تنفست التنظيمات المتطرفة في الشرق الأوسط الصعداء مع تباشير "الربيع العربي" الذي وفّر لها ظروفا مثالية للعمل في بلدانها بحرية بعد أن دمر أو أضعف مؤسسات الدولة فيها.
لم يعد أنصار الفكر المتطرف في بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مضطرين كما في السابق إلى تجشم مشاق السفر و"الهجرة" إلى مناطق "الجهاد" في أفغانستان أو العراق. صار الآن بإمكانهم "الجهاد" في مدنهم وقراهم وأحيائهم، واستضافة نظرائهم من أقاصي الأرض.
تنطبق هذه الحالة، على ليبيا أكثر من غيرها من دول الجوار لسبب جوهري يتمثل في انهيار مؤسسات الدولة بشكل تام بعد الإطاحة بنظام القذافي بدعم جوي من الناتو عام 2011 وتعدد مراكز القوى ومصادر القرار فيها، وانتشار الفوضى العارمة، وتنافس الخصوم واقتتالهم.
وهكذا تحولت ليبيا المترامية الأطراف بسرعة لتصبح بيئة مناسبة للتنظيمات المتطرفة العنيفة. وأسهمت عناصر كانت مطاردة وأخرى عقدت ما يشبه الصلح مع النظام عبر "مراجعات شرعية" في القتال ضد القذافي وخاصة في شرق البلاد. ولم تعد هذه التنظيمات مضطرة للاختباء والعمل السري، بل أصبح لها وجود علني ومؤسسات ومليشيات مدججة بالأسلحة ومقرات رسمية في عدد من المدن، وباتت تلاحق العسكريين ورجال الأمن لقتلهم أو استتابتهم بخاصة في بنغازي وسرت ودرنة.
ظهرت التنظيمات المتطرفة بقوة في ليبيا منذ بداية الأحداث في عام 2011 وبخاصة في درنة وبنغازي، وفيما بعد في سرت التي أصبحت لتنظيم "الدولة الإسلامية" في ليبيا بمثابة مدينة الرقة في سوريا.
هذه التنظيمات التي توزعت على الرغم من تسمياتها المتنوعة بين تنظيمي "القاعدة" و"الدولة الإسلامية" لم تظهر هكذا فجأة. لقد عاد المتطرفون الهاربون من الشتات إلى بيئاتهم الأصلية. عاد متطرفو درنة وبنغازي وهوارة إلى مدنهم ولحقهم آخرون من السعودية والبحرين والكويت والسودان وتونس ومن دول وسط آسيا ومناطق أخرى.
لم تجد التنظيمات المتطرفة أي قوة تردعها على الأرض في ليبيا، فعملت بحرية، بل وتحصلت على أسلحة من مؤسسات السلطة المؤقتة التي كانت منحصرة في العاصمة طرابلس. وكان عدد من فصائلها يتلقى أفراده مرتبات مجزية من خزانة الدولة.
تمكن تنظيم "الدولة الإسلامية" من الاستحواذ على سرت، مسقط رأس الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، واستغل نفور سكانها من "ثوار 17 فبراير" الذين تركوا مدينتهم أطلالا بعد المعارك العنيفة التي انتهت بمقتل القذافي في 20 أكتوبر 2011 وما تلا ذلك من عمليات نهب واسعة طالت كل شيء.
توسع تنظيم "الدولة الإسلامية" بالتدريج وتمكن من طرد قوات تابعة لحكومة طرابلس في شهري مايو ويونيو الماضيين، وتوسع لاحقا جنوب المدينة وشرقها، ولم يعد لمؤسسات لدولة أي وجود هناك.
قبل ذلك، قام تنظيم الدولة بإعدام 21 قبطيا مصريا بطريقة وحشية في فبراير من العام الجاري، ونشر مشاهد لعملية الإعدام الجماعي على شط البحر المتوسط وجه خلالها تهديدات صريحة لأوروبا.
تمكن التنظيم من فعل كل ذلك من دون أي رد فعل. انسحبت قوات طرابلس نهائيا من المنطقة واستقر الأمر له هناك، وبات وجوده أمرا واقعا، مع انشغال الفرقاء الليبيين بالتنافس على السلطة والثروة فيما بينهم وتغافل السلطات عما يحدث في سرت.
هذه السلطات كانت أرسلت قوات تابعة لها إلى مدينة بن وليد الواقعة جنوب شرق طرابلس، واستصدرت قانونا من المؤتمر الوطني العام بالخصوص في عام 2012 للقضاء على مسلحين محليين يشتبه في أنهم موالون لنظام القذافي. وهي قاتلت بلا هوادة منافسين آخرين في طرابلس، وانتزعت مواقعهم بما في ذلك مطار العاصمة الرئيس صيف عام 2014.. وهاجمت مناطق ورشفانة في وقت لاحق، وخاضت قوات تابعة لها معارك عنيفة في براك الشاطئ مع محمد بن نايل، وهو ضابط موال لحكومة طبرق. وتمكنت من أسره في في أبريل الماضي، إلا أن سرت بقيت بعيدة عن أي عمليات عسكرية كبيرة من هذا النوع.
واللافت أن تنظيم "الدولة الإسلامية " في مدينة سرت لم يواجه أي مقاومة حقيقية إلا من قبل جماعة سلفية تمكن من القضاء على انتفاضتها بسرعة، في حين اضطر تنظيم الدولة أيضا إلى التخلي عن مواقعة داخل مدينة درنة شرق البلاد بعد معارك عنيفة مع "مجلس شورى مجاهدي" المدينة المقرب من القاعدة.
لم يكتف تنظيم "الدولة الإسلامية" بالتمركز في سرت ودرنة ومحيطهما فقط، بل تدل شواهد عديدة على وجود خلايا ومراكز له في جميع المدن الليبية بما في ذلك طرابلس وفي مدينة صبراتة إلى الغرب منها. كما يظهر مسلحون للتنظيم وهم يقاتلون قوات "الجيش الليبي" التابع لحكومة طبرق في مدينة بنغازي.
هذا الوضع يُظهر أن تنظيم "الدولة الإسلامية" يقف الآن بالفعل أمام بوابة أوروبا البحرية الجنوبية، وأنه يتمدد هناك ويقيم قواعد وملاجئ آمنة للوافدين من الدول الأخرى، بل ويعمل تحت إدارة مباشرة من قبل مبعوثي "البغدادي".
يبدو ذلك واضحا بوجود البحريني تركي البنعلي في سرت، والعراقي وسام نجم الزبيدي المكنى بأبي نبيل. واشنطن تصف الزبيدي بأنه زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية" في ليبيا، وهي تؤكد أنه قُتل في غارة شنتها مقاتلاتها على مدينة درنة قبل عدة أيام.
تصريح البنتاغون بهذا الشأن يشير إلى أن الولايات المتحدة تسعى إلى حماية "أمنها الوطني" من خلال إبعاد البغدادي عن ليبيا. المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية عبّر عن ذلك بقوله إن "مقتل زعيم داعش في ليبيا العراقي أبو نبيل المعروف أيضا بوسام نجم عبد زيد الزبيدي، سيضعف قدرات تنظيم "داعش" على تحقيق أهدافه في ليبيا بما في ذلك تجنيد عناصر جدد، وإقامة قواعد في ليبيا، والتخطيط لشن هجمات خارجية على الولايات المتحدة".
محمد الطاهر
المصدر:RT