حتى وقت قريب كانت الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، في تعاملها السياسي والاقتصادي والإعلامي والدبلوماسي عبر مختلف أدواتها مع أحداث الدول العربية خاصة والشرق أوسطية ومناطق أخرى في العالم الثالث عامة، تكشف عن مواقفها الفعلية، من تأييد ومعارضة وغضب وارتياح. كان هذا الأمر منطقيا لدى بعض المحللين خاصة لأن تلك المناطق كانت مستعمرات ومحميات سابقة ولا تزال تعاني من أطماع ناهبيها القدماء، أو ممن يسعى ليكون من ورثة الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية المتحللة. وبناء على هذه المواقف كان من السهل بناء تصور للأحداث المستقبلية وسبل التعامل معها.
هذا الأسلوب في التعامل العلني المكشوف تبدل وتبلور بأساليب عديدة ومتجددة وأخذ في التوسع والتطبيق في العديد من المناطق خاصة عندما بدأت ردود الفعل المحلية والإقليمية لحدث ما في منطقتها تتأثر بشكل جذري وتولد موقفا رافضا أو معاكسا لما تتخذه الدول الغربية من مواقف.
في الكثير من أرجاء المنطقة العربية وأفريقيا وآسيا سجل أن الرأي العام كان يراقب مواقف الدول الغربية خاصة من طرف المستعمرين القدماء، تجاه دولة وحدث أو حكومة ما، فإذا وجدها معادية يقدر أن الطرف المستهدف لا يعمل لصالح الاستعمار القديم وورثته، والعكس صحيح.
وسائل الإعلام الغربية الكبرى سجلت هذا التوجه والتحول وأعطت أمثلة كثيرة، مشيرة إلى كيفية تعامل الرأي العام خارج التحالف الغربي مع الحرب الدائرة والمتصاعدة منذ فبراير 2022في وسط شرق أوروبا ونفورها من مواقف الغرب، والوضع مشابه في الشرق العربي منذ المأساة الفلسطينية في أربعينيات القرن الماضي مرورا بالعدوان الثلاثي سنة 1956 وحربي يونيو 1967 و 1973 والاحتلال الإسرائيلي للبنان وغزو واحتلال العراق ومآسي ما يوصف أمريكيا بالفوضى الخلاقة في الصومال وسوريا وليبيا واليمن وغيرها.
في الحرب الدائرة في السودان منذ 15 أبريل 2023 بين الجيش النظامي من جهة وقوات الدعم السريع من جانب آخر يسجل أن الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والمؤثرين الرئيسيين في حلف الناتو يتبعون سياسة الغموض ويحب بعضهم الحديث عن الحياد، وفي نفس الوقت تتوارد الكثير من المعطيات التي تكشف عن تدخلاتهم الخفية وتفضح أطروحة حيادهم، بموازاة مع ذلك تخدم آلة الكذب الغربية الضخمة التي روجت لكذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية في سنة 2002 وغيرها، لتغليط الرأي العام العربي والأفريقي أساسا بشأن ما يحدث في السودان، مستخدمة الكثير من المغالطات حتى للتأثير على مواقف دول الجوار مع السودان.
للتعامل مع المأساة التي يمر بها السودان منذ 15 أبريل 2023 يجب تذكر التحذيرات الغربية المتكررة على أعلى المستويات في واشنطن وباريس ولندن من أن الغرب يخسر نفوذه وتأثيره ومصالحه في أفريقيا وأن الصين وروسيا والهند تسجل مكاسب، ولمواجهة ذلك يجب بذل كل الجهود الممكنة.
ويذكر خصوم الوجود الغربي في أفريقيا أن دولا عديدة منها مالي وبوركينا فاسو مثلا وجدت أن فرنسا تلعب بورقة التنظيمات الإرهابية لتبرير وجودها العسكري ولكنها لا تسعى فعلا للقضاء عليه ليبقى وجودها مبررا، ومؤخرا خرج المتظاهرون في بوركينا فاسو ومالي يرفعون شعارات تتهم فرنسا برعاية الإرهاب وقيادة الانقلابات في أفريقيا.
خسائر
يوم الأربعاء 19 أبريل 2023 اعترف وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس أمام البرلمان الألماني تكبد الغرب لخسائر جيوسياسية لصالح روسيا في منطقة الساحل الإفريقي. كما أكد بيستوريوس أن بلاده ما زالت تعتزم لعب دور مهم في منطقة الساحل رغم انسحاب قواتها من مالي.
في 28 ديسمبر 2022 نشرت صحيفة التايمز البريطانية تقريرا قالت فيه: في أفريقيا خسر الغرب معركة التأثير لصالح الصين وتركيا ودول الخليج العربية.
وأضافت الصحيفة أن زيادة التأثير الروسي هو تأكيد على العلاقات المتغيرة مع أكثر القارات نموا في العالم. في السنوات الأخيرة خسرت الولايات المتحدة والقوى الاستعمارية السابقة مثل بريطانيا وفرنسا الساحة أمام تقدم الصين وروسيا ولاعبين أصغر مثل تركيا ودول الخليج. وباتت أفريقيا حافلة بمشاريع البنى التحتية الصينية ومدمنة على القروض من بكين.
وكان النفوذ الروسي في أفريقيا أحد المواضيع على طاولة زعماء حلف الناتو في قمتهم نهاية شهر يونيو 2022، حيث تعهد الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ بتقديم مزيد من الدعم لدول "الجوار الجنوبي" لمواجهة تحدي مواصلة روسيا والصين تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية وعسكرية، حسب قوله في مؤتمر صحافي في ختام القمة. وأشار إلى الموافقة على حزمة دعم دفاعي.
في 13 ديسمبر 2022 حذر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن خلال اجتماع في مستهل القمة الأمريكية الأفريقية التي كان هدفها استعادة النفوذ الغربي في القارة السمراء، من أن نفوذ الصين وروسيا "يمكن أن يكون مزعزعا للاستقرار".
حماسة الولايات المتحدة المعلنة نحو القارة، قوبلت بتوجس وحذر من الأفارقة، حسب تصريحات الخبير الأمريكي في الشؤون الأفريقية، السفير السابق جوني كارسون، فالقمة بالنسبة للعقل الأفريقي كانت بمثابة اختبار صدق نيات، ومدى مصداقية واشنطن، هذه المرة، في التعاون مع أفريقيا. وقد حاول الرئيس السنغالي، ماكي سال، الذي كانت بلاده تتولى في ذلك الوقت رئاسة الاتحاد الأفريقي، إيصال هذه الرسالة إلى المعنيين في الإدارة الأمريكية، عند حديثه لوسائل إعلام أمريكية بقوله: "لن نسمح لأحد بأن يخبرنا ألا نعمل مع هذا أو ذاك... عندما نتحدث غالبا لا يستمع إلينا أحد، أو، في كل الأحوال، لا يستمعون بما يكفي من الاهتمام".
يجدر بقادة القارة الأفريقية استغلال أجواء التنافس بين القوى الكبرى حولها، فالصين حريصة، منذ عام 2000، على انعقاد منتدى التعاون الصيني الأفريقي. وشهدت تونس، أشغال الدورة الثامنة لقمة تيكاد، بين أفريقيا واليابان. واحتضنت بروكسل في فبراير 2022، القمة الأفريقية الأوروبية السادسة. وهذا كله يجعل السياق مناسبا لإعلان القطيعة مع منطق المقايضة والابتزاز الجاري به العمل مع بلدان القارة، لصالح شراكة تحقق حاجيات القارة السمراء أولا، فيد الأفارقة يجب أن تكون ممدودة نحو أي شراكة يربح فيها الجميع.
إنذار
في تصعيد للتهديدات الأمريكية الغربية للدول ومن ضمنها الأفريقية التي تتعامل مع كل من روسيا والصين، حذرت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، نهاية شهر يناير 2023 من أن الولايات المتحدة سترد بسرعة وصرامة على الشركات والدول التي تنتهك العقوبات ضد روسيا.
وقالت يلين في مؤتمر صحفي في منشأة لإعادة التدريب الوظيفي في شرق بريتوريا: "بحثنا العقوبات في كل دولة قمت بزيارتها، ورسالتي الأساسية هي أننا نتخذ العقوبات التي فرضناها على روسيا، بجدية بالغة".
وأضافت في تصريحات نقلتها وكالة "بلومبيرغ" للأنباء، إن "منتهكي تلك العقوبات من جانب شركات محلية أو من حكومات، سنرد عليها بسرعة وبصرامة". في نفس الوقت وسعت الإدارة الأمريكية من ضغوطها على مختلف دول العالم لتقلص تجارتها وتعاملها مع بكين.
يوم 7 ديسمبر 2022 رد البيت الأبيض على زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ للسعودية عبر التحذير من أن محاولة الصين توسيع نطاق نفوذها حول العالم "لا تتلاءم" مع النظام الدولي.
وفي رده على سؤال بشأن زيارة شي، قال الناطق باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي للصحافيين إن "السعودية لا تزال حليفا مهما للولايات المتحدة"، لكنه أصدر تحذيرا بشأن الصين.
وقال: "نحن مدركون للنفوذ الذي تحاول الصين توسيعه حول العالم. الشرق الأوسط هو بالتأكيد من بين هذه المناطق حيث يرغبون بتعميق مستوى نفوذهم".
وتابع: "نعتقد أن العديد من الأمور التي يسعون إليها، وطريقة سعيهم إليها، لا تتلاءم مع الحفاظ على النظام الدولي الذي تحكمه قواعد" محددة.
وأضاف كيربي: "لا نطلب من الدول الاختيار بين الولايات المتحدة والصين، لكن كما قال الرئيس مرات عدة، نعتقد أن الولايات المتحدة بالتأكيد في وضع يتيح لها القيادة في إطار هذه المنافسة الإستراتيجية".
وذكر كيربي بأن السعودية كانت شريكا استراتيجيا للولايات المتحدة على مدى نحو 80 عاما، لكنه أشار إلى أن بايدن أمر بإعادة النظر في العلاقات. نحن نعيد النظر في العلاقة الثنائية لنتأكد من أنها تناسب على أفضل وجه المصالح القومية الأمريكية. العمل جار" في هذا الصدد.
ثوابت لا تتبدل
كتب محلل عربي في شهر نوفمبر 2017:
من ثوابت السياسة الخارجية للولايات المتحدة أنها كلما عمدت إلى إعمال مشروع جديد هنا أو هناك مهدت الأرضية لإنجاحه، بناء للمرجعية ثم تحديدا للفاعلين المحليين الموكلة إليهم مهمة تمويله أو تنفيذه أو احتضانه ولو إلى حين.
سياسة واشنطن الخارجية معطى ثابت وخيار قار، لا اختلاف كبيرا في طبيعته بين رئيس ورئيس. وإذا ما طرأ من المستجدات الدولية ما يستدعي تحولا ما أو تغيرا في التوجه، فبتوافق ضمني واسع ومرتب له بين الرئاسة والكونغرس والمركب الصناعي والعسكري القائم.
ولذلك، فإن الذي يتغير حقا بين الفينة والأخرى في السياسة الأمريكية إنما هو أنماط تصريف مفاصل هذه السياسة، وكيفيات تجسيدها بهذه الرقعة من جغرافيا العالم أو تلك.
ليس من المتعذر تتبع المنعرجات التطبيقية لسياسة الفوضى الخلاقة، فقد انتهجتها الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية مع الاتحاد السوفياتي، وطبقتها في العديد من دول آسيا وأمريكا اللاتينية والعالم العربي والإسلامي، تارة بتفوق كما حصل إبان تقويض مجموعة الجمهوريات السوفياتية، وتارة أخرى بنتائج متواضعة كما هو الحال مع أمريكا اللاتينية والصين، أو بعض البلدان العربية والإسلامية".
أحداث السودان أحد مسارات نشر الفوضى الخلاقة في أفريقيا.
يقول الخبير في شؤون السودان بجامعة تافتس في ماساتشوستس أليكس دي وال إن الصراع يجب أن ينظر إليه على أنه "الجولة الأولى من حرب أهلية".
وأضاف: "ما لم يتم إنهاؤه بسرعة، فسيتحول إلى لعبة متعددة المستويات مع بعض الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية التي تسعى لتحقيق مصالحها، باستخدام الأموال وإمدادات الأسلحة وربما قواتها أو وكلائها".
الباحث في مجموعة الأزمات الدولية آلان بوسويل صرح إن "ما يحدث في السودان لن يبقى في السودان". ويضيف: يبدو أن تشاد وجنوب السودان معرضان حاليا لخطر التداعيات المحتملة.. وكلما طال أمد القتال كلما زاد احتمال حدوث تدخل خارجي".
شرارة ما يجري في السودان يمكن أن تلهب جغرافية المنطقة بأكملها ...
مركز تفجير
جاء في تقرير نشر في العاصمة الأمريكية واشنطن يوم 23 أبريل 2023:
يهدد النزاع الحالي في السودان جيرانه في منطقة مليئة بالصراعات، حيث يبدو أن أي تطور دراماتيكي داخل السودان سيؤثر بشكل قاطع على الدول المجاورة، نظرا للوضع المتشابك بينها، وفق خبراء.
ويحد السودان دولا من بينها مصر وليبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وإريتريا وجنوب السودان وإثيوبيا.
ويقول رئيس مركز القرن العربي للدراسات في الرياض، سعد بن عمر، في تصريحات لموقع الحرة إن السودان "بات الآن نقطة كبيرة في شرق القارة الأفريقية تؤثر على المنطقة اقتصاديا وأمنيا بالدرجة الأولى".
ويشير إلى أن تشاد وإثيوبيا المجاورتين هما دولتان قاريتان، أي ليست لهما سواحل، وتعتمدان بشكل كبير على الموانئ السودانية، وأهمها بورتسودان، والاختلالات الأمنية في السودان تؤثر على الطرق الحيوية التي تعبر إلى تشاد وأثيوبيا وأوغندا.
وتقول وكالة أسوشيتد برس إن للصراع في السودان تداعيات يمكن أن تتجاوز حدوده بكثير، وقد يشهد نوعا من الصراع المطول، الذي عصف ببلدان أخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا، من لبنان وسوريا إلى ليبيا وإثيوبيا، ويهدد باندلاع حرب أهلية طويلة الأمد أو تقسيم الدولة إلى أقاليم متنافسة.
وجاء في مقال عن الصراع الحالي على موقع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية أن البلد الأفريقي "يقع بالفعل في جوار صعب، وسيؤدي انزلاقه في حرب أهلية إلى صعوبة تحقيق السلام بين جيرانه".
وتشير رويترز إلى أن السودان ليس غريبا على الصراعات، لكن القتال هذه المرة يمزق العاصمة، الخرطوم، وليس مناطق نائية لدولة تقع في منطقة غير مستقرة على حدود البحر الأحمر والساحل والقرن الأفريقي.
وواجهت خمس دول من جيران السودان السبعة، إثيوبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا وجنوب السودان، اضطرابات سياسية وصراعات في السنوات الأخيرة.
وتقول أسوشيتد برس إن الدول المجاورة للسودان غارقة في صراعاتها الداخلية، مع نشاط مجموعات متمردة مختلفة على طول الحدود.
ويوضح رئيس مركز القرن العربي للدراسات في الرياض، سعد بن عمر، أن الاضطرابات الأمنية السابقة في السودان كانت لها ارتدادات، والصراعات في المنطقة عموما تمتد للدول الأخرى، وعلى سبيل المثال، انبثقت عن الحركة الشعبية لتحرير السودان، بزعامة جون قرنق، حركات مماثلة في شمال أوغندا وإريتريا وإثيوبيا وتشاد، وحتى في ليبيا، التي انتقل إليها أفراد لتشكيل مجموعات وجدت أرضا خصبة للنمو.
ويقول آلان بوسويل، من مجموعة الأزمات الدولية لأسوشيتد برس: "ما يحدث في السودان لن يبقى في السودان"، مشيرا إلى أن تشاد وجنوب السودان معرضان لخطر هذه التداعيات على الفور.
عدوى الفوضى
تقول صحيفة واشنطن بوست الأمريكية إن الصراع الطويل، في بلد شهد حركات تمرد لا حصر لها خلال عقود من الاستقلال يمكن أن ينتقل إلى جيران السودان، سواء بشكل مباشر أو من خلال دعم قوات بالوكالة" وهو ما ستكون "له تداعيات خطيرة محتملة على الأمن الإقليمي ويعرض حياة الملايين للخطر".
وترتبط مصر بعلاقات وثيقة مع الجيش السوداني، الذي تعتبره حليفا ضد إثيوبيا، وتتواصل مع طرفي النزاع الحالي من أجل وقف إطلاق النار، "لكن من غير المرجح أن تقف مكتوفة الأيدي إذا واجه الجيش السودانية الهزيمة"، وفق أسوشيتد برس.
وبينما يتشابك تاريخ مصر والسودان بالسياسة والتجارة والثقافة ومياه النيل المشتركة، تشعر القاهرة بالقلق من الاضطرابات السياسية في جنوبها منذ الاحتجاجات العارمة ضد عمر البشير في 2019.
وتعيش في مصر جالية سودانية كبيرة، يقدرها عددها بنحو 4 ملايين شخص، من بينهم حوالي 60 ألف لاجئ وطالب لجوء.
وتشعر مصر والسودان بالقلق من تهديدات مشروع سد النهضة الذي تبنيه إثيوبيا على نهر النيل، وقد نسق البلدان المواقف معا ضد هذا السد "وأي توتر في العلاقات بين الخرطوم والقاهرة قد يعرقل جهودهما للتوصل إلى اتفاق" وفق أسوشيتد برس.
وتشير واشنطن بوست إلى أن الوضع الحالي قد يؤدي إلى تعقيد المحادثات بشأن السد.
ويرى سعد بن عمر في تصريحاته لموقع الحرة أن الحكومة الإثيوبية قد تستغل أي خلافات وعدم وجود حكومة قوية في الخرطوم لصالحها في هذا الملف.
ويلفت مقال مجلس العلاقات الخارجية إلى أن أي دور مصري بارز في السودان "سوف يدق أجراس الإنذار في إثيوبيا، نظرا لاعتراض مصر الكبير على إقامة السد".
وبالنسبة إلى ليبيا، تشير رويترز إلى أن ميليشيات سودانية قاتلت بالفعل مع أطراف الصراع في ليبيا بعد عام 2011. وفي السنوات الأخيرة، عاد العديد من المقاتلين السودانيين إلى السودان، حيث ساهموا في زيادة التوترات بإقليم دارفور بغرب السودان.
وكان السودان أيضا نقطة انطلاق وطريق عبور للمهاجرين الذين يسعون للتوجه إلى أوروبا عبر ليبيا، حيث استغل المهربون الصراع والاضطرابات السياسية.
ويقول مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية إن التوترات في دارفور والانقسامات العرقية بين أطراف النزاع في السودان تمثل تهديدات أمنية حقيقية لتشاد.
وتستضيف تشاد حوالي 400 ألف نازح سوداني من الصراعات السابقة، وبعد انطلاق النزاع الأخير، شهدت وصول نحو 20 ألف لاجئ إضافي.
وتشاد قلقة من امتداد الأزمة عبر الحدود إلى المناطق التي تستضيف فيها اللاجئين ومعظمهم من دارفور. وخلال نزاع دارفور، شنت ميليشيات "الجنجويد" "أصبحت لاحقا قوات الدعم السريع" هجمات عبر الحدود مستهدفة اللاجئين والقرويين التشاديين، وفق رويترز.
ويصدر جنوب السودان، الذي انفصل عن السودان بدعم أمريكي إسرائيلي في 2011 بعد حرب استمرت لعقود، إنتاجه النفطي البالغ 170 ألف برميل يوميا عبر خط أنابيب تمر عبر السودان.
ويستضيف السودان 800 ألف لاجئ من جنوب السودان. ويمكن لأي عودة جماعية للاجئين أن تزيد الضغط على الجهود المبذولة لتوفير المساعدات لأكثر من مليوني نازح في جنوب السودان فروا من ديارهم داخل البلاد بسبب الحرب الأهلية التي أعقبت الانفصال.
ويهدد الصراع في السودان أيضا بأن يستغل أي من الجانبين الاضطرابات لتعزيز أهدافهما المتعلقة بالحدود مع إثيوبيا، التي تشهد مناوشات مستمرة على طول المناطق المتنازع عليها.
وعندما اندلعت الاضطرابات في منطقة تيغراي في شمال إثيوبيا، في عام 2020، ظهرت التوترات على حدود الفشقة الخصبة، المتنازع عليها بين البلدين، ودفعت أكثر من 50 ألف لاجئ إثيوبي إلى المناطق الفقيرة بالفعل في شرق السودان.
وقد يواجه اللاجئون الإريتريون في السودان محنة مماثلة إذا تصاعد النزاع خارج الخرطوم، فالسودان يستضيف أكثر من 134 ألف لاجئ وطالب لجوء من إريتريا فروا من التجنيد الإجباري الذي تفرضه حكومة أسمرة.
وقد فر العديد من اللاجئين الإريتريين في شمال إثيوبيا من مخيماتهم خلال حرب تيغراي بين عامي 2020 و2022.
خلط الأوراق
وسائل الإعلام الغربية الأكثر هيمنة على الساحة الدولية والتي ساهمت إلى حد كبير في تضليل الرأي العالمي ونشر الأكاذيب بشأن العديد من الأحداث من أسلحة الدمار الشامل العراقية والحرب شبه الدولية في بلاد الشام وصناع الفوضى في ليبيا تنشط على ساحة أحداث السودان عن طريق ما يسمى وثائق رسمية أمريكية في محاولة لخلق اختلال توازن في التحالفات التي قد تكون سبيلا لمنع الدول الغربية وعلى رأسها واشنطن وباريس ولندن من التدخل العسكري في السودان كما فعلت في سوريا تحت غطاء ما. المسجل أن العملية التضليلية مكشوفةبسبب تناقضاتها.
ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية يوم 22 ابريل 2023:
أضحت روسيا وشركاتها الأمنية المدعومة من الكرملين في معضلة حقيقية بعد القتال الدائر بالسودان، حيث سيكون أمام موسكو الكثير لتخسره إذا قررت دعم الجانب الخطأ في الصراع.
وعلى مدى السنوات الأخيرة، أقامت مجموعة "فاغنر" الروسية شبه العسكرية علاقات وثيقة مع قوات الأمن السودانية. وأظهرت الوثائق العسكرية السرية الأمريكية المسربة التي حصلت عليها صحيفة "واشنطن بوست" أن قوات "فاغنر" ساهمت بتدريب قوات الأمن السودانية ودعمها بالمعدات، كما قدمت المشورة لقادة الحكومة وأجرت عمليات تبادل معلوماتية. وذكرت أن حكومة البرهان بحثت احتمال إنشاء "قاعدة" بحرية روسية إستراتيجية على البحر الأحمر في بورتسودان.
وقالت الصحيفة الأمريكية إنه حتى لو توقفت الأطراف المتحاربة القتال، فإن انهيار السودان يمثل "نكسة" كبيرة لروسيا، إذ أن التحالف بين موسكو والخرطوم "على المحك".
الصحيفة زعمت أن مصادر عدة أكدت أن قوات ليبية تابعة للمشير الليبي خليفة حفتر تربطها علاقات وثيقة بمجموعة فاغنر الروسية، أرسلت إمدادات إلى قوات الدعم السريع التي يقودها، محمد حمدان دقلو، المعروفة بـ "حميدتي".
الصحيفة أقرت بعد ذلك أنه بالنسبة لحفتر المسيطر على غالبية أراضي شرق ليبيا، هناك قلق متزايد من أن مثل هذا الدعم قد يضر بعلاقاتها مع مصر وروسيا، الداعمة منذ فترة طويلة لكل من حفتر والقائد العسكري السوداني البرهان.
فجر يوم الأحد 23 أبريل أعلنت قوات الدعم السريع السودانية، أن بعثة من القوات الأمريكية تتألف من ست طائرات أجلت الدبلوماسيين الأمريكيين وعائلاتهم من البلاد.
وأضافت في بيان، نشرته على فيسبوك، إنها تنسق مع الولايات المتحدة لإجلاء الدبلوماسيين الأمريكيين وعائلاتهم، وإن تنسيق عمليات الإجلاء مع واشنطن تم باستخدام 6 طائرات.
في نفس اليوم أعلن قائد قوات "الدعم السريع" السودانية محمد حمدان دقلو، أنه أجرى نقاشا صريحا مع مسؤول القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا "أفريكوم" مايكل لانغلي.
بفارق دقائق نفت الولايات المتحدة أن تكون عملية إجلاء الدبلوماسيين الأمريكيين في السودان تمت بدعم وتنسيق من قبل قوات الدعم السريع.
وأكد وكيل وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الإدارة، جون باس، أن تعليق العمل في السفارة الأمريكية سيكون مؤقتا.
وشدد على أن قوات الدعم السريع تعاونت من خلال عدم إطلاق النار على القوات الأمريكية خلال العملية، مؤكدا أن الإدارة الأمريكية لا تخطط لإجلاء المواطنين الأمريكيين من السودان.
وكشف باس عن إخراج بعض الدبلوماسيين من دول أخرى كانوا قد لجأوا إلى السفارة الأمريكية خلال المعارك التي يعيشها السودان.
ونفى سقوط أي طائرة هليكوبتر أمريكية خلال العملية، مؤكدا أيضا خروج كل قوات المارينز الذين كانوا يحرسون السفارة الأمريكية في الخرطوم.
وأشار إلى أن عملية الإجلاء استغرقت يوما كاملا وشارك فيها أكثر من مئة جندي أمريكي.
حشد عسكري أمريكي
جاء في تقرير نشر في العاصمة الأمريكية يوم 22 أبؤيل 2023:
أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" أن الجيش يعد خيارات إخلاء في السودان. وصرح وزير الدفاع، لويد أوستن، الجمعة 21 أبريل، في قاعدة رامشتاين الجوية بألمانيا "نشرنا بعض القوات في مسرح العمليات لضمان توفير أكبر عدد ممكن من الخيارات إذا طلب منا التحرك. ولم تتم مطالبتنا بفعل أي شيء بعد... لم يتخذ قرار بشأن أي شيء".
وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع، فيل فينتورا، في بيان، الخميس، إن البنتاغون من خلال قيادة القوات الأمريكية في إفريقيا تراقب الوضع في السودان.
وأضاف في إطار ذلك ستنشر قوات إضافية في أماكن قريبة إذا اقتضت الظروف.
ورسميا لا تملك الولايات المتحدة قواعد في إفريقيا بإستثناء معسكر لومونييه في جيبوتي، لكن القوات الخاصة التي تضم وحدات من سلاح البر والبحرية ومن مشاة البحرية الأمريكية وسلاح الجو تستخدم قاعدة مورون الجوية في جنوب إسبانيا، لعملياتها في إفريقيا أيضا، بحسب تقرير سابق لوكالة فرانس برس.
وجيبوتي التي يبلغ عدد سكانها نحو 800 ألف نسمة وهي دولة إفريقية عربية، مكتظة حاليا بالقواعد العسكرية لعدد من دول العالم، والتي من أبرزها القوات الأمريكية. وتحرس مرافئها مدخل البحر الأحمر وقناة السويس أحد أنشط طرق الملاحة في العالم.
وتقع القاعدة الأمريكية الدائمة والوحيدة في هذه المنطقة فيما يعرف بـ "معسكر لومونييه". وتدفع واشنطن حوالي ستين مليون دولار سنويا لجيبوتي لقاء هذه القاعدة، بحسب تقرير سابق لوكالة فرانس برس.
وتم إنشاء هذه القاعدة بموجب اتفاق رسمي أبرم في عام 2003، فيما توفر اتفاقية ثنائية مع الحكومة في جيبوتي إمكانية الوصول للمرافئ والموانئ والمطارات، بحسب وزارة الخارجية الأمريكية.
وتعتبر هذه القاعدة مركز عمليات القيادة الأمريكية في إفريقيا والقرن الإفريقي، وفقا للموقع الإلكتروني لـ"البحرية الأمريكية".
ويدعم قاعدة لومونييه وجود حوالي 4 آلاف شخص من العسكريين والمدنيين، والقوات المشتركة المتحالفة في الناتو والمتعاقدين مع وزارة الدفاع الأمريكية.
وتدعم هذه القاعدة جهودا وأنشطة عسكرية وإنسانية هامة تخدم مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ونتيجة لذلك أعلن في عام 2007 عن توسعة كبيرة أضيف بها 20 مرفقا جديدا تشمل ساحة خاصة للطائرات ومركزا ترفيهيا وتحديثات للمرافق العسكرية.
تحتفظ فرنسا بدورها بوجود عسكري في جيبوتي منذ تأسيس المحمية الفرنسية خلال الفترة (1883-1887)، وعقب حصول جيبوتي على استقلالها في عام 1977 احتفظت فرنسا بالعديد من التسهيلات العسكرية وقاعدة عسكرية في جيبوتي، وتعد القوات الفرنسية في جيبوتي بمثابة أكبر الوحدات العسكرية الدائمة لفرنسا في أفريقيا.
أطماع
جاء في تقرير مطول لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية تحت عنوان "لقمة سائغة" نشر يوم 23 أبريل:
مع احتدام المعارك، اندفعت دول من جميع أنحاء العالم بسرعة نحو السودان مما يعكس ديناميكية كانت تلوح في أفق البلاد قبل الانقلاب على حكم البشير. الثورة أوجدت فرصا جديدة للقوى الخارجية لتحقيق مصالحها الخاصة في السودان، وهي ثالث أكبر دول أفريقيا وتقع استراتيجيا على نهر النيل والبحر الأحمر، حيث تتمتع بثروة معدنية هائلة وإمكانات زراعية ولم تخرج من عقوبات أمريكية.
وقال مجدي الجزولي، الزميل بمعهد "ريفت فالي"، وهو مركز أبحاث مقره السودان، "الكل يريد قطعة من السودان ولم يعد البلد يتحمل كل هذا التدخل".
وأضاف أن "هناك الكثير من المصالح المتنافسة والادعاءات كثيرة جدا، ثم انهار التوازن الهش كما ترون الآن".
وتضيف الصحيفة أنه مع تصاعد التوترات داخل السودان خلال عام 2022، انحاز الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، علنا إلى قائد القوات المسلحة البرهان. وتفيد مصادر في الخرطوم أن تزايد التعاون بين إسرائيل وقوات التدخل السريع زاد من قلق مصر.
في وقت سابق من عام 2023، أطلقت مصر مبادرة سياسية بالقاهرة للجمع بين الفصائل السودانية المتفرقة. لكن الدبلوماسيين الأجانب في الخرطوم، الذين كانوا يحاولون التوصل إلى حل وسط بين دقلو والبرهان، رأوا المصريين يتصرفون لصالح الجيش السوداني وضد قوات الدعم السريع.
وقال كاميرون هدسون، المحلل السابق بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية والمحلل المتخصص في شؤون أفريقيا بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن، "لقد أوضحت مصر أنها لن تتسامح مع زعيم ميليشيا على حدودها الجنوبية".
تتمتع روسيا بعلاقة طويلة الأمد مع الجيش السوداني، ومنذ عام 2019، وسعت مجموعة "فاغنر" شبه العسكرية أنشطتها في البلاد من حماية أمن شركات تعدين الذهب واستكشاف اليورانيوم، وتزويد منطقة دارفور المضطربة بقوات لحفظ الأمن.
ولدى إسرائيل مصلحة تتمثل في تعزيز صفقة التطبيع التي وقعت مع السودان في صيف 2020 ضمن إطار معاهدة إبراهيم التي جاءت برعاية الولايات المتحدة.
وفي عام 2022، زار وفد من وكالة المخابرات الخارجية الإسرائيلية "الموساد"، السودان لعقد اجتماعات مع قادة أمنيين بمن فيهم دقلو رئيس قوات التدخل السريع، الذي عرض التعاون في مكافحة الإرهاب والاستخبارات، وفقا لمسؤولين غربييين وسودانيين مطلعون على المحادثات.
يوم 19 أبريل 2023 تحدث المستشار السياسي لقائد قوات "الدعم السريع" السودانية يوسف عزت إلى قناة "i24" الإسرائيلية عن الأحداث والاشتباكات التي تخوضها قواته مع الجيش السوداني.
وهاجم عزت ما أسماهم بـ"المتطرفين"، وعلى رأسهم قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، قائلا إن العملية التي تخوضها قواته "كبيرة ومتورطة فيها جهات كثيرة يرعاها تنظيم متطرف"، مضيفا: "نخوض المعركة بقوتنا الذاتية، نحن كنا جاهزين لهذه المعركة، كنا نتوقعها من المتطرفين، كنا نعرف أن هنالك انقلابا يستهدفنا ويستهدف العملية السياسية كلها".
يذكر أنه وبتاريخ 19 أبريل نقلت وسائل إعلام محلية وعالمية عن صحيفة "هآرتس" العبرية، أن قوات الدعم السريع تلقت تقنيات إلكترونية متطورة من شركات إسرائيلية تصدر معدات تكنولوجية تستخدم في التجسس سرا من أوروبا إلى إفريقيا.
وأشارت الصحيفة نقلا عن ثلاثة مسؤولين أوروبيين، إلى أن أحد الأجهزة المسلمة صنع في الاتحاد الأوروبي، وقادر على "تغيير موازين القوى" في السودان، وبإمكانه تحويل الهاتف الذكي إلى أداة تجسس على مالكه.
عمر نجيب