل صفوف المسجد… بل إن الأمر يصل في بعض المناطق إلى التمييز داخل المقابر إذ لا يسمح بدفن الفئة الدونية في مقابر فئات النبلاء… وفي ظل هذه التمييز الصارخ الذي ما زال قائما حتى اليوم في بعض المناطق على الأقل فإننا لم نسمع عن تدخل أي منظمة حقوقية من أجل المساواة بين هؤلاء الأسياد وارتقائهم، وهو ما يفتح المجال واسعا أمام الكثير من الأسئلة عن حقيقة دوافع هذه المنظمات، وكأن الحقوقيين لا يهمهم إلا حقوق عبيد البيظان.
إن أي شخص له أبسط دراية بما يعرف اليوم بمفهوم حقوق الإنسان ليندى جبينه عندما يقرأ أو يسمع عن تلك الممارسات التي كانت موجودة في بلاد السيبة والتي تتنافى وأبسط حقوق البشر… حيث كان القانون السائد في هذه البلاد هو قانون الغاب.. والذي لا يحمي سوى مصالح القوي فقط.
فهناك بعض من القبائل مارست علي قبائل أخرى ممارسات لا تقل إهانة عن الاستعباد مثل (الغرامة) التي تفرضها القبيلة المنتصرة على القبيلة المهزومة، فهذا النوع من الرضوخ والإذعان والإهانة الذي فرض على القبيلة المهزومة يعتبر شكلا من أشكال الاستعباد, وإن كان والحال هذه استعبادا جماعيا… لنلاحظ ومن جديد أنه لا يوجد اليوم من يتحدث عن تلك الحقبة من التاريخ المظلم لسكان هذه البلاد.. ولا حتى من يشير إلى هذا النوع من التمييز.. لأنه وببساطة شديدة لا يوجد من مخلفات تلك الفترة ما يثير هذا النوع من المشاكل.. نظرا لوحدة اللون والعرق.. وبالتالي لا يوجد عامل أجنبي يغذي أو ينبش تلك الممارسات.. ليتأكد لنا أن أغلب هذه المنظمات تهدف إلى زرع الخصومات والأحقاد بين البيظان فقط ..
كما أن هناك من العبيد البيض من مورست عليه العبودية أو على أحد أجداده ولم نسمع أي تدخل من أجل إنصافه (عبيد أهل بارك الها) مثلا، ونفس الشيء هناك فئة من الحراطين القدامى تملكت بدورها عبيدا وتتفاخر بذلك… وتعتبر اليوم في أعلى السلم الاجتماعي البيظاني.. ولم تطلب منها هذه المنظمات إنصاف ضحاياها.
أما من يطالبون بالمساواة الاجتماعية في الزواج فيبدو أنهم ليست عندهم أية دراية بعادات البيظان الاجتماعية، فليكن في علم الجميع أن بعض القبائل البيظانية لا يمكن أن تدخل مع بعض القبائل الأخرى في علاقات مصاهرة حتى ولو كان الخاطب زعيم القبيلة أو حتى أمير المنطقة، والقبيلة التي تقدم لها دون مستواه في السلم الاجتماعي.. ومع ذلك لا يمكن أن يصنف الأمر على أنه عنصري، ثم إن القبيلة الواحدة داخلها هناك منها من لا يمكن أن يتقدم لهذا الأمر داخل قبيلته بل إن الأمر قد يحصل داخل العشيرة الواحدة.
وفي نفس الوقت لم نجد من يطالب بمحو هذه الفوارق الغير منطقية، فمشكلة العبودية أو مخلفاتها إن صح القول، وما نتج عنها من خلل بنيوي داخل مجتمع البيظان هي كلمة حق أريد بها باطل، فعلى أرض الواقع المعاش اليوم لا توجد ممارسة للعبودية بمعناها التقليدي، وإنما هناك مخلفات وآثار الماضي التي أفضت فيما آلت إليه من أمور أخرى إلى ما نشهده اليوم من فوارق اقتصادية واجتماعية وثقافية، وهي نتيجة حتمية لتلك الممارسات المقيتة، حيث إن النظام المالي والاقتصادي الذي كان سائدا في زمن العبودية لا يسمح لأفراد هذه الفئة بالتملك، وهو ما جعل هذه الوضعية الغير مألوفة تفقد العبيد روح المبادرة والتي من شأنها أن تحفز أي شخص علي الإنتاج من أجل تأمين مستقبله وتكوين رصيد مالي يمكنه هو الآخر من خلق وضع جديد له داخل الدورة الاقتصادية آنذاك، أضف إلى هذا إن المشكلة الثقافية بدورها أدت بهذه الشريحة إلى أخطر من ذلك، فالعلم الذي هو مفتاح التنمية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية لم يكن متاحا لهذه الفئة بل إن البعض يعتبر أن العلم كان محتكرا عن هذه المجموعة، وهذا ما جعل أحفاد العبيد اليوم لا يبذلون أي جهد من أجل التعلم.. فالتجمعات الريفية المعروفة محليا بـ(آدوابه) وإن كانت الدولة الحديثة حاولت قدر الإمكان أن توفر لها بعض الخدمات من قبيل التعليم مثلا, تجد أغلب أولياء الأمور لا يعيرون أي اهتمام لمستقبل أطفالهم الذين ما زالوا في سن التمدرس وهو ما ينتج عنه انتشار الأمية والجهل اللذين يوديان حتما إلى التخلف والفقر والمرض…
إن علاج مخلفات القرون الماضية من الاسترقاق لا يمكن بحال من الأحوال إن يكون من خلال الشعارات البراقة التي تنادي بها المنظمات الحقوقية المحلية من جهة والحكومات المتعاقبة من جهة أخرى.. ولا يمكن معالجتها أيضا من خلال التصريحات العنصرية التي تطلقها من حين لآخر هذه الجهة أو تلك، ولا من خلال تحميل الحاضر أخطاء الماضي…
إن محاكمة أي واقع معين بمعايير وآليات واقع آخر منفصل عنه لا يمكن أن تكون منصفة ولا حتى منطقية، بل بالعكس قد تودي إلى تكوين موقف راديكالي غير عادل..
بقلم/ جعفر ولد أبيه