مفاجآت تلو المفاجآت، يلقي بها الفيضان عنيفة قاهرة.. لم يعتقد أكثر الاستشرافيين خيالا التنبوء به.. كل ذلك بفعل مئات من شباب فلسطين قرروا الانتصار، فاقتحموا الحدود نحو ديارهم ومواطن أهلهم .. كل شيء انهار امامهم، أعتى الجدر المكهربة والالكترونية والمواقع المحصنة فلقد قاتلت الارض مع بنيها، ووقع الغزاة بين قتيل وأسير وهارب.. ساعات هربت من واقع الآمة تضخ روح الانتصار في اوصالها وتلقي الوهن والانهيار في جيش تم التعارف عليه أنه جيش لا يقهر..
قراءة في سياق عالمي:
من الصعب أن نتمالك أعصابنا ونذهب الى فتح الموضوع على كل ابعاده وظروفه وامتدادته الواقعية ذلك لان صوت الدمار الذي يلحق ببيوت الامنين في غزة يقض ارواحنا ولايترك لنا فرصة تدبر ولعل هذا أحد أهداف العدو.. قائمة مفتوحة على قوافل الشهداء والجرحى والذين لايزالون يسبحون الله تحت الانقاض و كلما خرج أحدهم هتف بعلو صوته لن نرحل ولن نستسلم.. انه مشهد تراجيدي يصلح للارتقاء الى مستوى الايات البينات لاهل الاخدود.
رغم ذلك فلن نحرم التأمل فيما يحصل برؤية واسعة لا يضيقها الواقع القريب.. فلقد أدرك الامريكان انهم امام اخر امتحان لهم بعد عجزهم عن حسم المعركة ضد الروس في أوكرانيا وقد اتضح لهم انه دخلوا كمين روسي مستنقع بكل انواع الفواتك لاستنزاف قوتهم ودفعها الى الخلف رغم كل التجييش العالمي على مستوى الدول للمشاركة في تدمير روسيا والقضاء على الخطر الوجودي الماثل.. فشلت امريكا وكادت تعلن عن افلاسها وانهيار مشورعها..
في هذه المرحلة الحرجة بدأت بعض دول المنطقة تتحسس لها سبيلا بعيدا عن الاندماج في التوجيه الامريكي وهكذا أصبحنا نلاحظ كيف ان بعض دول النفط تخرج عن طوق الطاعة للقرار الامريكي بل تتجه الى وضع شروط على الطاولة ليس من السهل تجاوزها.. و لا يمكن اغفال التحرك العربي نحو البريكس أي الى تحالف يكسر الحصار عن روسيا التي اصبحت محل اجتماعات استراتيجية بين بعض الدول العربية وقادة موسكو.
لكن امريكا كانت تبني قواعدها العسكرية بالقرب من حقول النفط العربي في قطر والعراق وسورية والكويت وسواها من دول المشرق العربي واماراته.. واصبح من الواضح ان العمليات السابقة التي اخترعتها الولايات المتحدة في عناوين القاعدة وداعش انما كانت جسر عبورها الى اغنى مناطق العالم بالبترول.. وكلما توطدت القواعد العسكرية الامريكية أصبحت الحاجة اكثر الحاحا للكيان الصهيوني على اعتبار انه اكبر قاعدة على اليابسة..
جاءت العملية العسكرية الفلسطينية طوفان الاقصى بعد أن اعتقدت الدوائر الامنية الاسرائيلية والامريكية والعربية الصديقة لهما ان الوضع الفلسطيني اصيب بالخيبة والانهيار بعد ان وصلت العملية السياسية التي تقودها قيادة السلطة الى فشل ذريع بل والى الانضواء شيئا فشيئا في خدمة الامن الاسرائيلي.. ولقد أصبح حال الفلسطينيين في مهب الريح سياسيا فيما الحصار خانق على قطاع غزة و الحواجز تقطع اوصال الضفة الغربية والاخطر من ذلك كله ان قد تحول المسجد الاقصى الى مزار صهيوني يلهو فيه صبية الصهاينة ويمنع المسلمون من الصلاة فيه وقد ازدادت الخطورة الى ان لحق بالاقصى مؤامرة التقسيم المكاني والزماني على طريقة الوصول الى الاستيلاء عليه تماما وتحويله الى كنيس صهيوني.
لقد أصاب العمى صناع القرار الامريكي والاسرائيلي وهم يتابعون التطورات في المنطقة فظنوا بان كل شيء يسير الى نهاياته في الحالة الفلسطينية والعربية وزادهم طمعا ان هرولت كثير من الدول العربية الى علاقات تحالف مع العدو وتنسيق أمني وصياغة محاور لاعادة صياغة المنطقة بعد أن دمرت عواصم عربية تاريخية بغداد ودمشق وخرجتا من دائرة الفعل مقيدتين بعوامل واقعية كارثية.. ومن المعلوم ان هاتين العاصمتين الاكثر حساسية للشأن الفلسطيني وانهما عمق استراتيجيو جيوسياسي للقضية الفلسطينية.. كما انهم الحقوا بمصر كثيرا من الاذى وقيدوها بديون ارهقت الاقتصاد المصري واجبرت الدولة الى بيع الاصول.. هذا وسواه من شئون العرب المتردية دفعت بالرئيس الامريكي وهو سياسي عتيق موغل في عداوة المسلمين والعرب الى القيام بحملة مكوكية لالحاق بقية العرب باتفاقيات ابارهام وكانت السعودية محل تركيزه وهو يعرب ان السعودية ستجر خلفها عشرات الدول الاسلامية وذلك لمكانتها الروحية والمالية..
كان الاندفاع الامريكي قويا ومتسارعا لبسط اليد تفصيليا على مفاصل المنطقة واوكل لاسرائيل المهمة الكاملة رغم انها مرهقة لكيان محدود الخيال والطموح الا انه وفي لحظة واحدة اصبحت اسرائيل تمد رجليها في الخليج العربي ودول عربية وازنة واصاب الصهاينة شعور بالغرور الكبير لدرجة ان حركتها امتدت لاقتحام افريقيا عبر دولها وعبر الاتحاد الافريقي.
هذا هو السياق الموضوعي الذي يجب ان نرى فيه الحدث التاريخي -طوفان الاقصى- وحتى نستطيع فهم سبب هذا الدعم الجنوني الامريكي والفرنسي لاسرائيل التي تعرضت لعملية عسكرية محتزلة في مقولة واحدة وهي نريد تحرير ارضنا.. وكان الفعل عبارة عن بروفة لما يمكن ان تقوم به الامة عندما يحين الحين وتتقدم قوافل المجاهدين من الجزائر والمغرب وتونس وليبيا والعراق وسوريا والحجاز وتركيا وايران ولبنان.. ان كل شيء اصبح ممكنا بعد هذا الطوفان.
ان كنتم تألمون فانهم يألمون:
في سجل الكفاح الانساني لنيل الحقوق تبرز حقيقة كبيرة وهي ان الاستعمار حيوان بليد وعنصري ووحش متيبس المشاعر.. وانه لايفهم الحقائق ولايدرك السنن ويمعن في الغباء فيذهب الى تفجير ينبوع التجدد الثوري وهو نيله من الابرياء قتلا وفتكا.. فيكفي ان نلعم ان رؤساء امريكا الاربعة السابقين قد الحقوا بالمسلمين من المجازر مالم يلحق بهم عبر قرون.. اكثر من 10 مليون عربي ومسلم تم قتلهم في العراق وافغانستان وسورية وليبيا واليمن وكل ذلك قد تم بتحطيط وادارة امريكية.. ولا ننسى ان الاستعمار قتل في يوم واحد من العزل الجزائريين اكثر من 45 الف انسان كان ذنبهم انهم يطالبون بحريتهم وحقهم في تقرير مصيرهم..
كل هذا اختزنته الامة في عميق مشاعرها ووجدانها وشاركنا في ذلك احرار العالم الذين وقفوا معنا كلما اشتد اورا المعركة وزاد لهيبها.. وهذا مازاد طمعا لدى القتلة المجرمون ولكنهم هذه المرة وقعوا في شر تفكيرهم ولعل ضربة على رأسهم افقدتهم التلذذ بالجريمة ولحم البشر.
لا ننكر ما نحن فيه من مجازر والم وفقد لاحبة واهل وتدمير للبيوت وارعاب للاطفال والنساء وشطب عائلات من السجل المدني والحاق الاذى بملايين الفلسطينيين والعرب والمسلمين والاحرار وهم يتابعون بحزن وقهر ما يحصل في طاع غزة
ولاننكر اننا نعيش القهر المزدوج عندما نرى النكران والتخلي من النظام العربي الذي انقسم الى عدة مراتب كلها تحت مستوى الوسطة ولم ينحز اي من النظام العربي بجرأة ورجولة وكرامة الى المقاومة والشعب الفلسطيني ولقد فاجأت الهمة الفلسطينية والقفزة الرائعة النظام العربي السابح في خدره والمرتبط بوجوده مع رضى الامريكان والفرنسيين.. صحيح هذا وضحيح أننا نتألم كثيرا ونبكي احبتنا ولكنها دموع انسانية كما قال وائل الدحدوح وليست دموع الانهيار والانكسار الذي اصيب به العدو الصهيونية.
ولكن أيضا لابد ان نشير الى ما اصاب العدو وليس عبر تقارير موضوعية او منصفة انما حسب تقريرات صادرة عن المؤسسات الاعلامية الصهيونية حيث ترسم لنا مشهدا في غاية الانهيار على المستوى الامني والسياسي والعسكري والاجتماعي .. فهذا الكيان الصهيوني دخل الكمين بقدميه فضاعت اسراره وضرب امنيا واصبحت قواته في كف المقاومة.. لاول مرة مئات الجنود قتلى ومئات الجنود مصابين والافهم مرضى نفسيا.. والمؤسسات الاقتصادية في انهيار رهيب وتكلفة حرب لم تعتدها المؤسسة العسكرية الاسرائيلية حيث 300 الف من التحاق خدمة الاحتياط وما يلزمهم من انفاق وسوى ذلك من ملاجيء وما يلزمها من انفاق واستنفار امني كامل في كل الكيان الصهيوني ..ما تشهده الحالة الاجتماعية الصهيونية في هذه الايام لا يمكن تخيلها فلقد اصبح الجنون والخوف والرعب والهرب هو المصطلحات المواتية لتوصيف ما يحصل في اسرائيل.. اختلافات عميقة واضطرابات وتصارع وفرق عسكرية جبانة غير قادرة ان تنفذ قرار الاجتياح بعد 3 اسابيع من القصف المركز..
العدو الان في حالى مأساوية معنويا وعلى مستولا الادارة بين المستويات السياسية والامنية والعسكرية والاجتماعية ورغم محاولات اعلامية بائسة تعتمد الكذب الا ان المنصف يتاكد من احباط يشل الالة الاعلامية الصهيونية مما يضطرها الى الكذب الفاضح المكشوف الذي يرتد الى نحر الاعلام الصهيوني الذي عاد بلا اي مصداقية..
العامل المرجح في الصراع:
نحن والكيان الصهيوني معروضان على الراي العالمي الشعبي.. وهنا الذي هو أكبر من التوقع فيكفي ان نتابع مظاهرات واشنطن وشباب امريكا الذين يرتفع فيهم مستوى تاييد الرواية الفلسطينية الامر نفسه في شوارع لندن وشوارع اسبانيا حيث المظاهرات العملاقة والتي لم تتوقف منذ عديد الايام معلنة ان الحق الفلسطيني ثابت ولا يجوز تجاوزه.. ان هذه المظاهرات رغم قلة حيلتنا وعدم منهجيتنا في الوصول الى الشعوب الا ان فلسطين اصبحت العنوان الانساني الابرز والاقدر على محاصرة بايدن ورؤساء اوربا وعزلهم والدفع بقوى الخير في المجتمعات القوية والفاعلة في صناعة الراي العام العالمي.. وبالاضافة الى ذلك يجب متابعة تطورات وتحولات في مواقف كثير من الشخصيات العالمية مفكرين وسياسيين ومثقفين وفنانين..
اننا نمتلك عامل الترجيح في هذه المعركة وهو الضمير الانساني والوجدان الحي بعيدا عن التصنيف العرقي والديني وهذا اقوى مايمكن ان تحققه قضية معينة.. وهو مستمر في التصاعد والقوة مستلهما من المظلومية التي تلحق بالشعب الفلسطيني وهجا جديدا ودفعا اكثر وتحررا من قيود النظام الراسمالي المجرم.
المقاومة الفلسطينية مرحلة جديدة:
بعد 3 اسابيع حاولت القوات الصهيونية مدعومة بخبراء وكماندوس امريكي وقادة عسكريين امريكان كان لهم دور في حرب امريكا على العراق وافغانستان.. بعد 3 اسابيع بدأت المحاولات العدوانية لاجتياح قطاع غزة لكن جهل الامريكان وعنجهيتهم اوقعهم في الفشل الذريع فغزة ليست الموصل وغزة ليست قندهار.. غزة هذه هي مدينة ادريس عليه السلام الذي وضع علما لايدركه الا روح غزة انه علم الرمل وكشف الاسرار وهي غزة التي احتوت اليها جد رسول الله صلى الله عليه وسلم السيد هاشم وهي موطن الامام الشافعي واولياء الله من الصالحين .. هي غزة يكفي ان نعرف انها لم تعرف الشرك قط فلقد كانت كنيستها الثالثة بعد المهد والقيامة وهي كنيسة لم تعرف التثليت بل كنيسة وحدانية استقبلت العرب الفاتحين بان قسمت ارض الكنيسة الى نصفين نصف في كنيسة والاخر مسجد للمسلمين ولازالت هذه الصورة الرائعة قائمة لكل من زار غزة المسجد بجوار الكنيسة..
غزة تستعد لتسجيل ملحمة الكرامة والعزة للامة وهي لا تطلب من احد ان يقوم بواجبه فالكل يعرف الواجب وهو مسؤول امام الله عن واجبه.. ولكنها تقول لكل العرب والمسلمين انه بامكاننا المقاومة والتحرر وان نكون اسياد في بلادنا وان لا نذل لسفراء امريكا وفرنسا الذين لم يعد من اللائق ان يتواجدا بيننا فيما هما يعلنان الانحياز الكامل للظالمين المجرمين..
الايام القادمة هي انتصارات وهي ايام عظيمة مهما تالمنا فان غزة سترفع رؤوسكم ولن يمروا ابدا الا على اجسادنا ولن نسلم الراية ولن نعلن الهزيمة ولن نرحل.
صالح عوض لاجئ فلسطيني مقيم في الجزائر