خطر الحرب العالمية الثالثة أقرب من أي وقت مضى... 78 سنة مرت على نهاية أخر حرب كبرى

ثلاثاء, 2023-02-07 06:54

بخطى مترددة ولكن متتابعة يسير العالم نحو الهاوية. هاوية حرب عالمية ثالثة تستخدم فيها كل أنواع الأسلحة نووية وكيماوية وجرثومية، وتمحى معها كل القواعد والقوانين التي توصف بالدولية.

فعندما تتصادم الدول الكبرى في مواجهة وجودية تسقط كل المحاذير لأن الأمر يكون خيارا بين البقاء أو الفناء.

المشكلة التي يواجهها القادة العسكريون والسياسيون على حد سواء في كل المواجهات العسكرية هي القدرة على استكشاف نوايا الخصم وحجم قدراته المادية والبشرية وثبات وصمود جبهته الداخلية على كل الأصعدة. عدم القدرة على تكوين تصور دقيق في أي مواجهة يحكم على الجانب المخطئ بالخسارة والهزيمة في النهاية. هذه القاعدة ثبتت مصداقيتها حتى في الحروب الصغيرة أو المتوسطة الحجم. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تواجه المعسكران الاشتراكي أو الشيوعي مع المعسكر الرأسمالي أو الليبرالي وخاضا مواجهات عسكرية محدودة مباشرة أو عبر حلفاء لهما. البعض من هذه الصراعات العسكرية حملت في طياتها وبدرجات متفاوتة خطر التوسع إلى مرتبة حرب نووية عالمية.

الحرب التي اندلعت في شبه الجزيرة الكورية بين عامي 1950-1953 بمشاركة قوات أساسها غربي كانت من نوعية المواجهات التي يمكن أن تتطور إلى حرب نووية. انتهى الصراع بالتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في 27 يوليو 1953 دون أن تتبدل الخطوط التي انطلقت منها الحرب أي بدون منتصر أو منهزم.

في جنوب شرقي آسيا وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية أخطأت فرنسا في تقدير قدرة خصومها في الفيتنام ولهذا لحقت بها هزيمة مذلة على يد قوات الجنرال الفيتنامي فون جياب في 7 مايو 1954، وهو ما شكل نهاية أطول المعارك دموية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وآخر معركة كبيرة في حرب الهند الصينية "1946-1954"، هذه الهزيمة شكلت نهاية الوجود الاستعماري الفرنسي في آسيا. واشنطن جاءت لتملأ الفراغ الذي تركته فرنسا مقدرة أنها ستكون أقدر على مواجهة التحديات.

الولايات المتحدة الأمريكية تصورت أن قدرتها العسكرية والصناعية الضخمة يمكن أن تكسر إرادة حكومة هانوي وحلفاؤها في بكين وموسكو فحشدت طوال سنوات أكثر من 550 ألف جندي أمريكي على أرض الفيتنام، وضمت إلى جانبها قوات من كوريا الجنوبية، والتايلاند، وأستراليا، ونيوزيلندا، والفلبين ومتحالفين من فيتنام الجنوبية.

حرب الفيتنام أو الحرب الهندوصينية الثانية، بدأت في 1961 وانتهت في 1975 وقد شهدت بدورها وفي فترات متقطعة تصاعد فيها خطر التحول إلى حرب نووية خاصة مع اقتراب القصف الجوي الأمريكي على الفيتنام الشمالية من حدود الصين وضغط جزء من قادة البنتاغون على البيت الأبيض لاستخدام السلاح النووي لمنع انتصار هانوي. انتهى الغزو الأمريكي في 30 أبريلعام 1975 بالانكسار للغرب وتوحيد فيتنام الشمالية والجنوبية.

كررت واشنطن بالتعاون مع حلفاء في حلف الناتو تدخلها العسكري في آسيا سنة 2001 مستغلة تراجع قوة المعسكر الشرقي بغزو أفغانستان وبعدها في 2003 العراق، في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر. أطاح الغزو بإمارة أفغانستان الإسلامية التي تحكمها طالبان ولكن لم يكن هناك خطر من توسعها، استعادت حركة طالبان السلطة بعد 19 عاما و 8 أشهر نتيجة إنهيار القوات المسلحة الأفغانية عقب انسحاب معظم قوات الناتو التي فقدت الأمل في النصر. وعدت أفغانستان أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة متجاوزة حرب الفيتنام. بعض المحللين في الغرب والشرق يقدرون أن الحرب الأمريكية على العراق توجد في حالة سبات في الوقت الحاضر وأنها لم تنته بعد.

العدوان الثلاثي لفرنسا وبريطانيا وإسرائيل على مصر من 29 أكتوبر حتى 7 نوفمبر سنة 1965 أوصل العالم كذلك إلى حافة حرب نووية وتكرر نفس الوضع في حرب الأيام الستة سنة 1967 ثم في حرب أكتوبر 1973.

حاليا مع بداية الربع الأول من سنة 2023 يقترب العالم ربما أكثر من كل وقت مضى من الحرب التي يحذر البعض بأنها ستسفر عن نهاية الجنس البشري في عملية انقراض جديدة. البعض يحمل المسؤولية للغرب الذي يسعى للتقدم شرقا لمحاصرة روسيا والذي لا يعرف حقيقة مخططات الكرملين العسكرية، وآخرون يوجهون أصابع الاتهام إلى موسكو لسعيها لاستعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي.

هناك شبه اتفاق بين الكثير من المحللين في الشرق والغرب بأن الحرب الدولية الدائرة في وسط شرق أوروبا، مرت حتى بداية سنة 2023 بأربعة مراحل والأشد خطورة هي الأخيرة في الوقت الحالي.الأولى كانت سنة 2014 بإسترجاع موسكو سيطرتها على شبه جزيرة القرم، والثانية من 24 فبراير 2022 وحتى 29 من شهر مارس بعد إن انتهت جولة مفاوضات إسطنبول، وأعلن الجانب الروسي عن "تخفيض عملياته العسكرية في منطقتي كييف وتشيرنيهيف بأوكرانيا". والثالثة مع الهجوم الأوكراني المضاد في خاركيف في 6 سبتمبر عام 2022 ولكن دون منع مواصلة روسيا التحكم فيما مساحته 160 ألف كيلومتر مربع منالأراضي المتنازع عليها. والرابعة مع شروع القوات الروسية في القيام بهجمات مضادة متوسطة الحجم بعد حرب استنزاف ضخمة ضد القوات الأوكرانية وداعميها الغربيين، الأمر الذي صعد مخاوف الغرب من انهيار القوات الموالية له وفرض الكرملين إرادته، وبالتالي تعديل النظام العالمي الأحادي.

في المواجهات الكثيرة السابقة بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن الحسم مصيريا مثلما هو الحال الآن، هزيمة روسيا تعني تفككها واندثارها لعقود قادمة وتغول الغرب وحرب مصيرية أخرى ضد الصين، ولكن انكسار الغرب مرحليا لن يعني سوى العودة إلى نظام متعدد الأقطاب.

 

حرب نووية تلوح بالأفق

 

جاء في تقرير غربي نشر يوم 2 فبراير 2023: بات التحول النوعي في التسليح الغربي لأوكرانيا يطغى على ما سواه في الحرب، إذ إن ما كان خطا أحمر في التسليح بات قيد النقاش الآن، بما في ذلك الصواريخ بعيدة المدى.

وقالت كييف إنها تعتزم استعادة جميع أراضيها بالقوة بما يشمل شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا من قبل، الأمر الذي استدعى ردا روسيا يهدد بأن مسعى كهذا سيؤدي فورا إلى حرب نووية.

وقال الكرملين، إن الصواريخ الأطول مدى التي قيل إنها ضمن حزمة مقبلة من المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا "ستفاقم" الصراع لكنها لن تغير مجراه، وإن روسيا ستواصل هجومها مهما كلف الأمر. وأضاف دميتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس لديه أي خطط لعقد محادثات مع نظيره الأمريكي جو بايدن.

وذكر بيكسوف عند سؤاله عن حزمة المساعدات الجديدة "أجل.. هذه طريقة مباشرة لتصعيد التوتر ولزيادة مستوى التصعيد، يمكننا أن نرى ذلك. يتطلب ذلك منا بذل جهود إضافية لكن مجددا، لن يغير ذلك من مسار الأحداث. ستستمر العملية العسكرية الخاصة".

كتب الصحفي والمحلل البريطاني روبرت تومبس في التلغراف، بعنوان "كما حدث في عام 1914 أو عام 1939، ربما نسير نياما نحو حرب عالمية لا يمكن أن يوقفها شيء".

ويقول الكاتب إن "هناك دروسا من كوارث الماضي، ليست كلها مشجعة. والأول هو أنه يجب على الشخص الذي يزعزع السلام المحتمل أن يعتقد أنه يمكن أن ينتصر. لا أحد، مهما كان غير متوازن، يشرع في صراع يتوقع أن يخسره".

ويضيف: "طالما كانت الولايات المتحدة هي المهيمنة بشكل واضح، وهو ما كانت عليه بشكل عام منذ عام 1945، فلن يكون هناك صدام مباشر بين القوى العظمى. عندما يصبح ميزان القوى غير مؤكد ينشأ الخطر، لأن كلا الجانبين يمكن أن يتوقع النصر". ويكمل: "بدا لبعض الوقت أن الأسلحة النووية قد غيرت القواعد، ولكن فقط إذا كان من المعقول أن يتم استخدامها. الآن الأمر ليس كذلك".

 

لا تحلموا بعالم سعيد

 

جاء في تحليل نشرته مجلة "فورين افيرز" الأمريكية: في ظل تفاؤل ليبرالي ظل يسود التفكير في الصراعات الدولية خلال العقود التي أعقبت الحرب الباردة، تأتي الأحداث لتقول إن الحرب قابلة للاشتعال مجددا وجراء أقل الأسباب وأبعدها عن الأخذ بالحسبان. الولايات المتحدة حاليا في مأزق متعلِّق بسيادتها، فإما أن تقبل بأن قيمها الليبرالية ليست قيما عالمية وتنسحب من شرق آسيا لتترك الصين تتوسع في مناطق نفوذها التاريخية، وينتهي بذلك عصر السيادة الأمريكية، وإما أن تخوض حربا تكون فيها عناصر التقدم التكنولوجي إلى جانب الولايات المتحدة لكي تطوي فصل الصين إلى الأبد.

منذ خواتيم الحرب الباردة والأمريكيون من صناع سياسة ومفكرين وباحثين في العلاقات الدولية ومحللين للسياسات يجادلونَ بأن حروب القوى العظمَى باتت رفاتا لزمن ولى وانتهى. في عام 1986، أطلق المؤرخ جون لويس جاديس على عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية اسم "السلام المديد"، لأن الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة تجنبا إشعال الحرب. بعد ذلك بعدة سنوات، أشار عالم السياسة جون مولر إلى أن الأعراف المتغيرة قد أنهت صراع القوى العظمى. بحلول عام 2011، كان عالم النفس ستيفن بنكر يجادل بأن السلام المديد قد تحول إلى "سلام جديد" يتسم بتراجع عام للعنف في الشؤون الإنسانية.

وبالتأكيد، وكما تشير صراعات دائرة في أفغانستان وليبيا والسودان وأوكرانيا على سبيل المثال، فما من نقص حاليا في العنف المسلح المنظم الذي يجر إلى دوائره البلدان الأصغر حجما. لكننا إن نظرنا إلى الطريق المضرج بالدماء في السياسة منذ بزوغ فجر النظام الدولي الحديث في القرن السادس عشر، فسنجد أن غياب الحرب بين القوى العظمى منذ عام 1945 أمر صادم. مع ذلك، فإن الأمر لا يعني أن هذه الأنماط من الصراع قد ولت. في الحقيقة، رغم محاولات الأكاديميين والسياسيين استبعادَ حرب القوى العظمى كونها مصدر تهديد حقيقيا، فإن الظروف التي تجعلها ممكنة لا تزال قائمة، فالتوترات مستمرة في أوساط القوى العظمى لعالم اليوم، وقبلهم جميعا بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، ويمكن لأي عدد من نقاط التوتر أن يشغل فتيل الصراع بينهم، والأطراف على مسار تصادم تغذيه ديناميكيات انتقال مراكز القوة والتنافس على المكانة والاعتبار، ودون تغيير في الاتجاه، فإن الحرب بينهم ليست محضَ إمكانية فحسب لكنها مرجحة أيضا.

 

بايدن وتصعيد القتال

 

نشرت وكالة الأنباء الألمانية "د ب أ" يوم 3 فبراير 2023 تقريرا يتحدث عن إستراتيجية بايدن الجديدة لإنهاء حرب أوكرانيا جاء فيه:

وصلت الحرب في أوكرانيا إلى مرحلة جديدة، في حين تشهد الإستراتيجية الأمريكية تحولا مهما. فالمخاوف من نشوب حرب نووية تتراجع، والمخاوف من حرب طويلة تستنزف الجميع تتزايد. لذلك تكثف إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن دعمها لأوكرانيا، على أمل الوصول إلى حل دبلوماسي للأزمة فيما بعد، اعتمادا على إستراتيجية "التصعيد من أجل التهدئة" التي قد يكون من الصعب تنفيذها بحسب المحلل الاستراتيجي الأمريكي هال براندز.

ويقول براندز في تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء إنه بعد مرور نحو عام على بدء الحرب، أصبح الغموض الذي يحيط بمسارها أشد من ذي قبل. ففي الأشهر الستة الأولى من الحرب كانت روسيا صاحبة زمام المبادرة: وكانت الأسئلة الرئيسية هي متى وأين وما هو شكل النجاح الذي ستحققه عند الهجوم. وخلال الشهور الخمسة التالية استردت أوكرانيا زمام المبادرة، وحاول المحللون التكهن بمكان واحتمالات الهجمات المضادة التالية.

الآن أصبح من الصعب التنبؤ بما يمكن أن يحدث ولا بمن صاحب التقدم. ربما يستعد كلا الجانبين لهجمات جديدة. وكلا الجانبين يتعاملان مع مزيد من خسائر أرض المعركة مع الحصول على قدرات جديدة قد تجعل من الصعب تمييز نقاط القوة النسبية لكل طرف.

وربما يعتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الوقت هو أفضل حليف له، وأنه إذا واصل تدمير البنية التحتية الأوكرانية، مع الاحتفاظ بما كسبه من أرض المعركة على الأقل، فقد يتمكن من إيجاد حالة حرب ممتدة يكون تفوق القوة البشرية لروسيا حاسما فيها.

في المقابل تعتبر أوكرانيا الوقت عدوا لها. ويجب أن تستغل ضعف القوات الروسية وقلة تسليحها حاليا قبل وصول قوات روسية جديدة يجري حشدها إلى أرض المعركة، وقبل زيادة وتيرة الإنتاج العسكري الروسي، وأخيرا قبل أن يتراجع دعم الحلفاء الغربيين لكييف.

وتبدو إدارة بايدن متفائلة بحذر تجاه الاحتمالات بالنسبة لأوكرانيا. فالمكاسب السهلة على حساب الجيش الروسي المنهك ربما تكون قد تحققت. ولكن عندما تصبح روسيا تدافع عن جبهات أقصر بقوات أكبر، سيكون استخلاص كل بوصة من الأراضي الأوكرانية من يد القوات الروسية أصعب حتى إذا ما تمكن الجيش الأوكراني من تحقيق أكثر مما حققه حتى الآن.

 

تحديث إستراتيجية

 

لذلك تقوم الإدارة الأمريكية بتحديث استراتيجيتها للحرب الأوكرانية، بثلاث طرق.

أولا: تقوم بتحديد الأهداف الأمريكية في الحرب بشكل أفضل. ففي ديسمبر 2022 أعلن وزير الخارجية أنتوني بلينكن أن الولايات المتحدة ملتزمة بمساعدة أوكرانيا في تحرير الأراضي التي فقدتها منذ فبراير 2022، وليس بالضرورة كل شبر من أراضيها المحتلة منذ 2014. كما أعلن أن هدف واشنطن هو بقاء أوكرانيا كدولة قادرة على الدفاع عن نفسها عسكريا ومستقلة سياسيا ومزدهرة اقتصاديا. وهذا لا يتضمن بالضرورة استعادة المناطق التي تصعب استعادتها مثل شرق دونباس أو شبه جزيرة القرم.

ثانيا، تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها بإرسال أسلحة أكثر تطورا إلى أوكرانيا مثل عربات القتال المدرعة وأنظمة صواريخ الدفاع الجوي باتريوت والدبابات التي تستطيع اختراق الدفاعات الروسية متعددة الطبقات. كما تحركت الولايات المتحدة نحو تقديم ذخائر أبعد مدى يمكنها الوصول إلى المناطق الخلفية للقوات الروسية. ومن المحتمل أن تتضمن هذه الذخيرة القنابل صغيرة القطر التي يمكن إطلاقها من الأرض ويصل مداها إلى حوالي ضعف مدى راجمات الصواريخ هيمارس التي تستخدمها القوات الأوكرانية حاليا.

وأخير، رغم أن بايدن قد لا يأمل في تحرير شبه جزيرة القرم بالقوة، فإنه أصبح أكثر تأييدا لشن هجمات على الأهداف الروسية فيها.

لكن هل يمكن أن يؤدي قصف شبه جزيرة القرم التي تعتبر محورية في حديث الرئيس بوتين عن إعادة إحياء روسيا العظمى تحت حكمه إلى تصعيد الحرب في أوكرانيا؟.

يقول براندز وهو أستاذ كرسي هنري كيسنغر المميز للشؤون العالمية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، ربما يحدث هذا. لكنه تراجع أكثر من مرة عن التصعيد الذي هدد به عدة مرات للدرجة التي تجعل تهديداته بلا مصداقية. لذلك فإن التلويح بإمكانية استعادة شبه جزيرة القرم المهمة جدا بالنسبة له بالقوة قد يكون أفضل طريقة لإجباره على التفاوض بجدية لإنهاء الحرب.

ورغم أن هذه التحولات في السياسة الأمريكية تبدو متعارضة مع بعضها البعض، فإن هناك منطق موحد ورائها. فالولايات المتحدة لا تريد حربا بلا نهاية لأنها تحول أوكرانيا إلى أرض خراب وتمثل عبئا على الغرب اقتصاديا وعسكريا وسياسيا.

لذلك تسعى إدارة بايدن إلى مساعدة أوكرانيا في تشديد الضغط على القوات الروسية، وربما ترسل لها مزيد من المساعدات كوسيلة لفتح الطريق أمام التفاوض بعد انتهاء الجولة القادمة من القتال بين الروس والأوكرانيين.

أخيرا، يقول براندز إنه لا يوجد في هذه الإستراتيجية شيء بسيط، كما اتضح من خلال الخلافات بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية بشأن من سيعطي أوكرانيا أي نوع من الدبابات. ونجحت الولايات المتحدة في إدارة هذه المشكلة ببراعة في النهاية وتعهدت بإرسال 31 دبابة متطورة من طراز إبرامز بعد شهور من الآن كطريقة لفتح الباب أمام إرسال مئات الدبابات الأوروبية المتطورة إلى أوكرانيا خلال الأسابيع المقبلة. لكن هذا ليس هو التحدي الوحيد.

فإدارة بادين تراهن على الوصول إلى نقطة رائعة يصبح فيها الروس مستعدين للتفاوض وليس للتصعيد، في حين يكون الأوكرانيون في موقف أقوى، لكنهم مستعدون للقبول بما هو متاح وليس بما يرغبونه أو يستحقونه.

 

الضربة النووية الإستباقية

 

جاء في تحقيق كتبه المحلل السياسي ألكسندر نازاروف بتاريخ 2 فبراير 2023:

زاد الغرب مؤخرا وبسرعة من حجم ومدى الأسلحة الموردة إلى نظام زيلينسكي، ما يدل على استعداده لتصعيد غير محدود تقريبا، وجاهزيته للمضي قدما نحو تحقيق هزيمة روسيا في أوكرانيا بأي وسيلة.

على الجانب الآخر، تم تحديد الخطوط الروسية الحمراء بشكل غامض إلى حد ما، ودونما إلحاح شديد، ولذلك أسبابه. فبالنظر إلى تفوق الغرب الموحد في الأسلحة التقليدية، فإن أي رد روسي بالوسائل التقليدية سيعني دعوة للغرب لاستخدام هذا التفوق ضد روسيا، أي أن الوضع بالنسبة لروسيا سوف يزداد سوءا. ووحدها الخيارات الخاصة باستخدام الأسلحة النووية ضد الغرب وليس ضد أوكرانيا هي ما يؤدي إلى عواقب سلبية كبيرة بالنسبة له، ربما تكون أكثر خطورة من تبعات ذلك على روسيا، في حين أن الخيارات المتبقية أكثر تدميرا لروسيا منها عن الغرب.

لهذا، أعتقد أن المسارات الحالية تقودنا بشكل شبه حتمي إلى حرب نووية شاملة بين روسيا والغرب.

لماذا إذن ستكون هذه الحرب نووية وشاملة منذ الثواني الأولى؟ وهل سيحدث ذلك حقا؟

كل شيء يتضح إذا ما فهمنا أسباب وأهداف هذا الصراع بين روسيا والغرب.

لقد قامت روسيا أولا، ثم تلتها الصين، بتطوير وامتلاك صواريخ فرط صوتية لا يمكن اعتراضها، فيما نجحت الاختبارات القليلة الأخيرة للأسلحة الأمريكية فرط الصوتية، ومن المحتمل أن نتوقع أن تدخل هذه الصواريخ الخدمة هذا العام أو العام المقبل، وأن تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية صواريخ فرط صوتية بأعداد كافية في عام 2025، أو على أكثر تقدير في عام 2026.

لقد أثبت الأنغلوساكسون مرارا وتكرارا في تاريخهم أنهم لا يتورعون عن إي إبادة جماعية من أجل الحفاظ على هيمنتهم وازدهارهم. وبالفعل، في نهاية الحرب العالمية الثانية، وعندما كان الاتحاد السوفيتي وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لا يزالون حلفاء، بدأ الأنغلوساكسون في تطوير خطط للهجوم على الاتحاد السوفيتي، بما في ذلك باستخدام الأسلحة النووية (العملية البريطانية "غير المعقولة" Operation Unthinkable، والعملية الأمريكية "إسقاط الرصاص" Dropshot)، فيما استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية الأسلحة النووية ضد السكان المدنيين في اليابان، في وضع كانت فيه اليابان تخسر الحرب بالفعل، ولم يكن هناك ما يهدد الولايات المتحدة الأمريكية. أي أن الشك في استعداد الأنغلوساكسون لاستخدام الأسلحة النووية ضدنا أو ضدكم في أي موقف على الإطلاق هو حماقة وانتحار، فكلمة "الإنسانية" بالنسبة لهم هي عبارة فارغة عندما يتعلق الأمر برفاهيتهم.

 

إستراتيجية الأمن القومي

 

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تعلن جهارا نهارا في إستراتيجيتها للأمن القومي عن استعدادها لاستخدام الأسلحة النووية أولا، ليس فقط للرد على تهديد وجودي، ولكن أيضا من أجل التأثير على عمليات صنع القرار في الدول غير الصديقة.

أي أن الحرب الحالية التي يخوضها الغرب هي من أجل تدمير روسيا، وليس هذا تغييرا مفاجئا أو عارضا في وعي النخب الغربية وجزء كبير من السكان، وإنما على العكس من ذلك، دائما ما ساد مزاج العداء لروسيا والرغبة في تدميرها كمكون فطري لدى الغرب لعدة قرون، وفقط في بعض الأحيان، وطوال عدة عقود بعد إحدى هزائمه أمام روسيا، كان الغرب مضطرا إلى إخفاء تلك المشاعر.

وتتطلب الطريقة الأمريكية في تحديد التهديد وجود الدافع والإمكانية للقيام بعمل عدائي، وقريبا ما سيكون لدى الولايات المتحدة الدافع والإمكانية.

حيث أنه مع ظهور الأسلحة فرط الصوتية لدى الولايات المتحدة الأمريكية، سيصبح الهجوم النووي الاستباقي الأمريكي ضد روسيا تهديدا حقيقيا، وفي رأيي، لا مفر منه. الشرط الإضافي الوحيد المطلوب هو وضع الصواريخ بالقرب من مراكز صنع القرار الروسية، بحيث تمنع الضربة الاستباقية "الوقائية" الرد الروسي لحظيا، أو تخفض منه بشدة.

ولما كانت المسافة ما بين موسكو حتى الحدود الأوكرانية تبلغ 400 كيلومترا، فإن مدة قطع الصاروخ فرط الصوتي للمسافة بين أوكرانيا وموسكو تبلغ 2-3 دقائق، وهو ما قاله بوتين لبوريس جونسون، الذي اعتبر ذلك لغبائه تهديدا شخصيا له.

في واقع الأمر، لا يخفي بوتين أي شيء ويتحدث بصراحة، وهذا التهديد بعينه من الغرب هو الذي ذكره باعتباره التهديد الرئيسي في محادثاته مع القادة الغربيين حول أوكرانيا. وهذا السبب بالتحديد، المتمثل بإصرار الغرب في الحصول على فرصة أحادية الجانب لتدمير روسيا بضربة نووية استباقية، هو الذي يكمن وراء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا.

إلا أنه، بالإضافة إلى أوكرانيا، توجد أيضا دول البلطيق وفنلندا وأوروبا الشرقية ككل، حيث يمكن للصاروخ الأمريكي فرط الصوتي الوصول من بولندا إلى موسكو في 6 دقائق، ومن الصعب للغاية اتخاذ قرار بشأن ضربة انتقامية خلال هذا الوقت، بل وهناك خطر تدمير نووي متبادل بسبب خطأ غير مقصود.

ولم يكن من قبيل المصادفة أن الإنذار الذي وجهته روسيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية و"الناتو" في ديسمبر عام 2021 تضمن المطالبة بعودة الحلف إلى حدود عام 1997، أي إلى حدود لا تشمل جميع دول أوروبا الشرقية.

 

أوروبا الشرقية

 

لذلك، فبعد سقوط أوكرانيا، لن تغلق القضية، بل ستظهر قضية ضمان عدم وجود صواريخ أمريكية في كل أوروبا الشرقية والدول الاسكندنافية. بالنسبة لروسيا، تلك قضية حياة أو موت، إلا أن الغرب، من جانبه، لا يظهر فقط عدم استعداده للتسوية، وإنما يزيد أيضا من جهوده لهزيمة روسيا في أوكرانيا، وهو ما يعني تدمير روسيا بعد قليل من الوقت.

وقد حاول فلاديمير بوتين مرارا وتكرارا التفاوض من أجل حلول وسط مع الغرب، بما في ذلك استعداد روسيا لقبول الوضع المحايد لأوكرانيا، وشدد الرئيس الروسي مرارا وتكرارا على أن روسيا لا تلوح بالأسلحة النووية، وتتصرف بمسؤولية.

لكن التوسع السريع من جانب الغرب في حجم ومدى الأسلحة المقدمة لأوكرانيا يدفع روسيا دفعا نحو مسار الصدام النووي.

في ديسمبر 2022، أعلن بوتين إعلانا مفاجئا بأنه إذا لم تستخدم روسيا أسلحتها النووية أولا، فمن المؤكد أنها لن تستطيع استخدامها ثانيا. ثم أوضح أن العقيدة الأمريكية الخاصة بضربة نووية استباقية في الظروف الراهنة تجبر روسيا أيضا على النظر في إمكانية تطبيق مثل هذه العقيدة، لأنه بعد الضربة الاستباقية الأمريكية لن يكون لدى روسيا فرصة للرد.

لا أميل إلى تسمية تحذير بوتين بالأخير، إلا أنه إشارة واضحة للغرب حول كيفية رؤية روسيا للتطور المستقبلي للأحداث. اسمحوا لي بتذكيركم بأنه في نهاية يناير 2023، أجرت الفرقاطة الروسية الأدميرال غورشكوف، المجهزة بصواريخ "تسيركون" فرط الصوتية مناورات في الجزء الغربي من المحيط الأطلسي على مسافة طلقة واحدة من الولايات المتحدة الأمريكية.

وكان من الممكن أن تكون كل هذه المحادثات نظرية لو لم يتبع الإنذار الروسي في ديسمبر 2021 بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا.

بل أذهب في القول إن لدى الأطراف الآن سنتان كحد أقصى للحديث. بعدها، فإن انعدام الثقة المتبادل والهستيريا المتزايدة المعادية لروسيا في الغرب ستجعل الضربة الاستباقية من قبل أحد الطرفين أمرا لا مفر منه تقريبا. في الوقت نفسه، قد لا يؤدي إلى ذلك الهزيمة الافتراضية لروسيا في أوكرانيا فحسب، بل حتى الحفاظ على مناطق السيطرة الحالية أو النجاحات المحدودة لروسيا في أوكرانيا قد يدفع نحو هذا السيناريو.

وهكذا، يبدو لي أن نجاح الهجوم الروسي المتوقع عام 2023، ورد الفعل الغربي المتحفظ عليه، واستعداده للتنازل سيكون فرصتنا الوحيدة حتى للبدء في الابتعاد عن السيناريو النووي. في الوقت نفسه، وبالنظر إلى التصريحات العدائية للزعماء الغربيين، وعلى رأسهم بولندا، فإنني أقدر أن هذه الفرصة ضئيلة. حتى الآن، لا يوجد سبب لتوقع وقف التصعيد من قبل الغرب.

بل إن زيادة الإمدادات الغربية من الدبابات والطائرات والصواريخ بعيدة المدى تشير إلى استعداد الغرب لزيادة التصعيد وترجح أن تؤدي النجاحات الروسية إلى دخول القوات البولندية وربما القوات الغربية الأخرى إلى أوكرانيا.

بالتالي فمن غير المرجح أن تنتهي الحرب عام 2023، لكن، إذا لم تنته خلال العامين المقبلين بانتصار كامل لروسيا والوفاء بالإنذار الروسي، فقد وصفت سلفا توقعاتي لمسار الأحداث. 

 

البحث عن الحقيقة

 

بين التصعيد والتهدئة نشرت بداية من شهر فبراير 2023 أخبار عن قيام مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وليام بيرنز بزيارة سرية لموسكو عارضا تسوية متفاوض عليها تتضمن تنازلات لصالح الكرملين. الملفت أنه في يوم 3 فبراير 2023 نفى المتحدث باسم الكرملين، صحة الأنباء التي تحدثت عن الزيارة، واقتراح واشنطن التنازل عن 20 في المئة من الأراضي الأوكرانية لروسيا.

واعتبر المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن الأخبار التي تحدثت عن ذلك هي تضليل وغير صحيحة، ونفى أن يكون مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية قد قام بزيارة سرية إلى موسكو.

وفي وقت سابق نفى نائب ممثل مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض بدوره، شون دافيت، التقارير التي تحدثت عن أن مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز عرض التنازل عن 20 في المئة من أراضي أوكرانيا إلى روسيا.

وفي نفس السياق نقل موقع "نيوزويك" عن مسؤول في وكالة المخابرات المركزية قوله إن التقارير عن اقتراح بيرنز نيابة عن البيت الأبيض "خاطئة تماما".

من جانبه امتنع النائب الأول لمندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، دميتري بوليانسكي، التعليق على هذه التقارير، وقال إنه يرفض أن "يعلق على الشائعات" من وسائل الإعلام.

وكانت صحيفة "Neue Zürcher Zeitung" السويسرية، قد أفادت يوم الخميس 2 فبراير، نقلا عن سياسيين ألمان، أن الجانب الأمريكي عرض في يناير الماضي، على كييف وموسكو خطة "تسوية سلمية" لإنهاء الصراع.

ووفقا للصحيفة، تضمنت نقل "حوالي 20 في المئة من أراضي أوكرانيا" إلى روسيا، والتي يمكن أن تكون مساوية تقريبا لإقليم دونباس وذلك بعد إجراء استفتاء بين سكانها الذين في غالبيتهم ناطقون بالروسية.

 

عمر نجيب

[email protected]