تابعت تعليقات القراء و الزملاء الأفاضل على مقال “المغرب والجزائر في أمس الحاجة لإستحضار ومحاكاة استراتيجية وعقلانية وشجاعة “ديغول” و”أديناور”” و لا يسعني إلا شكر الدكتور محي الدين عميمور على تفاعله الإيجابي، كما أشكر باقي المتدخلين على ملاحظاتهم و إضافاتهم القيمة ، و علينا الإعتراف أن درجة الخلاف يمكن تجازوها إذا خلصت النوايا و تم تغليب مصالح شعوب المنطقة ، خاصة و أن الظرفية الدولية تشهد ثوتر بين القوى الكبرى و العالم مهدد بحرب عالمية ثالثة ، و منطقتنا المغاربية قد تكون مسرح لتصفية الحسابات بين هذه القوى، إلى حدود الساعة الوضع لازال تحت السيطرة، و أمل أن يتم تجاوز منطق الصراع و الصدام و قصف البيانات و تغليب منطق التعاون و التكامل و الوئام …
فالمتغيرات الدولية التي يشهدها النظام الدولي فرصة نادرة للبلدان العربية والإسلامية للتحرر من الهيمنة الغربية و النظام الاقتصادي و المالي الغربي و التحرر التدريجي من قبضة الرأسمالية المتوحشة و النظام النقدي العالمي القائم على قاعدة الدولار … و الدفع باتجاه تغيير قواعد اللعبة الدولية و الدعوة إلى إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب و القطيعة مع الهيمنة الأمريكية و المركزية الغربية ..
وعلينا، كعرب ومسلمين أن ننظر إلى المتغيرات الحالية في الساحة الدولية، بطريقة أكثر إيجابية، وينبغي استغلالها بذكاء ومسؤولية و برغماتية شديدة للتأسيس لاقتصاديات حقيقية تنتج الغداء و الدواء و الكساء و تلبي الاحتياجات الأساسية التي توسع خيارات الشعوب، بعيدا عن مجرد الوساطة أو القبول ببعض الأنشطة الهامشية أو الطفيلية، التي تنمي الفقر و التخلف أكثر مما تحقق التنمية الفعلية..
فالنموذج التنموي الذي ابتكره الغرب و ساد المعمورة شرقا و غربا، و تبنته مختلف الدول بما فيها الصين، لم يعد صالحا لبناء المستقبل، بمعنى بناء إقتصاديات قادرة على تحقيق النمو دون إضرار بالبيئة و تدميرها ، و تحقيق التوزيع العادل للثروة و الدخل محليا و دوليا، فهذا النموذج بلغ ذروته، و ما نراه اليوم من تدهور إقتصادي و تدمير بيئي و انحطاط ثقافي و تفشي الأوبئة و ترليونات الدولارات تتبخر و لا نراها إلا على أسطح الشاشات، و لو أنها فعلا استثمرت في عمارة الأرض و توسيع خيارات الأفراد و الأمم لكان الوضع مغايرا على ما هو سائد اليوم…
إن هذا التنافس الجديد بين القوى القديمة و القوى الصاعدة ، وهو للعلم تنافس لم يسبق أن كان بمثل هذه القوة و التنسيق و خاصة بعد تأسيس تكتل بريكس، هذا التنسيق بدأ يظهر و يتقوى بعد الأزمة الاقتصادية العالمية التي ظهرت العام 2008 و التي كشفت و عرت مصداقية النموذج الليبرالي الجديد، خاصة و ان القوى الصاعدة نجحت في تجاوز الأزمة و الحد من تداعياته ، و ما أهلها لذلك هو ابتعادها النسبي عن محاكاة النموذج الليبرالي الجديد الذي ساد بأغلب البلدان الغربية ، فاستطاعت البرازيل مثلا أن تحافظ على تحكم الحكومة و تدخل الدولة الفعال في ضبط النظام الاقتصادي و المالي و المصرفي، و نفس الأمر يسري على الصين التي كانت من بين أول الدول التي شهدت نموا كبيرا بعد أزمة 2008 و شكل هذا النمو طوق نجاة للاقتصاد العالمي و أزماته المالية ، و قد نجحت الصين في استغلال الفرصة من خلال التوسع في شراء سندات الدين الأوربية و الأمريكية و في الاستثمار بهذه البلدان بكتافه و هو ما أهلها للاستحواذ على العديد من العلامات التجارية البارزة و بالتالي مكنها من تقليص الفجوة التكنولوجية و نقل المعارف و الخبرات للداخل الصيني..
علينا أيضا أخد العبرة من برغماتية و عقلانية مكونات مجموعة بريكس و خاصة الثلاثي الأوراسي “الصين و الهند و روسيا” ، فهذه البلدان بينها خلافات تاريخية و دخلت فيما بينها في حروب بخاصة الصين و الهند، لكن مع ذلك نجحت في تغليب المصالح المشتركة فبرغماتية قيادة هذه البلدان و مرونتها مكنتها من صناعة تحالفات بناءة ، فقيادات البلدان المؤسسة للمجموعة تخدع لمنطق المصالح المشترك و تغلب التعاون على الصراع و الصدام..
فمجموعة بريكس تشكّل اليوم بديل حقيقي لمجموعة السبع، فالمجموعة مجتمعة تشكل نحو 40% من مساحة العالم، و تضم أكبر 5 دول مساحة في العالم وأكثرها كثافة سكانية، وهي بذلك تهدف إلى أن تصبح قوة اقتصادية عالمية قادرة على منافسة “مجموعة السبع” G7 التي تستحوذ على 60% من الثروة العالمية.
و لعل قمة المجموعة المتوقع إنعقادها بجنوب إفريقيا يوم 22 غشت 2023 ، ستكون قمة تاريخية و نقطة فاصلة ليس لبريكس فقط ، وإنما للعالم اجمع ، حيث من المتوقع اعلان عملة جديدة للتعامل بها بدلا عن الدولار، و في حال ماتم إطلاق عملة بريكس فسيتم فعليا و عمليا ، كسر الهيمنة الغربية ونفوذها الجيوسياسي و كسر أدوات الهيمنة الأمريكية و بخاصة الدولار الأمريكي، و ستكون العملة الجديدة بمثابة الخنجر الذي سيقطع وريد اقتصاد المركز الرأسمالي العالمي وسياساته الإمبريالية و الاحتكارية و الإستغلالية و الربوية..
لكن السؤال الذي يطرح هنا هل ستنجح حقا بلدان المجموعة في إطلاق العملة الجديدة و بالتالي نجاح ” تحالف الشرق” بقيادة الصين وروسيا بإلإضافة الى القوى الصاعدة فى النظام العالمي في إنتزاع مركز الثقل بشكل سلس و إقامة نظام دولي جديد متعدد الأقطاب؟ أم أن “تحالف الغرب” بقيادة أمريكا ستدافع عن مكانتها و هيمنة عملتها على النظام النقدي والمالي العالمي و بالتالي ستلجأ للقوة الصلبة لكسر شوكة تحالف الشرق و إفشال مخططاته؟
و هنا لابد لنا من الأخذ بعين الاعتبار جزئية عدم حضور بوتين للقمة، فقد أصبح شبه مؤكد أن الرئيس الروسي ” بوتين ” لن يحضر للقمة في جنوب إفريقيا و سيشارك عن بعد، و قد صرح خلال مؤتمر صحفي في سان بطرسبورغ معلقا على عدم مشاركته في قمة” بريكس” المقبلة: “لا أعتقد ان حضوري قمة “بريكس” أكثر أهمية من وجودي هنا في روسيا الآن”
و من المعلوم، أن الجنائية الدولية قد أصدرت في مارس/آذار الماضي مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي بتهمة ارتكاب جريمة حرب على خلفية “ترحيل” أطفال أوكرانيين..”
و من المؤكد أن عدم حضوره للقمة سيتم توظيفه من قبل الدعاية الأمريكية و الغربية على أنه إنتصار ، و سيحد تدريجيا من إندفاع بعض البلدان المترددة و التي لم تحسم بعد تموقعها في ظل هذه المتغيرات الدولية، لأن عدم حضوره سيفسر على أن بوتين خائف و مرعوب، خاصة و أن الرجل له رمزيته بداخل روسيا و خارجها..
و قد توقعت سابقا أن الرجل سيكون أول الحاضرين في القمة المقبلة، لأن الغرب يدرك أن إعتقال بوتين يعني انفجار حرب نووية لا تبقي و لا تدر ..لكن يبدو أني كنت مخطئ في توقعي، و لعل عدم حضوره مؤشر على أن الوضع الداخلي الروسي غير مستقر خاصة بعد تمرد مجموعة فاغنر، وأتمنى أن لا يؤثر عدم حضوره على مخرجات قمة بريكس المقبلة و على عملتها المرتقبة …. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
الدكتور طارق ليساوي إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..