لم يعدْ مفهوم ” امن و استقرار المنطقة ” ،والذي كان سائداً ، في سبعينيات القرن الماضي وما تلاها من عقود ،صالحاً كحُجّة لضمان أمن ومصالح إسرائيل . انتهى مفعوله و اصبح غير صالح للاستخدام ،منذ احتلال العراق ،وتفشي ظاهرة الإرهاب ،ونمو ظاهرة الحركات المسلحة و حركات المقاومة الفلسطينية و الإسلامية في المنطقة .
كما لم يعدْ مفهوم ” الصراع في الشرق الأوسط ” يعكسُ حقيقة المشهد الامني و السياسي للمنطقة ،أصبحَ اليوم صراعات في الشرق الأوسط ذات طابع سياسي و ذات طابع عسكري ، وجمعيها تنتظرُ حلاً دون امل و تتوجسُ حرباً دون رغبة .
سبب هذه الصراعات هو إسرائيل ،ليس فقط وجوداً ،وانما توسعاً و أطماعا وقدرة على ارتكاب الجرائم و الممنوعات و المُحرمات دون حساب ،وما شهدناه منها في الماضي ،ونشهدهُ أيضاً اليوم في غزّة هي خيرُ دليل .
نعيشُ صراعاً سياسياً عربياً اسرائيلياً ، اي بين العرب كدول و انظمة ،ومعهم السلطة الفلسطينية وبين اسرائيل ككيان مُحتلْ ومدعوم وعصيٌ على كل مقترحات ومشاريع الحلول . وهذا الصراع السياسي العربي الإسرائيلي لا يستثني أحد ، حتى تلك الدول التي لها علاقات واتفاقيات سلام وتطبيع مع إسرائيل ،هي أيضاً تواجه تداعيات هذا الصراع ،وتشعرُ بالحرج ازاء رفض وتعنت إسرائيل بقبول حلول سلمية للقضية الفلسطينية، والضغوطات الأمريكية ، و ازاء ارادة شعوبها المؤيدّة للقضية الفلسطينية ،والمطّلعة على هول جرائم إسرائيل . وهو صراع يُرهق العرب دولاً وشعوباً و يُريح إسرائيل وامريكا.
نعيشُ أيضاً صراعاً عسكرياً بين حركات المقاومة العربية الفلسطينية والإسلامية وبين إسرائيل . وهو صراع عقائدي وثوري وتجسّدَ بأكثر من معركة و حرب بين هذه الحركات المسلّحة المقاومة وبين إسرائيل ، و هذا هو الصراع الذي يُرهق إسرائيل وكذلك امريكا، وهو صراعٌ متحرر من التأثير الأمريكي الإسرائيلي السياسي .و الداعم الأساسي لحركات المقاومة ،الداخلة في صراع عسكري مع إسرائيل و امريكا هي ايران ،والتي تخوض صراع ثالث في المنطقة مع إسرائيل و امريكا.
أصبحَ الصراع الرئيسي العسكري في المنطقة صراعاً إيرانياً اسرائيلياً ، وخاصة بعد تاريخ ٢٠٢٤/٤/١٤ ،اي بعد الهجمة الإيرانية على إسرائيل بالمسيّرات والصواريخ.
بعبارة اخرى انتقل الصراع العسكري مع اسرائيل من هويته العربية إلى هوية إسلامية -إيرانية -عربية متمثّل في حركات المقاومة العربية و الإسلامية وبتعدّد انتماءاتها وهواياتها . ومِنْ نتائج الصراع الإيراني الإسرائيلي هو انتقال ايران من مرحلة الصبر الاستراتيجي إلى مرحلة الردع الاستراتيجي بينها وبين الكيان المحتل .ومن نتائجه أيضاً، اصبحت الحرب في المنطقة خطاً أحمراً لجميع اطراف الصراع ،لا إسرائيل ،وهي القادرة تكنلوجياً على الحرب ، ترغب وتجرأ على الحرب ،ولا إيران ،والتي لا ينقصها العتاد والسلاح والمصنّع محلياً ، ترغب وتجرأ على الحرب.
عندما كان الصراع العسكري عربياً -اسرائيلياً في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ، تعدّدت الحروب بين إسرائيل والعرب ،والتي، بسببها توسّعت إسرائيل جغرافياً . لم يكْ حينها بين العرب و إسرائيل حالة توازن في الرعب او ردع استراتيجي متبادل، كان التفوق الاسرائيلي سيد الموقف .
اليوم ،وبعد عملية طوفان الأقصى، في ٧ اكتوبر عام ٢٠٢٣ ، والتي قادتها حركة حماس ( حركة من حركات المقاومة ) ،وبعد الهجوم الصاروخي الإيراني ،بتاريخ ٢٠٢٤/٤/١٤ ، لم يعدْ التفوق الإسرائيلي سيداً لحالة الصراعات بين إسرائيل من جهة وايران وحركات المقاومة ،من جهة اخرى .استعانت إسرائيل للحماية والدفاع ،ليس بتفوّقها التكنلوجي العسكري ، وانما بأمريكا وفرنسا وبريطانيا وغيرهم ،للحماية وللدفاع .
لهذه الاستنتاجات دلالات استراتيجية كبيرة لمن يستشرفُ المستقبل ،مستقبل المنطقة ، وخاصة لفواعل المنطقة دولاً و حركات ،و لأطراف الصراع في المنطقة .
ومن بين هذه الدلالات لا حّلْ لصراعات المنطقة ، مالمْ يتم تطبيق شريعة القانون الدولي على إسرائيل ،لأخراجها من حالة الجنون إلى حالة الانسنة و العقلنة . على إسرائيل ان تدرك بأنَّ الزمن لم يعد لصالحها ،كما كان من ذي قبل ، وانما لصالح حركات المقاومة العسكرية والسياسية المناهضة لجرائم إسرائيل ،ولصالح الرأي العام الدولي والشعبي المناهض ،ليس فقط لجرائم الابادة التي ترتكبها اسرائيل ،و انما حتى لبقاء الكيان المحتل في المنطقة .الصراع المسلّح لم يعد عربياً اسرائيلياً، وانما صراعات مع اسرائيل تقودها ايران ، وذات طابع عقائدي و ثوري وتحرري ، و موضوع هذه الصراعات ليس فقط فلسطين والقدس ،وانما ايضاً مصالح و نفوذ إيران في المنطقة وفي آسيا . ايران تنظرُ لإسرائيل ،ليس فقط كياناً محتلاً لفلسطين والقدس ،وانما قاعدة أمريكية في المنطقة ، تستهدفُ إيران والمسلمين ومصالح الشعوب في المنطقة.
(المقال موضوع محاضرة ألقيت على طلاب المعهد الدبلوماسي في وزارة الخارجية العراقية ،بتاريخ ٢٠٢٤/٤/٢٣).
السفير الدكتور جواد الهنداوي كاتب عراقي