في المألوف ، ان الخيول هي التي تجرّ العربة ، أمّا حين تكون العربة هي التي تجرّ الخيول ، فان الصورة تكون معكوسة وقاسية ، و يتصبب العرق من الخيول وهي تلهث محاولة ايقاف العربة ، ولكن الجاذبية تشدّها وتسحب اعنقاها حتى تتكسر ، فاما ان تفلت العربة واما ان تسحبها الى الوادي السحيق . ويبدو لي ان الشارع الفلسطيني يقود القيادات الان ، وعموما فان الشعوب العربية هي التي تقود حكامها وليس العكس .
صحيح لقد انتهى عصر الخوف من الاحتلال ، كما انتهى عصر الخوف من مسؤول يهدّد انه سينتقم من مواطن لانه كتب " بوست" ضده على صفحة الفيسبوك ، انتهى هذا الزمن مرة والى الابد ، لان المعرفة حين تأتي لا يمكن ان تذهب . وحين يعرف الانسان ويتعلم شيئا جديدا ، وحين تعرف المجتمعات وتتعلم شيئا جديدا لا يمكن ابدا ان تتنازل عن هذه المعرفة من اجل اي قائد او حكومة او حزب . فالمعرفة مادة لا يمكن ان تختفي او تؤجل او تندثر او تنسى . فقد تغيرت الشعوب العربية وصارت تعرف اشياء عن السياسة والمشاركة بالقرار . ولكن ماذا عن الاستراتيجية ؟
تقديرات المخابرات الاسرائيلية ان الانتفاضة ستستمر لعدة اسابيع لانها تتدافع ديناميكيا وتولد نفسها من نفسها ، وتقديرات القيادات الفلسطينية ان استمرار الاعمال الانتفاضية ستولد حراكا سياسيا اسرائيليا داخليا وربما دوليا يصب في مصلحة فكرة حل الدولتين .
اجهزة المخابرات في المنطقة تتسابق لمعرفة كل شئ عن الجيل الفلسطيني الجديد . لماذا يحمل السكاكين ؟ لماذا يدهس ؟ لماذا يركض نحو الموت من دون خوف ؟ لماذا كف عن الخوف والتردد ؟ ولا نريد هنا في هذه المقالة ان نتبرع باجابات مجانية ، دعهم يتعبوا في التفكير قليلا .
انتفاضة الشوارع الفلسطيني ليست الاجابة وانما هي السؤال للقادة العرب : لماذا فشلتم ؟ لماذا سكتم ؟ لماذا تقاتلتم على الكراسي في زمن الانحطاط ؟ لماذا قبلتم ان يفعل الاحتلال كل هذا بكم ؟ لماذا راهنتم على امريكا مرة اخرى ؟ لماذا أنتم مفعول به ولستم الفاعل ؟ لماذا صارت الانظمة تتشابه مع المعارضة وجميعهم صاروا يشبهون المنظمات غير الحكومية ويلبسون نفس البدلات ويركبون نفس السيارات وعندهم نفس المرافقين ولهم نفس الفضائيات وياكلون في نفس المطاعم وينامون في نفس الفنادق ؟
بنظرة عامة للمنطقة ، سنجد انه لم يعد هناك وقت للزعماء العرب لكي يفكّرو ويخطّطوا . لان القوى العظمى قررت ان تعود بأساطيلها وبوارجها وحاملات طائراتها ورصاصها وقنابلها لتعيد ترتيب هذه الفوضى بطريقتها ولاهدافها .
وقد اقتنعت امريكا ان جميع الحكومات العربية مجرد ادوات استخدام لمرة واحدة لا يمكن اعادة تدويرها . واقتنعت ان اسرائيل هي الثابت الوحيد في تحالفاتها ولن تفرط بها ، وان جميع القادة العرب من اليمين واليسار ، من العلمانيين ومن الشيوخ لا قيمة لهم ولا بد من تدخل الاساطيل للقيام بدورها عوضا عنهم .
اسابيع فقط .. وربما أشهر وتنتهي اخر فرصة للجامعة العربية ان تقرر او ان تتدخل في القرارات الدولية من الدول العظمى ، حتى ان جامعة الدول العربية لم يجر دعوتها لحضور اتفاق امريكا وخمسة زائد واحد مع ايران في فيينا ، وكانها لا تستحق مجرد الدعوة لحضور التوقيع . ونحن نشاهد على الهواء كل يوم حرب عالمية ثالثة صامتة يجري خلالها اعادة تقسيم العالم العربي وافريقيا والشرق الاوسط بين الدول الكبرى من دون ان ندري انها الحرب العالمية الثالثة .
اشهر وتقرر اسرائيل والدول العظمى الاخرى مصير حل الدولتين ، ومصير الدول العربية الاخرى كافة بلا استثناء ، والى ذلك الحين يمكن للعرب ان ينشغلوا ويستثمروا أكثر في مسلسلات رمضان القادم وفتح المزيد من الفضائيات التي تشتم الجيران والطوائف الاخرى .
د. ناصر اللحام