ما يحدث في غزة منذ السابع من تشرين أول يشكل منعطفا تاريخيا في الصراع العربي الإسرائيلي، وحدثا غير تقليدي في تاريخ الحروب المعاصرة.خمسة وسبعون عاما من الإحتلال والظلم والقتل الذي مارسه الكيان المحتل ،وعدة حروب خاضتها بعض الدول العربية ،لم تفضي إلا إلى المزيد من الغطرسة والقهر الصهيوني، وإهانة كرامة الشعب الفلسطيني، وسرقة أراضيه ومياهه وتهويد مقدسات الأمة. على مدار العقود السبعة الماضية امور كثيرة تغيرت ،وللاسف معظمها على المواقف الدولية والعربية تجاه القضية الفلسطينية.
قرارات متعددة لمجلس الأمن الدولي ومبادرات متعددة رفضتها إسرائيل ،تبع ذلك اتصالات (تحت السجادة) وزيارات مع الكيان الصهيوني، ثم اوسلو وما تبعها من قيام السلطة الفلسطينية، ثم اتفاقيات سلام بين دول عربية في مقدمتها مصر والاردن ما لبثت وأن تبعتها بعض دول الخليج و”الدومينو” ما زآل مستمرا في السقوط العربي والخضوع للسيد الأمريكي والغطرسة الإسرائيلية.
شكل يوم السابع من تشرين الأول ظهور النور في آخر نفق النضال الفلسطيني ، يوم أسقطت المقاومة كل النظريات العسكرية التقليدية ،وأهانت الكرامة العسكرية لجيش طالما تغنى بأنه من أقوى الجيوش في العالم ،وأن الغرب يمكنه الركون إليه والإعتماد على قدراته في تنفيذ الهيمنة الأمريكية والأوروبية في هذه المنطقة الساخنة من العالم.
هذا كله مفهوم ومعلوم من قبل المواطن العربي الذي أصبح على قناعة بأن قادته لا يمثلون طموحاته وآماله وان لديهم إزدواجية عجيبة في تعاملهم مع القضية الفلسطينية ،حيث يظهرون لشعوبهم العربية استماتتهم في الدفاع عن فلسطين والمقدسات في الوقت الذي يركع هؤلاء القادة للقيادات الصهيونية الأمريكية والإسرائيلية.والأغرب من ذلك أن بعض الدول العربية تتهالك وتتسابق لإقامة علاقات مع إسرائيل وهي بعيدة جغرافيا عنها ،وليست في حالة حرب معها، ولا تستفيد كثيرا من التطبيع معها.
ويبزغ فجر السابع من تشرين الأول ليقلب كافة الحسابات ويدحر جميع الفرضيات العسكرية العربية والغربية ليقف نفر من المناضلين الأشداء في وجه العدو ويخوض معه حربا على مدار ما يقارب ثلاثة شهور ،رغم الحصار وتفوق العدو في العديد والعتاد .جميع القيادات العربية التي تتقلد جميع أنواع الأوسمة والنياشين، ويفرش لها السجاد الأحمر،وتتولى قيادات أركان الجيوش لم يكن بمقدورها أن تفعل شيئا غير الشجب والإستنكار وأحيانا إرسال طرود المساعدات الإنسانية التي لا تدخل إلا بإذن نتنياهوا وزمرته.خسائر العدو البشرية في هذه الحرب تتجاوز خسائره التي تكبدها في الحروب مع العرب مجتمعة.
يا ترى كيف يمكن للشعوب العربية أن تصدق قياداتها التي تستقبل العسكريين والدبلوماسيين الأمريكان الشركاء في الجريمة، وهم من يقودوا الحرب ويزودوا الجيش الصهيوني بالأسلحة والذخائر والمسيرات والمعلومات الاستخبارية ،وهم من يعقدون المؤتمرات الصحفية في البيت الأبيض والبنتاغون ليعلنوا عن سير المعارك وشروطهم للهدنة وتصوراتهم لما بعد العدوان ومن يدير غزة!!!. اربعة وخمسون قيادة عربية وإسلامية تشكل ثلث مجموع الدول في الأمم المتحدة ،وتمتلك أكثر من 40% من المخزون العالمي للنفط لم تتمكن من إدخال جالون واحد من المحروقات الى غزة إلا بعد أن تزايد الحرج أمام الرأي العام العالمي، وتزايد الضغط الشعبي في شوارع لندن وشيكاغو وبلفاست وعمان ومدريد. والأدهى من ذلك وأغرب قيام بعض القيادات العربية بمهاجة المقاومة في السر والعلن وممالئة الغرب الظالم على مواقفه المناوئة للفلسطينين وحقهم في مقاومة الإحتلال.
حسابات النصر لم تكن يوما مرهونة بالعدة والعديد ،على أهميتها، ولو كان الأمر كذلك لبقيت أمريكا في فيتنام لغاية الآن ، ولبقيت جنوب إفريقيا ترزح تحت نظام الفصل العنصري ،ولبقيت أمريكا في أفغانستان، ولبقيت فرنسا في الجزائر وفي النيجر. إرادة الشعوب واستعدادها للتضحية وتشبثها بأرضها وحقوقها هي أكثر الأسلحة فتكا وفعالية فكيف إذا كان الإيمان بالله وكتابه ووعده هو البوصلة للنضال ،والنصر أو الإستشهاد هو عنوان المعركة والكفاح !!!
ما يسطر في غزة يشكل تاريخا ومعلما بارزا من الناحيتين العسكرية والسياسية. فمن الناحية العسكرية ستصبح الحرب على غزة وما تخوضه المقاومة من معارك ،وما يتكبده العدو من خسائر عسكرية هائلة دروسا تدرس في الأكاديميات والمعاهد العسكرية.أم التدمير في المباني وقتل المدنيين فهو ليس حربا وانما جرائم حرب ستتم ملاحقة نتنياهو وزمرته ،وربما بايدن أيضا، في المحاكم الدولية على غرار محاكمة سلوبودان ميلوشيفيتش رئيس صربيا السابق على جرائمه في البوسنة والهرسك.أما على المستوى السياسي فإننا نعتقد أن العدوان على غزة والصمود الإسطوري للمقاومة ولأهل غزة ،وخان يونس ،والشجاعية ،وبيت لاهيا، سيكون له تداعياته على المستويين المتوسط والبعيد على ما تبقى من التأييد والمخزون الشعبي للقيادات السياسية في الوطن العربي ،وسيستفز انتصار المقاومة ونجاحها في وضع القضية الفلسطينية في موقع متقدم على المشهد السياسي الدولي ضمير المواطن العربي ويدفعه لمراجعة صبره،ويأسه، وسكوته، وخضوعه لأنظمة سياسية تتماهى مع الغرب ومصالحه على حساب مصالح الأمة.
الأستاذ الدكتور أنيس الخصاونة كاتب اردني