
في مواجهة مرآة التاريخ: عندما تقف أمةٌ في مواجهة مرآة تاريخها، قد ترى انعكاساً لمجدٍ غابر، لصولات فكرية وحضارية أنارت العالم يوماً ما، وقد ترى في المقابل صورة شاحبة لحاضر مُثقل بالهزائم والانقسامات. فالعالم العربي اليوم، الممتد من محيطه إلى خليجه، يعيشُ مفارقة مؤلمة بين ماضٍ يزهو به، وما يعانيه من واقع مرير. فالتشرذم السياسي، والركود التنموي، والتبعية للخارج، والشعور العميق بالهوان، والهزيمة النكراء أمام الصهيونية، ليست مجرد أعراض سطحية لأزمة عابرة، بل هي التجليات الظاهرة لعللٍ بُنيوية وجروحٍ نفسية غائرة حُفِرَت على مدارِ قرنٍ، أو ما يزيد قليلاً، من الزمان.
سأحاول في هذا التحليل تفكيك هذا الواقع المُركب، لا لأقدم لائحةِ اتهام أو جلدٍ للذات، بل لأقوم بعملية تشريح دقيقة للخيوط التي نسجت هذا الواقع. وياليتنا نغوص معاً في أعماق النفسية الجماعية التي تشكلت تحت وطأة الهيمنة الأجنبية، ونتتبع آثار الصدمة الوجودية التي خلفتها النكبة الفلسطينية والهزائم المتتالية، والديناميكيات والحلقة المفرغة التي ربطت بين الاستبداد السياسي والفساد الممنهج وثقافة الخضوع الاجتماعي. وفهم أسباب هذا الهوان ليس ترفاً فكرياً، بل هو شرط أساسي وضروري لتصور أي طريق ممكن نحو المستقبل. فهي محاولة مني للإجابة على السؤال الوجودي: كيف وصلت أمة ذات إرث حضاري عظيم إلى هذا المنعطف المُتردي من تاريخها؟
المشهد الأول من المسرحية: ندوب الإرث الاستعماري وبناء الدولة القُطْرية الهشة:
ذكرت في مقالتي الأخير بأن التاريخ الحديث للعالم العربي لم يبدأ من فراغ، بل من تحت أنقاض الدولة العثمانية التي كانت، على علاتها، تمثل إطاراً سياسياً وثقافياً جامعاً. وقد كان سقوط هذا الإطار إيذاناً ببدء حقبة الهيمنة الأوروبية المباشرة التي أعادت تشكيل المنطقة سياسياً وجغرافياً ونفسياً، بطريقة تخدم مصالحها الاستعمارية بالدرجة الأولى، وتأسيس الدولة الصهيونية في فلسطين المُحتلة.
أولاً) هندسة الحدود بالمسطرة والفرجار: كان أولُ وأعمقُ جرحٍ غُرِس في جسد الأمة عبر اتفاقية سايكس-بيكو في العام (1916)، وما تلاها من ترتيبات. فهذه الاتفاقيات لم تكن مجرد ترسيم للحدود، بل كانت عملية بتر جراحية قسرية، فصلت بين مجتمعات متجانسة وجمعت بين كيانات متنافرة ضمن حدود مصطنعة. فالدولة القُطْرية (Nation-State) التي ورثها العرب لم تكن نتاج تطور تاريخي طبيعي أو عقد اجتماعي داخلي، بل كانت كياناً هجيناً فُرض من الخارج. وقد أدى ذلك إلى خلق دول ذات تركيبات سكانية فسيفسائية (كالعراق وسوريا والأردن ولبنان) تحمل في طياتها بذور النزاع الطائفي والعرقي، والتي كانت تدار سابقاً ضمن نظام الولايات العثماني الأكثر مرونة. ونتيجة لذلك، ظلت الهوية الوطنية في كثيرٍ من هذه الدول هشة وسطحية، تتنافس معها أو تتجاوزها ولاءات أرسخ للعشيرة أو الطائفة أو الإقليم.
ثانياً) ولادة العقلية الاستعمارية: لم تكن الهيمنة الاستعمارية مجرد سيطرة عسكرية واقتصادية، بل كانت مشروعاً ثقافياً ونفسياً يهدف إلى إخضاع الآخر. وقد ولّدت هذه الحقبة ما أطلق عليه مفكرون مثل فرانز فانون العقلية الاستعمارية أو ذهنية المُستعمَر، وهي حالة نفسية داخلية يشعر فيها الفرد والمجتمع بالدونية الحضارية تجاه المستعمِر، ويستبطن نظرته لنفسه ككائن متخلف وغير قادر على إدارة شؤونه. وتجلت هذه العقلية في نُظمِ التعليم التي استوردت مناهج أجنبية تمجدُ تاريخ الآخر وتهمش تاريخ الذات، وفي النظم القانونية التي حلت فيها القوانين الوضعية الأوروبية محل التقاليد التشريعية المحلية، بل وحتى في تبني أنماط استهلاكية وجمالية ولغوية وافدة كدليل على الرقي والتحضر. وقد خلقت هذه الذهنية ما سماه ماركس اغتراباً ثقافياً (Cultural Alienation) عميقاً، وشعوراً بالتبعية الفكرية لا يزال أثره باقياً حتى اليوم.
ثالثاً) مأزق الدولة ما بعد الاستعمارية: عندما رحل المستعمر، ترك وراءه دولاً ضعيفة ذات سيادة منقوصة، واقتصادات ريعية تابعة، ونخب سياسية غالباً ما كانت امتداداً للإدارة الاستعمارية أو نتاجاً لها. وقد صُممت البنى الاقتصادية لخدمة المركز الإمبريالي، حيث ركزت على استخراج المواد الخام (كالنفط، والقطن، والمعادن) وتصديرها، مع إهمالٍ مُتعمد لبناء قاعدة صناعية أو زراعية حقيقية. وهذا النموذج الاقتصادي، الذي يُعرف بـالدولة الريعية، ربط مصير الدولة بتقلبات أسعار السلع الأولية في السوق العالمية، وأعفى بعض الحكام من الحاجة إلى فرض ضرائب على مواطنيهم، مما أضعف مبدأ لا ضريبة بدون تمثيل، الذي هو أساس العقد الاجتماعي الديمقراطي. وفي الحالة المقابلة، أي الدولة التي اضطرت إلى فرض الضرائب، فقد أهلكت الضرائب كل مقومات الادخار الفردي، ولم تقدم الدولة الخدمات التي ينتظرها المواطن مقابل ما يدفعه من ضرائب. وهذه الدولة الهشة، التي فشلت في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، سرعان ما سقطت فريسة للانقلابات العسكرية في الخمسينيات والستينيات (مصر 1952، سوريا والعراق لاحقاً)، حيث قدم العسكر أنفسهم كمنقذين للأمة، ليؤسسوا بذلك للفصل التالي والأكثر قتامة في تاريخ المنطقة: فصل الاستبداد.
المشهد الثاني من المسرحية: النكبة كصدمة وجودية وتداعياتها النفسية والسياسية:
إذا كان الاستعمار قد رسم الخرائط وشكل العقليات، فإن الصراع العربي-الإسرائيلي، وفي قلبه القضية الفلسطينية، قد حفر أعمق الجراح في الروح الجماعية العربية. فلم تكن النكبة في العام (1948) مجرد خسارة لأرض، بل كانت بمثابة صدمة وجودية هزت أركان الهوية العربية الحديثة وشعورها بالذات.
أولاً) من النكبة إلى النكسة: تحطيم صورة الذات: كانت هزيمة الجيوش العربية في حرب (1948) بمثابة الإعلان الصارخ عن عجز الدولة العربية الوليدة. لكن الصدمة الأشد وقعاً كانت هزيمة حزيران (يونيو) (1967)، التي سُميت نكسة بدلَ نكبة، في محاولة للتخفيف من وطأتها. وخلال ستة أيام فقط، تحطمت أسطورة القومية العربية التي كان يمثلها جمال عبد الناصر، وتبخرت أحلام الوحدة والقوة. ولم تكن الهزيمة عسكرية فحسب، بل كانت هزيمة نفسية ومعنوية كاسحة، كشفت عن الهوة السحيقة بين الخطاب الرسمي الرنان والواقع الفعلي الهزيل. وأدت النكسة إلى احتلال سيناء وغزة والضفة الغربية والقدس الشرقية والجولان، وهو ما حول الصراع من قضية لاجئين إلى واقع يومي من الاحتلال والقهر لملايين العرب، وأصبح الجرح ينزف يومياً على شاشات التلفاز وفي نشرات الأخبار.
ثانياً) تداعيات الهزيمة: الانقسام وتآكل الشرعية: في أعقاب الهزيمة، انقسم الموقف العربي بشكل حاد. فظهرت جبهة الرفض التي تمسكت بالحل العسكري، بينما سلكت دول أخرى، وعلى رأسها مصر بعد حرب (1973)، مسار التسوية السلمية وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد. ولم يُضعف هذا الانقسام الموقف العربي الموحد فحسب، بل أوجد شرخاً عميقاً في الوجدان الشعبي بين من رأوا في السلام خيانة ومن رأوه واقعية لا مفر منها. وفي كلتا الحالتين، كان أصحاب السلطة هم من يقررون مصائر شعوبهم دون تفويض حقيقي. وقد أدى العجز المستمر عن إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، وعن حماية المدنيين من الاعتداءات المتكررة، إلى تآكل شرعية هذه الأنظمة في أعين شعوبها. فقد تحولت القضية الفلسطينية إلى مقياس يُقاس به صدق الحكام وعجزهم، وفي كل مرة، كانت النتيجة مزيداً من الخذلان والإحباط.
ثالثاً) التجليات الثقافية للصدمة: تغلغلت صدمة الهزيمة في كل مسامات الثقافة العربية. فأعمال أدباء كبار كغسان كنفاني، ومحمود درويش ونزار قباني، وأفلام يوسف شاهين، كلها عكست مرارة الهزيمة والشعور باليتم والضياع. وترسخت في المخيال الشعبي سردية الضحية والمؤامرة، وهي سردية وإن كانت تحمل جزءاً من الحقيقة (الدعم الغربي لإسرائيل)، إلا أنها تحولت في كثير من الأحيان إلى آلية دفاع نفسي تعفي الذات من تحمل مسؤولية إخفاقاتها. وأصبح الشعور بالمرارة والظلم مكوناً أساسياً في الهوية السياسية العربية، وهو شعور يُغذي السخط، ولكنه في الوقت نفسه قد يشل القدرة على الفعل البنّاء والمراجعة النقدية الصريحة للذات.
المشهد الثالث من المسرحية: الحلقة المفرغة: الاستبداد والفساد وثقافة الخضوع:
على أنقاض مشروع النهضة القومية المهزوم، ترسخت بُـنى الدولة السلطوية العميقة. وقد اشتركت هذه الأنظمة، على مختلف فلسفاتها الذاتية في الحكم، في قاسم أعظم واحد، وهو تركيز السلطة المطلقة في يد الحاكم وجهازه الأمني، وإلغاء السياسة بمعناها الحقيقي القائم على المشاركة والتعددية.
اولاً) الصفقة السلطوية وتفككها: قامت هذه الأنظمة لعقود على أساس صفقة سلطوية غير مكتوبة مع مجتمعاتها. وكان مضمون هذه الصفقة هو: تتنازلون عن حرياتكم السياسية وحقكم في المشاركة، وفي المقابل نوفر لكم الأمن والاستقرار، وجزءاً من عائدات الدولة عبر التوظيف الحكومي والدعم السلعي (الخبز، والوقود). وقد نجحت هذه الصفة إلى حد ما في شراء السلم الاجتماعي طالما كانت موارد الدولة قادرة على تمويلها. ولكن مع الانفجار السكاني، وارتفاع الأسعار، وتفشي الفساد الذي أهلكَ كثيراً من الموارد، بدأت الدولة تعجز عن الوفاء بالتزاماتها. وعندما بدأ المواطن يفقد المزايا الاقتصادية دون أن يستعيد حريته السياسية، تفككت الصفقة، وكان الربيع العربي في العام (2011) أحد أبرز تجليات هذا التفكك العنيف.
ثانياً) آليات الهيمنة والسيطرة: للحفاظ على بقائها، طورت الأنظمة السلطوية شبكة معقدة من آليات السيطرة، وكان منها: 1) دولة المخابرات: حيث أصبحت الأجهزة الأمنية هي العمود الفقري للدولة، وتغلغلت في كل مفاصل المجتمع، من الجامعة إلى المصنع إلى المقهى. وخلقت هذه الرقابة الشاملة ثقافة الخوف، حيث أصبح الهمس هو لغة السياسة، والحيطان لها آذان. وعملت هذه الدولة البوليسية على تذرير المجتمع (Atomization)، أي تفتيت الروابط الاجتماعية الأفقية وتدمير الثقة بين الأفراد، لمنع تشكل أي قوة معارضة منظمة. 2) هندسة الوعي: حيث سيطرت الدولة بشكل كامل على وسائل الإعلام والتعليم والمؤسسات الدينية. واستُخدِمَت هذه الأدوات، من قبل السلطة، لإنتاج خطاب أحادي يُمجد الحاكم الأب القائد الملهم، ويشيطن أي معارض بتهم الخيانة أو العمالة للخارج أو التطرف الديني. وتم تزييف التاريخ وتسطيح الوعي لخلق مواطن سلبي يسهل حكمه. 3) الفساد كأداة حكم: لم يكن الفساد في هذه الأنظمة مجرد انحراف أو خطأ، بل كان ميزة وآلية أساسية في الحكومات. فمن خلال توزيع الامتيازات والعقود بشكل انتقائي، خلقت السلطة شبكة واسعة من الزبائنية والولاءات القائمة على المصلحة. ويصبح الفساد هو الوقود الذي يُحرك آلة النظام، حيث يضمن ولاء النخب الاقتصادية والعسكرية والبيروقراطية التي يصبح بقاؤها مرتبطاً ببقاء النظام.
ثالثاً) التبعات النفسية للخضوع: إن العيش لعقود طويلة تحت وطأة القمع والفساد يترك آثاراً نفسية عميقة. ومن أبرز هذه الآثار ظاهرة العجز المُتعَلَم (المكتسب) (Learned Helplessness)، وهي حالة نفسية يفقد فيها الفرد الإيمان بقدرته على إحداث أي تغيير في واقعه، مما يقوده إلى السلبية واللامبالاة السياسية. وبواسطتها ينتشر النفاق الاجتماعي كآلية للتكيف، حيث يضطر الناس إلى إظهار الولاء للنظام في العلن بينما يلعنونه في السر. وهذا الانفصام بين الظاهر والباطن يؤدي إلى تآكل القيم الأخلاقية وتدمير رأس المال الاجتماعي القائم على الثقة.
المشهد الرابع من المسرحية: سباق التسلح التطوري كتحدٍ لم يُواجه:
لفت انتباهي في معجم لسان العرب البيئي، الذي أعمل على وضعه، مصطلح سباق التسلح التطوري (Evolutionary Arms Race). ومفاده بأن بعض الكائنات الحية، كالفئران مثلاً، استطاعت تطوير آليات مضادة للسموم التي قد تحقنها الأفاعي في أجسادها، كي تبقى على قيد الحياة وتقوم بوظائفها البيئية. أما في علم العلاقات الدولية، يصف مبدأ سباق التسلح التطوري العملية التنافسية الحتمية التي تسعى فيها الدول المتخاصمة إلى تطوير قدراتها العسكرية والتكنولوجية بشكل مستمر للحفاظ على توازن القوى أو تحقيق التفوق. وفي هذا المضمار تحديداً، يكشف السجل العربي عن إخفاق استراتيجي عميق، خاصة عند مقارنته بالنموذج الصهيوني (الإسرائيلي).
أولاً) عقلية مشتري السلاح مقابل عقلية صانع السلاح: يكمن الفارق الجوهري في أن الصهاينة (إسرائيل)، منذ وجودها في فلسطين المُحتلة، أدركت أن بقاءها يعتمد على تحقيق تفوق نوعي، فاستثمرت بشكل هائل في بناء قاعدة علمية وصناعية عسكرية محلية، كشركة صناعات الفضاء الصهيونية (الإسرائيلية)، وشركة رافائيل. وهو ما سمح لها، ليس فقط بإنتاج أسلحتها الخاصة وتطويرها، بل بتصديرها أيضاً، ووفر لها استقلالية استراتيجية وموارد اقتصادية. وفي المقابل، تبنت معظم الدول العربية عقلية مشتري السلاح. وقد أنفقت مئات المليارات من الدولارات على شراء أحدث الطائرات والدبابات من الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا. وهذه الصفقات، وإن بدت أنها تعزز القوة العسكرية، إلا أنها خلقت تبعية قاتلة للمورّد الأجنبي في كل شيء: قطع الغيار، الصيانة، التدريب، وحتى الذخيرة. وهذه التبعية منحت القوى الكبرى حق النقض (فيتو) عملياً على أي قرار عربي باستخدام هذا السلاح بشكل يتعارض مع مصالحها.
ثانياً) غياب العقيدة الموحدة وتضارب الأولويات: لم تكن المشكلة في نقص السلاح، بل في غياب الفكر الاستراتيجي الموحد. فبسبب الانقسامات السياسية وانعدام الثقة، لم تتمكن الدول العربية من بناء منظومة دفاعية متكاملة. فجيوش الدول المختلفة تشتري أسلحة من مصادر مختلفة، وهو ما جعل من المستحيل تقريباً تحقيق التوافق العملياتي (Interoperability) بينها في أي معركة مشتركة. وعلاوة على ذلك، تحول شراء السلاح في كثير من الأحيان إلى أداة لكسب الهيبة أو لتعزيز أمن النظام الداخلي بدلاً من أن يكون جزءاً من استراتيجية دفاع وطني شاملة ضد التهديدات الخارجية.
إمكانية كسر الحلقة المفرغة
إن حالة الهوان التي يعيشها العالم العربي ليست قدراً محتوماً، بل هي نتيجة تراكمية لخيارات تاريخية خاطئة، وجروح لم تندمل، وبنى سياسية واجتماعية معطوبة. لقد رأينا كيف أن الدولة الهشة التي ورثها عن الاستعمار لجأت إلى الاستبداد لتثبيت أركانها، وكيف أن هذا الاستبداد ولّد فساداً وخنق الابتكار، وهو ما منعها من النجاح في سباق القوة والتنمية. وهذا الفشل بدوره عمّق الشعور بالهوان والإذلال، الذي جعل قطاعات من الشعب تتوق إلى الرجل القوي المنقذ، مما يعيد إنتاج الاستبداد في حلقة جهنمية مفرغة.
إن كسر هذه الحلقة يتطلب ما هو أكثر من مجرد تغيير الوجوه. إنه يتطلب إعادة بناء شاملة تبدأ من الفرد والمجتمع. ويتطلب الأمر شجاعة نقد الذات، والتصالح مع التاريخ بجراحه وإنجازاته، وتجاوز سردية الضحية إلى سردية الفعل والمسؤولية. ويتطلب ايضاً إعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس جديدة من المواطنة، والحرية، والعدالة، وسيادة القانون، بحيث تكون شرعية الحاكم مستمدة من رضا المحكومين لا من فوهة البندقية.
لقد أظهرت انتفاضات الربيع العربي، رغم مآلاتها المأساوية في كثير من الأحيان، أن الشعوب العربية لم تفقد توقها للحرية والكرامة، وأن جدار الخوف يمكن أن يُكسر. وقد تكون الطريق طويلة وشاقة، ولكن الخطوة الأولى تبدأ دائماً من الوعي العميق بطبيعة الداء، وهذا التشريح لم يكن إلا محاولة متواضعة للمساهمة في هذا الوعي. ولابد من التذكير دوماً بأن الله تعالى خلق الإنسان حراً، فإما أن يختار سبيل الحرية والرشاد، أو طريق العبودية والذل. وأظن بأن شعوب المنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي إلى بحر العرب ستتحر من كل القيود التي كبّلها بها الملعونان سايكس وبيكو.
عبدالرزاق بني هاني كاتب اردني