كم هو ساذجٌ من يعتقد أنّ القوى الدولية الكبرى حريصةٌ الآن على مصالح وحقوق شعوب المنطقة بعد أن استعمر هذه المنطقة عددٌ من هذه القوى الكبرى ولعقودٍ طويلة، واستعمارها هذا كان هو المسؤول الأول عن تخلّفها وعن طبيعة أنظمتها وعن تقسيمها، ثم عن زرع إسرائيل في قلبها، وعن احتلال فلسطين وتشريد شعبها واستنزاف الدول المجاورة لها في حروبٍ متواصلة. وقد كانت هذه الدول الكبرى، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية، مصدر الدعم والتسليح والتمويل لهذه الحروب الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين والعرب، وها هي الآن تتحدّث عن الحرّية والديمقراطية للشعوب العربية بينما ما يزال محظوراً لدى هذه الدول أيُّ تفكيرٍ بتجديد الانتفاضة الشعبية الفلسطينية وصولاً لتحرير الشعب الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي المتواصل لعقود طويلة، فكيف بمقاومته عسكرياً، كما فعلت بعض شعوب المنطقة، بدعم من هذ الدول الكبرى، من أجل تغيير حكومات وأنظمة في المنطقة!.
إنّ الانتفاضات الشعبية العربية حدثت في العقد الماضي، في منطقةٍ تتحرّك فيها قوى إقليمية ودولية عديدة لها أجنداتها الخاصة، وارادت أن تصبّ "التغييرات" في مصالحها، فضلاً عن حدوث هذه الانتفاضات بعد سنواتٍ من إطلاق الغرائز الانقسامية الطائفية والمذهبية والإثنية على امتداد الأرض العربية، بتشجيع أجنبي إقليمي ودولي. وقد يكون الأهم في ظروف هذه الانتفاضات هو ما أحاط بها من دور إسرائيلي (منذ تأسيس إسرائيل) من أجل إشعال الفتن الداخلية وتحطيم الكيانات العربية القائمة لصالح المشروع الصهيوني الهادف لإقامة الدويلات الدينية والإثنية في عموم المنطقة.
ولم تكن الانتفاضات الشعبية العربية موحّدة سياسياً أو فكرياً، ولا متحرّرة من أشكال مختلفة من التدخّل الأجنبي والإقليمي. وهذا الأمر يزيد من مسؤولية قوى التغيير والمعارضات العربية ومن أهمّية مقدار تنبّهها ألا تكون وسيلةً لخدمة أهداف ومصالح غير أهداف ومصالح شعوبها. فقد كانت هنا المشكلة أصلاً في السابق حينما عجزت قوى سياسية معارضة عن البناء السليم لنفسها: فكراً وأسلوباً وقيادات، حيث ساهمت، عن قصدٍ أو عن غير قصد، في خدمة الحكومات والحكّام المستبدين الفاسدين وأطالت بأعمار حكمهم، ممّا جعل شرارت التغيير تبدأ من خارج هذه القوى، ومن شبابٍ عربي احتاج أصلاً إلى تكامل حركته مع رؤى فكرية وسياسية سليمة لم تكن متوفرة له.
أيضاً، لم يظهر بوضوح في الانتفاضات الشعبية العربية التوازنَ السليم المطلوب بين شعارات: الديمقراطية والعدالة والتحرّر والوحدة الوطنية ومسألة الهوية العربية. فمعيار التغيير الإيجابي المطلوب في عموم المنطقة العربية هو مدى تحقيق هذه الشعارات معاً وليس شعار الديمقراطية فقط، إلاّ إذا كان الهدف ممّا حدث هو فقط إشعال "الفوضى الخلاّقة" في تركيبة الأوطان والمجتمعات العربية، وهو كان هدفاً أميركياً/إسرائيلياً مشتركاً خلال فترة حكم "المحافظين الجدد" لواشنطن، أو ربّما هو في الحدّ الأدنى تنفيذٌ لما دعا إليه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن، عام 2004 في قمّة "الناتو" بتركيا، من تشجيع للتيارات السياسية الدينية على الأخذ بالنموذج التركي (الذي يجمع بين الإسلام السياسي في الحكم والممارسة الديمقراطية في دولةٍ هي عضوٌ في "الناتو" ولها علاقات طبيعية مع إسرائيل)!.
نعم هناك ضرورةٌ قصوى للإصلاح والتغيير في عموم المنطقة العربية، لكن السؤال هو كيف، وما ضمانات البديل الأفضل، وما هي مواصفاته وهويّته؟! فليس المطلوب كسب الآليات الديمقراطية في الحكم بينما تخسر الأوطان وحدتها أو تخضع من جديد للهيمنة الأجنبية، فهل نسي البعض ما قامت به إدارة بوش بعد غزوها للعراق من ترويجٍ لمقولة "ديمقراطية" تقوم على القبول بالاحتلال والهيمنة الأجنبية ونزع الهويّة العربية وتوزيع الوطن الواحد إلى كانتونات فيدرالية؟!.
تطورات خطيرة تحدث الآن في المنطقة العربية بينما دولها منشغلة في همومها الداخلية، وبينما المراهنة الإسرائيلية والأجنبية هي على التدويل والتقسيم.
لذلك، هناك ضرورة عربية للتنبّه أولاً لمحاولات الفتن الشعبية في أكثر من بلد عربي، وعلى ما يحصل من تصفية حسابات إقليمية ودولية من خلال أزمات عربية داخلية. فهناك في الحالتين أشخاصٌ جاهزون لخدمة أجندات أجنبية وإسرائيلية تبحث لها عن عملاء ووكلاء!.
إنّ تحميل "نظرية المؤامرة" وحدها مسؤولية المصائب والسلبيات هي حتماً مقولةٌ خاطئة ومُضلّلة، فكلّ ما يحدث من "مؤامرات خارجية" يقوم فعلاً على استغلال وتوظيف خطايا داخلية، لكنّه أيضاً "قصر نظر" كبير لدى من يستبعد دور ومصالح وأهداف "الخارج" في منطقةٍ مهمة جداً لكلّ العالم بما عليه من موقع إستراتيجي وبما فيها من ثروات وما لها وفيها من تاريخ حضارات وأماكن مقدسة لكل الأديان.
نعم أنظمة الاستبداد والفساد مسؤولة عن تردّي أحوال الأوطان العربية وعن تبرير التدخّل الأجنبي بمصائرها، لكن هل سيغير ذلك الآن من النتائج؟! أليس الاستنجاد بالأجنبي لتغيير حكوماتٍ وأنظمة، كما حدث في العراق وليبيا وسوريا، هو تكرارٌ لما حدث قبل قرنٍ من الزمن أيام "الثوة العربية الكبرى" ضد الحكم العثماني، حيث لم تقم "الدولة العربية الواحدة" التي وعدت بريطانيا بدعمها، بل قامت في المشرق "دولة إسرائيل" التي وعد بها الوزير البريطاني بلفور، فحنث عهده مع العرب ونفّذ وعده مع المنظمة الصهيونية. وبدلاً من "الدولة العربية الموحّدة" جرى توزيع البلاد العربية وتقسيمها كمناطق نفوذٍ وانتداب لدول أوروبا الكبرى!.
فما الذي تغيّر الآن حتى أصبحت الثقة واجبة بالدول الغربية، ومرفوضٌ التشكيك بوعودها؟ هل وافقت مثلاً دول حلف الناتو على قبول العضوية الكاملة لدولة فلسطين بالأمم المتحدة؟ وهل تحقّقت الوعود المتكرّرة من رؤساء أميركيين بدعم قيام دولة فلسطينية مستقلّة؟ وهل جرى عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن الدولي لاستصدار قراراتٍ تحاسب إسرائيل على مجازرها وتدين الممارسات العدوانية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة؟ وهل جرى تهديد "الناتو" لإسرائيل بالفصل السابع وبحقّ استخدام القوة العسكرية ضدّها، إذا لم تنسحب من الأراضي المحتلة وإذا لم تكشف عن أسلحة الدمار الشامل لديها؟! وهل قرّرت الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية قطع العلاقات مع إسرائيل ومعاقبتها، في الحدِّ الأدنى، اقتصادياً ومالياً نتيجة مواصلة احتلالها منذ العام 1967 لأراضٍ عربية؟!
أيضاً، لماذا لم تستخدم حكومات الناتو "نفوذها" الكبير الآن لدفع تونس ومصر وليبيا إلى إعلان "اتحاد الجمهوريات الديمقراطية العربية"، باعتبار أنّ دول الناتو دعمت المتغيّرات التي حدثت في هذه البلدان الثلاث، وبين هذه البلدان تكاملٌ في الأمور كلّها، فضلاً عن حاجتها لبعضها البعض أمنياً واقتصادياً؟. أليس ذلك أفضل من تشجيع "الناتو" لظواهر الفتن والصراعات التي تحدث الآن في عموم المنطقة؟!.
في الأفق الآن، مشاريع دولية لعددٍ من بلدان المنطقة تقوم على إعادة تركيبها بأطرٍ سياسيّة ودستوريّة جديدة تحمل الشكل الفيدرالي "الديمقراطي"، لكنّها تتضمن بذور التفكّك إلى كانتوناتٍ متصارعة في الداخل، ومستندة إلى قوى في الخارج. وتخدم هذه المشاريع الدولية السعي الإسرائيلي لدفع الواقع العربي إلى حروبٍ أهليّة عربيّة شاملة. فهذه المشاريع الدولية والإقليمية هي التي عملت على عسكرة الانتفاضات الشعبية وعلى تحريف مسارها وعلى شراء الولاءات بالمال والسلاح لتكون في خدمة أصحاب تلك المشاريع.
لقد جرت محاولة تصديع الكيانات الوطنية الكبرى في الأمّة العربية، واحدةً تِلوَ الأخرى، لكي يتصدّع بعدها كلُّ ما في هذه الأمّة من أوطان وجماعات!. لكن يبقى الأمل كبيراً الآن بوعي شعوب البلاد العربية بما يحدث معها وحولها رغم التشويه المتواصل لكل حقائق الصراعات الدائرة حالياً، ورغم "قصر نظر" البعض عن رؤية الغابة المشتعلة كلّها.
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن
Twitter: @AlhewarCenter
Email: [email protected]