
كان رمضان في البادية شيئًا مختلفًا، تجربة إيمانية خالصة، لا تشوبها ضوضاء المدن ولا مغريات الترف، بل كان صفاء النفس هو العنوان الأبرز، وكانت البساطة هي التي تمنح للشهر الكريم رونقه وخصوصيته. هناك، حيث الأرض الفضاء والسماء المفتوحة، حيث الجبال والرمال تتعانق، كان الناس يستقبلون الشهر الكريم بقلوب متلهفة ونفوس خاشعة، بعيدًا عن ضوضاء الحياة الحديثة التي أفسدت على الناس كثيرًا من المعاني السامية للصيام والقيام.
البادية وصفاء رمضان في تگانت، بين سفوح الجبال ورمال الصحراء، كان رمضان يأخذ شكله النقي، حيث لا ضوضاء سيارات، ولا ازدحام الأسواق، ولا ضجيج القنوات. فقط صفاء الطبيعة التي تعكس صفاء القلوب. كان الناس يصومون يومهم رغم حر البادية وشدة الجفاف، فلا مكيفات تهوّن العطش، ولا ثلاجات تحفظ البرودة، فقط قناعة ورضا، وإيمان بأن المشقة في الصيام جزء من الأجر.
عند الغروب، تجتمع العائلات حول إفطار متواضع، يتكون غالبًا من التمر وحساء بسيط، وربما شيء من اللبن أو الكسكس، لا إسراف ولا تكديس للأطباق، وإنما بركة تنبع من بساطة الطعام وصدق النية. ثم يهرع الجميع إلى المسجد، حيث صلاة العشاء والتراويح خلف شيخ حافظ، صوته يصدح بالقرآن فيرتل فيؤثر، والناس خلفه في صفين أو ثلاثة، يصغون بخشوع، كأنهم جسد واحد وروح واحدة تتبتل بين يدي الله.
الليل في البادية كان زمنًا للذكر والسمر النافع، حيث تتعالى أصوات المسنين يحكون عن الصالحين، وعن عبادة لمرابط الحاج ولد فحف الذي كان صيامه قيامًا، وقيامه زهدًا، وعبادته مدرسة قائمة بذاتها. ينام الناس مبكرًا استعدادًا ليوم جديد من العبادة والصبر، لا مكان للسهرات الفارغة، ولا للغو الذي يذهب بروحانية الشهر.
رمضان اليوم.. حين تاهت الروحانيات وسط التناقضات أما اليوم، فقد تبدلت الأحوال، وأصبح رمضان في المدن مليئًا بالتناقضات التي تكاد تفقد الشهر معناه. فبينما يُفترض أن يكون زمنًا للزهد والتقشف، صار موسمًا للإسراف والتبذير. الأسواق تمتلئ بالمتسوقين الذين يشترون أكثر مما يحتاجون، والمطابخ تكتظ بأصناف الأطعمة التي لا تُؤكل في النهاية، بينما تمتلئ القمامة ببقايا موائد كان يكفي نصفها.
أصبح الناس يسهرون طوال الليل على المسلسلات والمباريات، ويغرقون في نقاشات لا طائل منها، ثم ينامون عن الصلاة المكتوبة، ولا يستيقظون إلا قبيل المغرب، فيهرعون إلى موائد الإفطار وكأن الجوع هو محور الصيام. ومع أن صلاة التراويح لا تزال محبوبة، إلا أن الكثيرين يؤدونها في المساجد وكأنها عادة اجتماعية، لا شعيرة روحانية.
أما القرآن، الذي كان أنيس الصائم في البادية، فقد صار غريبًا في كثير من البيوت، لا يُتلى إلا قليلًا، إذ شغل الناس عنه بالهواتف والشاشات. حتى الصدقات، التي كانت تُعطى من القليل، صارت تُنتظر من الجمعيات، وكأن فعل الخير أصبح مرهونًا بمبادرات الغير، لا بنية فردية خالصة.
أين نحن من زمن الطهر والنقاء؟
لعل الفرق الجوهري بين رمضان الأمس ورمضان اليوم هو في طبيعة النفس البشرية، فقد كانت النفوس في البادية أكثر صفاء، بعيدة عن الشبهات، قانعة بالقليل، منشغلة بالأهم. لم يكن هناك تسابق على المظاهر، ولا تفاخر في الموائد، بل كانت العبرة بالخواتيم، وكان الحرص على العبادة نابعًا من حب صادق، لا من عادة أو تقليد.
أما اليوم، فقد ألهت الماديات الناس عن جوهر الصيام، وأصبحت روحانية الشهر تتوارى خلف زخارف الحياة الحديثة. صار الصيام مجرد امتناع عن الطعام والشراب، لا جهادًا للنفس ولا سموًا بالروح، وصارت التناقضات تطبع حياة الصائم، بين نوم عن الفريضة وحرص على النافلة، وبين إسراف في الطعام وزهد مصطنع في النهار.
هل من عودة إلى نقاء البادية؟
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكننا استعادة شيء من صفاء رمضان القديم؟ ربما لن نعود إلى حياة البادية، لكننا نستطيع استعادة روحها، بتبسيط حياتنا في هذا الشهر، والتخفف من الشهوات، والتركيز على جوهر الصيام، لا شكله. يمكننا أن نعيد للقرآن مكانته، وللصلاة هيبتها، وللعبادة معناها الحقيقي.
في النهاية، رمضان ليس شهر الطعام والشراب، بل شهر الروح، وإذا لم ننتبه، فقد نستيقظ يومًا لنجد أننا صمنا عمرنا كله، دون أن نذوق طعم الصيام الحقيقي.
سيدي محمد ولد دباد
2رمضان 1446هـ
2مارس2025