لعل من غدر الزمن، وأكبر المحن، أن بعض "الدعاة الجدد" صاروا يتهمون ويحاكمون نوايا كل من يكتب -محتسباً- كلمة عابرة عن ضرورة تمكين اللغة العربية في موريتانيا، ويدنفونه ويعنفونه ويصفونه بأنه "عروبي" و"قومي" و"شوفيني" و"عنصري" ويريد إقصاء الأشقاء أبناء الوطن من غير الناطقين بالعربية... حسناً أنا سأصدق كل هذه الاتهامات الرخيصة المجانية، ولكن بشرط أن أجد من يجيب على أحد الأسئلة البسيطة التالية:
- هل بدأت المشكلة اللغوية في موريتانيا قبل أم بعد ظهور الأفراد المحسوبين على التيار القومي العربي؟ الكل يعرف أنها بدأت في أحداث 1966 المؤسفة التي وقعت بسبب موقف بعض الأشقاء الموريتانيين- الأفارقة الرافضين لإدخال مادة اللغة العربية كمادة ثانوية عابرة -بل زائرة- في منهج التعليم. وفي تلك الفترة لم تكن القومية العربية، فكراً ولا إيديولوجيا، قد نجمت ناجمتها بعد في بلادنا. وسبب تلك الأحداث معروف وموثق ومدقق ومَن شهدوا تفاصيلها المملة من آبائنا ما زالوا موجودين متع الله بهم، وحفظهم ذخراً للوطن وأبنائه.
- هل رأى أحد منكم في يوم الأيام مظاهرة تسير في أي مكان من عموم الحوزة الترابية للجمهورية الإسلامة الموريتانية، يرفع فيها ولو إنسان واحد لافتة أو شعاراً مناهضاً لترسيم وتعليم اللغات الوطنية البولارية والسوننكية والولفية؟ وهل فيكم أحد سمع أو يعرف من سمع شخصاً مطالباً بإقصاء أي مكون من مكونات شعبنا الكريم؟ ثم... أليس في موريتانيا الآن أشخاص قوميون عروبيون حتى لو كانوا بعدد أصابع اليد الواحدة، فلماذا لم نرَ أحداً منهم يخرج في الشارع رافعاً شعارات متحاملة على اللغات الوطنية، أو حتى على اللغة الفرنسية نفسها؟ لم نرَ ذلك أبداً. ولكننا رأينا قبل ثلاث سنوات بعض الطلاب والشباب يتظاهرون ضد اللغة العربية! ورأينا نائباً سابقاً محترماً ومثقفاً رفيعاً ما شاء الله وهو ينافح ويكافح على شاشة التلفزة ليثبت في غمرات تحذلقه أن العامية "الحسانية" هي اللغة الوطنية، ليقول بطرف خفي إنه لا دخل لنا بالعربية الفصحى! وزاد على ذلك من الشعر بيتاً آخر حين زعم أن الفرنسية صارت -شئناً أم أبينا- جزءاً من تراثنا وهويتنا الوطنية. وليت الأمر توقف عند هذا الحد... فهل سمع أحد منكم شخصاً في عموم التراب الوطني يزعم لنفسه حق تحديد هوية فئة أخرى من السكان غير فئته؟ باستثناء بعض شذاذ الآفاق والصعاليك والظواهر الصوتية الذين يفعلون هذا دون أن يندى لهم جبين أو يرف لهم جفن بحق المجموعة التي يسمونها "العرب- البربر" مع أنها مجموعة معربة كلها ومندمجة منذ عدة قرون وتجاوزت مرحلة التصنيفات، ولم يعد فيها من يعرف نفسه بالهوية الأمازيغية، ولا أقول البربرية كما يقولون على وجه العنصرية والتنقص!
- إن كان دافع بعض أحزاب الانتهازية والشعوذة السياسية في خذلانه لقضية تمكين العربية هو الإنصاف والحرص على حقوق الأقلية الثقافية، وهذا مقصد وطني شريف، فأين هو من حقوق الأغلبية الثقافية؟ ألا يحق لها هي أيضاً أن تصان ثقافتها وتمكن لغتها، وإن كانت في الواقع لغة جميع سكان بلادنا بحكم كوننا جميعاً مسلمين دون استثناء، والحمد لله، وإسلامنا هو أساس عروبتنا وليس أي أساس عرقي أو عنصري آخر لا ندعيه أصلاً، وغير مهتمين بادعائه من الأساس، ولا يعنينا سوى انتمائنا الثقافي، وانتماؤنا السلالي جميعاً من عجين الطين، كما جاء في محكم التنزيل والنور الحكيم المبين؟ وخاصة إن كانت لغتنا الوطنية العربية لغة عالمية، ملء عيون وآذان العالم، ويتعامل بها في المحافل الدولية ويوجد الناطقون بها من إندونيسيا إلى ضفاف نهر صنهاجة، وهي ضمن ست لغات فقط معتمدة كلغات عالمية في الأمم المتحدة؟ وقبل هذا وذاك، لماذا اعتبار اللغة العربية لغة غير أفريقية أصلاً، وثلثا العرب أفارقة، وثلث الأفارقة عرب، وثلثا الأفارقة مسلمون؟ ومرة أخرى إن كان الإنصاف والعدل هما الدافع لهذا الموقف المتخاذل، فلماذا لا ننصف أيضاً الناطقين بالعربية، وعدد العاطلين اليوم عن العمل من حملة الشهادات المتعلمين باللغة العربية يمثل 20 ضعفاً لعدد العاطلين من حملة الشهادات المفرنسة؟ ألم نفرض بهذه الطريقة بطالة وتمييزاً وعدم مساواة في الفرص أمام حملة الشهادات العربية، مثلما فعلها قبلنا آباؤنا خلال سنوات التأسيس الأولى والعقود التالية لذلك؟
- هل القوميون أو العروبيون أو الشوفينيون -أو الشيطان الرجيم- يتحملون المسؤولية عن تصرفات وممارسات اي نظام موريتاني سابق مع الإخوة غير العرب؟ وهل حكم موريتانيا طيلة تاريخها قومي أو عروبي أو حتى شخصاً قريباً من هذا التصنيف الإيديولوجي لكي يحمل هؤلاء المسؤولية عن مظالم عهد الرئيس معاوية مثلاً... وهل اقتصرت تلك المظالم على شريحة سكانية دون أخرى؟ أنسيتم معتقل واد الناقة، وقبله ممارسات نظام 12-12 بحق جميع القوى والفاعليات الوطنية طيلة 21 سنة، ودون استثناء؟
- ويبقى أخيراً سؤال الأسئلة: أليست هنالك ألف طريقة وطريقة أخرى لخطب ود الشرائح السكانية غير الناطقة بالعربية، ومغازلة فرنسا، وأخذ شهادة حسن سيرة وسلوك سياسي في المحافل الغربية والماسونية غير التهجم على العربية وخذلانها في عقر دارها؟ وادعاء الدفاع عن الأشقاء الموريتانيين- الأفارقة والانتصار لخصوصيتهم الثقافية، مع أنهم هم من نشر اللغة العربية الفصحى في عموم القارة السمراء، ومدارس "الفلاح" وتراث المشايخ الدعاة الفلان والسوننكي خير شاهد على ذلك... وهل نسيتم أن هذا النظام الإداري والتعليمي المفرنس لم يرفع أيضاً عنهم الإقصاء التهميش بل مكن لاحتكار أبناء الأعيان والمترجمين والمجندين الاستعماريين وفرض توريثهم الامتيازات والمكانة ومقاليد السلطة والثروة؟ وهذه هي الحقيقة التي بات يعرفها الجميع، ولا يمكن إغراقها بالتشويه والتمويه والتلفع بالذرائع الواهية غير المقنعة... والخلط بين الوجوه والأقنعة.... وإسقاط الاشياء على ظلالها.... لتبقى دار ابن لقمان على حالها... وللحديث بقية إن شاء الله.