تمر علينا هذه الأيام ذكرى عزيزة على قلب كل عربي وهي ذكرى تحقيق أهم انتصار عربي على الكيان الصهيوني في العصر الحديث والذي نسف أسطورة الجيش الذي لا يقهر، تحقق ذلك في أكتوبر عام ١٩٧٣م بحرب مشتركة على جبهتين عربيتين؛ الأولى قناة السويس المصرية، والأخرى هي هضبة الجولان السورية، وبتنسيق مشترك بين القوات المسلحة في البلدين العربيين العظيمين جمهورية مصر العربية والجمهورية العربية السورية. ونحن إذ نعيش هذه الأيام الخالدة في الذاكرة العربية لا يسعنا إلا أن نتقدم بالتهنئة للأمة العربية، وبالأخص الشعبان العربيان المصري والسوري، ونسأل الله الرحمة لأولئك الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل التحرير واستعادة الأراضي العربية المحتلة. ورغم الظروف التي سادت تلك الحرب إلا أن ما تحقق فيها يعتبر نجاحا عظيما يحسب لهذه الجيوش العربية ولهذه الأمة، وأهم تلك الأهداف هو استعادة قناة السويس وجزء من أراضي سيناء واستعادة مدينة القنيطرة، وجزء من هضبة الجولان السورية، وتحقيق العبور، وهز كيان العدو والتأكيد على أن الأمة متى ما اتحدت فإنها قادرة على تحقيق النصر، كذلك وحدة الصف والموقف العربي واستخدام سلاح النفط في المقاطعة العربية للدول الداعمة للكيان الصهيوني، وهي نتائج بلا شك عظيمة سجلت في التاريخ بأحرف من نور. ورغم تقلص حجم النصر في المرحلة اللاحقة من الحرب إلا أن العدو لم يحقق لاحقا أية انتصارات استراتيجية، وانتهت الحرب باصدار القرار ٣٣٨ ووقف إطلاق النار على خط الهدنة، وتم توقيع اتفاق فض الاشتباك لاحقا في يونيو ١٩٧٤م، لكن الملف في هذه الحرب هو استخدام جميع مبادئ الحرب من قبل القوات العربية وتطبيقها خاصة في الايام الاولى من الحرب مرحلة العبور والايام الاولى التي تلت العبور وهنا نسجل شهادة للتاريخ على كفاءة وعبقرية اولئك القادة الذين خططوا للمعركة واستخدموا كل العلوم العسكرية بتحقيق النصر الاولي في تلك الحرب التي بدأت في الساعة الثانية بعد ظهر يوم ٦ أكتوبر وقد طبقت القوات على الجبهتين المصرية والسورية العديد من مبادئ الحرب، فما تحقق يعتبر ملحمة أسطورية خاصة في الأيام الأولى من تلك الحرب.
أهم المبادئ التي طبقتها القوات العربية في المعركة هي المفاجأة التي تحققت من خلال اختيار التوقيت المثالي بتحديد يوم السبت في عطلة عيد الغفران لدى اليهود واشتراك القوات المصرية والسورية في نفس ساعة الصفر، لذا استطاعت القوات المصرية أن تنفذ عبور القناة إلى الضفة الشرقية وتجاوز كل خطوط الإعاقة والموانع الطبيعية والصناعية مثل المانع المائي المتمثل بقناة السويس وسد خطوط النابالم الحارقة، واجتياز أسطورة خط بارليف وتدمير المانع المتمثل في التحصينات والقوات المدرعة في النقاط الحصينة، وهذا بحد ذاته يعتبر نجاحا عسكريا عظيما يحسب للقوات المصرية، وكذلك على الجبهة السورية حيث وصلت القوات السورية إلى جبل الشيخ، ما جعل القيادة “الإسرائيلية” في وضع لا تحسد عليه، وعليه فقد اجتمع السفير الإسرائيلي مع وزير الخارجية الأميركي في البيت الأبيض لاطلاعه على آخر مستجدات الحرب والتي كانت تنذر بكارثة كبرى على كيان الاحتلال، فقد بلغت الخسائر في ظرف(٣) أيام أرقاما مهولة حيث تم تدمير (٥٠٠) دبابة للعدو منها (٤٠٠) على الجبهة المصرية وعدد كبير من الطائرات والسيطرة على المنطقة بعمق ١٢ كيلومترا شرق القناة، وفشل الهجومات المضادة التي تبعت مرحلة العبور من قبل قوات العدو، كذلك سيطرت القوات السورية على مساحة كبيرة، والحديث هنا عن الأيام الأولى للحرب التي تحقق فيها النصر الفعلي للقوات العربية، كذلك تحقق للقوات العربية مبدأ الأمن من حيث المعلومات الدقيقة التي توافرت عن إمكانات العدو ومعرفة الأرض جيدا، وخطة الخداع والتمويه التي نفذت قبل الحرب، ومن المبادئ الرئيسية التي حققتها القوات العربية المشتركة مبدأ المبادأة والاحتفاظ بهذا المبدأ خلال الأيام الأولى وذلك من خلال اتخاذ قرار الحرب، ومباغتة القوات المعادية واستمرار عنصر المبادأة بعبور ٦٠ ألف مقاتل مصري إلى الضفة الأخرى من القناة في ظرف وجيز وفتح الثغرات في الساتر الترابي بطريقة عبقرية من قبل ضابط في سلاح المهندسين بواسطة خراطيم المياه، وكذلك استمر عنصر المبادأة بإعطاء الصلاحيات للقادة في مختلف المستويات في حرية اتخاذ القرار حسب ما يتطلبه الموقف، كذلك تحقق مبدأ التعاون والتنسيق بين مختلف الأسلحة والذي كان له دور كبير في المعركة، إضافة إلى مبدأ حشد القوات الذي تحقق بحشد أكثر من مئتي طائرة وما يقرب من ١٠ فرق متنوعة بين مشاة وميكانيكية ومدرعة على الجبهة المصرية مع إنشاء رؤوس الجسور على الضفة الشرقية للقناة و٢٠٠ مدفع وشبكة دفاع جوي، وقامت القوات البحرية بإغلاق باب المندب أمام القطع المعادية، وعلى الجبهة السورية تم حشد القوات بما يلبي خطط الحرب، واستمر عنصر المبادأة وتقدم القوات السورية التي استعادت مساحات كبيرة أيضا .
رغم ما حدث بعد الأيام الثلاثة الأولى من الحرب ومعركة العبور العظيمة والتفوق السوري الذي حدث في بداية الحرب، إلا أن ما حدث لاحقا بالحرب يمثل تغيرا جذريا في خط سير المعارك، ويعزو الكثير من المراقبين الخطأ الكبير باستخدام السادات لقرار تطوير القتال بعد الوقفة التعبوية أنه أحد أسباب تقلص حجم النصر وخطأ كبير جعل من قوات الجيشين الثاني والثالث المصرية هدفا سهلا للطيران المعادي في الوقت الذي تم إقامة جسر جوي لإمداد إسرائيل بأحدث القطع الحربية من الولايات المتحدة، ما أسهم في إحداث تغيير كبير في مسار الحرب وحدثت ثغرة الدفرسوار بين الجيشين الثاني والثالث، وتوسعت لاحقا لتشمل ٤ ألوية معادية اخترقت نحو الضفة الغربية، والاختلاف الذي حدث بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية، هذا الخلاف الذي بدأ مع قرار تطوير القتال، وكذلك في مسألة معالجة الثغرة، ثم حدث حصار الجيش الثالث والخسائر الكبيرة في القوات المصرية، وكذلك كان الحال على الجبهة السورية، ورغم ما حدث إلا أن إسرائيل لم تحقق نتائج استراتيجية في الحرب فقد عادت السيطرة على القناة بيد مصر وبدأت الملاحة فيها عام ١٩٧٥م، ولم تستطع احتلال أي أراضٍ حيوية في مدن القناة بفضل المقاومة العظيمة، وكذلك استعيدت القنيطرة السورية وبعض الأجزاء من الجولان، وبذلك سجلت تلك الحرب انتصارا للعرب أنهت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وهو انتصار تاريخي يحسب للأمة العربية التي اتحدت من مشرقها إلى مغربها في موقف موحد ونبض عربي موحد، وهذه كلها نتائج عظيمة تؤكد أن الأمة متى ما اتحدت قادرة على العودة وتحقيق النصر.
الدروس المستفادة بدأت بعد حرب ١٩٦٧م بموقف عربي جماعي موحد واستعدادات لمعركة النصر، واستمر ذلك حتى بدء حرب أكتوبر ١٩٧٣م، والأهم في تلك الحرب أنها جاءت بعد حرب استنزاف استمرت ٣ سنوات منذ عام ١٩٦٨م حاولت خلالها الولايات المتحدة وإسرائيل الوصول إلى سلام مع العرب عبر عدة محاولات لكن تم رفضها باعتبار أن ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، وتمسك العرب بوحدة موقفهم وعدالة قضيتهم، وتعلقت قلوب أبناء الأمة مع جبهات القتال واستمد الجنود قوتهم من خلال إيمانهم بالنصر، وقد تحقق بفضل الصمود والإرادة ووحدة الهدف والإصرار على تحقيق النصر.
خميس القطيطي كاتب عُماني
[email protected]