
حدد الباحث الموريتاني في مجال الصناعات الاستخراجية الدكتور يربان الحسين الخراشي خمسة تحديات قال إنها تواجه استفادة موريتانيا من الغاز، داعيا لإدراك أن "مسيرة تحويل الموارد المستخرجة من باطن الأرض إلى فوائد مجتمعية عملية معقدة وطويلة الأجل، وتنطوي على العديد من التحديات والمخاطر والمفاجآت".
وأرجع ولد الخراشي هذه التحديات والمخاطر إلى "الطبيعة التعاقدية مع الشركات الدولية، وكذلك نظرا للسمات الأساسية والتحديات الخاصة بإيرادات الغاز والنفط".
ولفت الباحث في مجال الصناعات الاستخراجية إلى أن موريتانيا توصف بكونها "قد تكون تطفو على بحيرة من الغاز والنفط، إذ تشير الاكتشافات المعلنة إلى أن احتياطاتها تصل إلى أكثر من 100 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وأكثر من 500 مليون برميل من النفط".
وأشار ولد الخراشي إلى أنه "منذ الإعلان عن القرار النهائي للاستثمار بالنسبة للمرحة الأولى من حقل السلحفاة آحميم الكبير المشترك مع الجارة السنغال سنة 2018 عاش الشعب الموريتاني سنوات تأرجحت فيها مشاعره بين الأمل واليأس، وتباينت توقعاته بين الحلم بأن تصبح موريتانيا قطر إفريقيا، والخوف الشديد من خيبة أمل على غرار التجربة مع النفط (2006 - 2018)".
وحدد الدكتور يربان الحسين الخراشي التحدي الأول في "تدقيق التكاليف وتحصيل الإيرادات"، منبها إلى أن الإيرادات قد تواجه "خسائر تشكل تهديدا خطيرا لقدرة البلد على تحصيل أكبر قدر منها، نتيجة لاعتماد عقود الاستكشاف وتقاسم الإنتاج المبنية على استرداد التكاليف لتنظيم العلاقة بين الشركات والدولة، وهوما يشجع الشركات على تضخيم التكاليف لزيادة أرباحها".
وأضاف أنه "حتى الآن تم الحديث عن زيادة كبيرة في تكلفة المرحلة الأولى من المشروع كما أن اللجوء لشركتي "بي بي" و"كوسموس" لتمويل حصتي الشركتين الوطنيتين شركة المحروقات الموريتانية، وشركة بتروسن السنغالية قد يزيد الطين بلة مستقبلا، إذ سيتم تعويض القرض مع الفائدة من الإيرادات".
وتحدث الباحث الموريتاني في هذا التحدي عن نقطة ضعف أخرى "قد تستغل لتقليص إيرادات البلدين ألا وهي التوقيع على اتفاق حصري مع شركة "BP Marketing" لتتولى عملية شراء وتسويق الغاز الطبيعي المسال المنتج من الحقل المشترك، وهو ما يتيح مساحة أكبر أمام شركة بي بي للعب في مؤشرات الأداء المالي للمشروع وهوما يتيح الفرصة للتهرب الضريبي والاحتيال الضريبي أو غير ذلك من التدفقات المالية غير المشروعة".
وحدد الدكتور يربان الخراشي التحدي الثاني في الإدارة الجيدة للإيرادات وتوزيعها، منبها إلى أن هذا "التحدي لا يتعلق بالغاز وحده بل يشمل عائدات الحديد، والذهب، والنحاس، والتربة السوداء، وكل عائدات الموارد النابضة، فموريتانيا هبة الموارد لكن للأسف تحولت إلى ضحية من ضحايا لعنة الموارد نتيجة لغياب السياسات الفعالة لإدارة العائدات رغم درجة التعويل العالية".
ونبه إلى أن مساهمة القطاع الاستخراجي في تكوين الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2022 بلغت حوالي 24%، و30% من إيرادات الموازنة، و77% من إجمالي قيمة الصادرات المصدر الرئيسي للعملة الصعبة.
واعتبر الباحث الموريتاني أن التحدي الأكبر والأخطر في مجال إدارة إيرادات الغاز هو "أن مراكمتها خارجيا يحولها إلى ورقة ضغط تجعل من موريتانيا رهينة اقتصاديا في يد المستعمر السابق، الذي بات يترنح ويخسر يوما بعد يوم نفوذه ومصالحه في شبه المنطقة، ويحاول عزلها عن محيطها وعمقها الإفريقي، وهو ما يعني سجنها بين صحراء تكاد تبتلعها وبحر تكاد تغرق فيه".
ورأى الدكتور يربان الخراشي أن التحدي الثالث هو تحويل الإيرادات إلى أصول مستدامة، عن طريق تحويل الإيرادات المؤقتة والمتذبذبة إلى أصول مستدامة من خلال استخدامها لبناء مستقبل أفضل للأجيال بالإنفاق الفعال في التعليم، والبنية التحتية من أجل استغلال موقع موريتانيا كمنفذ تجاري عالمي في العالم الجديد.
ودعا ولد الخراشي لتحويل تركيز المندوبية العامة للتضامن الوطني ومكافحة الإقصاء (التآزر) من مندوبية تعتمد فلسفتها في محاربة الفقر على سياسية نقل الدم (الإغاثة وتوزيع الأموال)، التي تؤدي إلى تراجع الكفاءة الاقتصادية، وتنامي الاتكالية إلى مندوبية تعتمد سياسية تكوين الدم عن طريق التخطيط الجيد والتوجيه الفعال لخيارات الاستثمارات المحلية الوطنية خاصة الاستثمار الريفي.
فيما حدد التحدي الرابع في خلق ترابط بين الغاز والصناعة الوطنية، منبها إلى أن موريتانيا غير قادرة في المدى القريب على تطوير الصناعة البتروكيميائية نظرا لغياب البنية التحتية الصناعية واليد العاملة، ومع ذلك قد تكون أمامها فرصة لتعظيم الاستفادة من الغاز عن طريق خلق ترابط بين قطاع الغاز الناشئ وقطاع الصناعة الوطنية بتحويل الغاز إلى الطاقة من جهة من أجل خفض تكاليف عوامل الإنتاج (أسعار الكهرباء والنقل)، وتحسين إنتاجية الشركات الوطنية، وقدرتها التنافسية، وكذلك تحسين جاذبية الاستثمار الخارجي.
ودعا ولد الخراشي لجعل الغاز دافعا قويا للتقدم نحو الصناعة التحويلية في مجال المعادن التي تخلق قيمة مضافة أكبر، وفرص عمل أكثر، والأهم أن تخلق قدرة استيعابية أكبر للاقتصاد الوطني يمكنها أن تمتص كل الأموال التي ستتدفق من الغاز بعد استغلال "بير الل"، وحتى الأموال المتأتية من مشاريع الهيدروجين الأخضر إن كتبت لها الحياة.
وتوقف ولد الخراشي مع التحدي الخامس والأخير، والذي حدده في "تجذر الفساد وانتشاره"، مشيرا إلى أن موريتانيا سارت في نفس الهيكل التنموي الذي تركه المستعر، حيث الاعتماد على مناجم الشمال والصيد مع إهمال تام للثروة الحيوانية والزراعة عماد الاقتصاد الريفي، وهو ما أسس لنظام اقتصادي ريعي يلازمه فساد كبير.
وأضاف أن "الفساد والاقتصاد الريعي وجهان لعملة واحدة، لأن الدولة ذات الاقتصاد الريعي ينحصر فيها دور النظام الحاكم في الغالب على جمع العائدات، وإعادة توزيعها بطريقة لا يهم فيها التوزيع العادل بل ما يهم هو ضمان بقاء النظام عن طريق شراء الذمم، وضمان الولاء السياسي".
ووصف ولد الخراشي موريتانيا بأنها "تمتلك سجلا من الفساد المنهجي واسع الانتشار، والمتجذر في كل القطاعات، والأخطر من ذلك أن الفساد في موريتانيا بات يتمتع ببيئة اجتماعية حاضنة من الشعب لا يضاهيها شيء، حيث أصبح المسؤول الفاسد يتمتع بحظوة ووصاية اجتماعية وسياسية وربما دينية كبيرة".
وتوقف ولد الخراشي مع ترتيب موريتانيا على مؤشرات دولية منها 130 من أصل 180 دولة على مؤشر مُدرَكات الفساد لعام 2024، كما حصلت على 22.9 من أصل 100 نقطة بالنسبة لنزاهة الحكومة، و28.1 من أصل 100 نقطة بالنسبة للكفاءة القضائية وفق مؤشر الحرية الاقتصادية العالمي لسنة 2024.
ونصح ولد الخراشي بضرورة "الخروج من سيطرة وهيمنة مكاتب الدراسات والاستشارات الأجنبية على القرار الوطني في مجال النفط والغاز والطاقة بصورة عامة، فأيادي هؤلاء بدأت تمتد لتشمل مجالات أخرى أكثر حساسية".
وشدد ولد الخراشي في ختام مقاله على أنه آن الأوان لموريتانيا أن تدرك أن "نجاح أي بلد في الاستفادة من موارده الطبيعية، يعتمد بصورة خاصة على قدرته في تحديد وتنفيذ سياسة واضحة ومتكاملة في المجال يؤمن بها ويدعمها ويستفيد منها أكبر عدد من المواطنين والشركات الوطنية".
وأردف: "لقد آن الأوان أن ندرك أن إيرادات الصناعة الاستخراجية يجب أن تساهم مساهمة مباشرة في عملية النهوض بالريف لضمان عدم انتقال عدوى الفوضى والانقلابات في المنطقة إلى موريتانيا، ولتأمين عبور آمن لها إلى عالم ما بعد الهيمنة الغربية، وأن ندرك أن جوهر محاربة الفقر ليس في التخلص منه بل بمنع العودة إليه".