دارَ حوارنا حول غزة. ما بينَ قنوطي وفزعي، وإيمانٌ مقابلٌ، غيرِ مهزوزٍ، بالنصر. جادلتُ بما أعرفهُ وأراهُ من دمارٍ و الرَّدُ كان عن ثقةٍ غيبيةٍ تؤيّدها آياتٌ وأحاديثُ شريفةٌ وغابرَ التاريخ والبطولات. ذاكَ زمنٌ و هذا زمنٌ مغايرٌ تماماً، قلت. كيف يستوي الزمانين وما من ملائكةٍ تُرسلُ مردفةً؟ غادرتُ الجلسةَ شاكَّاً بشكوكي و الجدلَ المقابلَ الغيبي. ثم داورتُ سيلَ التحليلات وخرائطَ التوضيح ونتائج اللقاءات والمؤتمرات الصحفية التي أُتابعها كل يوم وليل أحاولُ أن أَجِدَ خيطاً أمسكهُ يقودُ نحو استنتاجَ النصرَ أمام هذه القوةَ الغاشمةَ، فما وجدتُ. كل الدلائل المنطقية الملموسة تقودَ لاستنتاجٍ في غير رغبتي. تقولَ أنَّ الكثرةَ الغاشمة ستغلبَ القلة المجاهدة الشجاعة.
دفعتُ عن نفسي بقوةٍ هجمةَ الشعور بالهزيمة ولم أنجح بالكامل. أجَّجَ هذا الشعورَ تلك الدلائل من المبثوثات الحية المؤلمة من غزة وذلك التكالب لقتلها والتجاهل لمأساتها إلا من قولٍ يتبعه قول لا يُغني و لا يُسمنُ من جوع. أجَّجهُ ذلك الانزلاق العربي المتوالي الذي لا يخجل ولا يرعوي في فم الاستسلام، والخوفَ من الكثرةِ الباغية تحيط بالشجاعِ المقاوم. استعادهُ لكامنِ نفسي تاريخنا الحديث المهزوم الذي رأيناه و عشناه منذ صار لنا وعيٌ.
وتعاملتْ في نفسيَّ اللواجعَ تارةً تأنيباً وتارةً خوفاً و تارةً فؤاداً يكاد أن يكونَ فارغاً و تارةً يصارعُ ذاته يكادُ أن يشقَّ الشغافَ شوقاً لانتقام. وربطتُ إذ يأِسْتُ لذلك أملي بالأمل والمعجزة. ثم اختزلتها، في صحوةٍ، لأربعة محاور. محورٌ يقول بالمقاومة، فإما نصرٌ وإما شهادة. و محورٌ مع المقاومة لكنه بلا حول و قوة، لا يستطيع و يُمنعَ عن المساندة الفعلية. ومحورٌ يصدعُ بالعويل جلْباً لانتباه البشرية للفناء في غزة. ومحور ٌ يعملُ مع الصهيونية لتمكينها من إنقاذ نفسها من نفسها، بالقضاء على غزة المقاومة وتحويل غزة المدينة لمرفأٍ سياحيٍّ ترفيهيٍّ يخدم انتاج غاز البحر ويحقق ذلك الشرق الأوسط الجديد تباعاً مع إخضاع من يرفضه.
قَرَنتُ المحاورَ بالفئات التالية: مجاهدون، و مؤمنون بلا حول، ومنافقون، ومشركون كفرة. المجاهد هو المقاومُ الفاعل في غزة والمؤمن هو نحن في غالبنا و الصادعُ منافقٌ و الصهيوني مشركٌ كافر. في هذا لا تعدو غزة أن تكونَ بَدْراً وأُحُداً و أحزاباً حول خندقاً. لم يعد يتسعُ خيالي و ألمي إلا لهذا التشبيه فقد فقدتُ التنزيلَ العقلي لهذه الحرب و لم تعد تتسع روحي إلا للتفسير والتنزيل اليقيني. ما من ملجأٍ منه إلا إليه يا غزة. لسان حالك يقول: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، اللهم إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل على غضبك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله.
علي الزعتري دبلوماسي أُممي سابق
الأردن