ان عطلتي هذه السنة في بلادي موريتانيًا ربما قد كانت ضرورية للغاية وذلك بعد غيبة قاربت عقدين من الزمن !
و حيث أنه تحت إلحاح العائلة و كذا الاطفال قبلت هذه السنة تجشم صعاب السفر و نفقاته الكثيرة ، وذلك في سبيل زيارة بلادي ، و لكن قد كان سفرنا في الوقت غير المناسب بحيث كانت بداية انطلاقتنا من مدينة الويز فيل الآمريكية في 09 من شهر آغسطس الذي صادف ذلك التوقيت تهاطلات مطرية غزيرة كانت موريتانيًا في امس الحاجة اليها بعد سنوات من هجران المطر لبلادها .
اني قد كنت أثناء رحلتنا تلك و نحن نبادل الطائرات في اتجاه موريتانيا لما قد كنت أشاغل نفسي بالرسم في الخيال متخيلا صور الناس و العمران و الحركة التجارية و ما يمكن ان يكون قد آلت اليه تلك التصورات من بعدي ، و لكن قد غاب عني تماما للأسف تخيل ما سيكون عليه واقع المناخ خصوصا في هذه السنة المطرة بالذات بعد ذلك الجفاف الطويل والماحق !
و حيث فوجئنا بعد رحلة شاقة بأمطار غزيرة استقبلتنا لحظة نزولنا الفندق في منطقة تفرغ زينة التي كان في اعتقادنا بأنها (زينة) حقا ، و لكن وجدناها تتوفر فعلا على منازل جميلة ، و لكن تلك المنازل قد اتخذت من الوحل سراويل كادت ان تغطيها بالكامل ، و حيث قد استقبلنا في تلك المباني الجميلة بجحافل من الباعوض المبتهج كما يبدو ربما بحلاوة دمائنا التي غاب طعمها عنه قرابة العقدين من الزمن!!
وحيث قد شددنا الرحال تجاه مدينة كرو عبر طريق طويل يحتاج الى كثير من العناية و الأتساع والاصلاح، معتقدين ان مدينة كرو سنجدها هي كما تركناها كأم حنون لا يشعر المرأ في اجوائها بأي ملل ولا عزلة او اكتئاب ، و قد كانت فعلا كذلك من حيث الاستقبال الحار الذي تلقيناه من الاهل و الاصدقاء حيث هيؤوا لنا منزلنا على احسن حال ، و قد احاطونا بالعناية و الرعاية و اغدقوا علينا بالذبائح (إبلا و غنما ) كما امطرونا بالعواطف الصادقة التي كادت تنسينا ايام تفرغ زينة او (تفرغ باعوضا و وحلا ) فما أمرها من أيام !
الا انه بعد اسبوع من بهجة ذلك القاء و مؤانسة الاهل و الاصداقاء باستعادتنا لذكرياتنا الطيبة المشتركة ، إلا أننا قد استفقنا للأسف على الواقع الفعلي الذي سنعيشه طيلة شهرين و عشرة ايام و هو كتالي : فإنه بمجرد ما يطلع قرص الشمس فإن اي لمحة من جسدك ستخرج عن ظل المنزل ستكون عرضة لنوع من الشوى الذي لا رائحة له و لا مرق . و اذا بقيت طول الوقت مقيما في المنزل فإن المكيف المائي و المروحيات الكهربائية ستجلبان لك تكاسل العظام و السعال و ارتخاء المفاصل و ربما أيضا الروماتيزم المزمن !
وقد تبقى طيلة اليوم هكذا منتظرا المساء لعله ينقذك من حرارة النهار و نقصان الاكسجين.الا ان الليل ايضا له اكراهاته هو الآخر خصوصا في منزلنا نحن لكونه مقاما في سفح تلة مطلة على ضاية ( اتويميرت ) ، إن موقع ذلك المنزل على الربوة في وسط المدينة سيجعلك من فوق سطحه تراقب كافة ارجاء المدينة و ما يدور فيها من حركات وغير ذلك من أنشطة ، إلا إنه بقربه أيضا من الماء والشجر فسيجعله ذلك ربما مدعاة لأن يكون وكرا وسكنا للباعوض والنمل الطائر وكذا (خنفًوس فقنون الأخضر) !
و اذا ما جن الليل و دلهم واقترب الوقت من تلك الساعة الثامنة مساء فإن جحافيل الباعوض ستأتيك معا من كل حدب وصوب و ستبدأ تطاردها بيديك يمينا وشمالا إلى ان تدخل مكرها (القبة) متفاديا لدغ ذلك الباعوض وبعد حلب البقرات فسنبدأ العشاء داخل قبب مغلقة وبعد ذلك ستحاول الخلود الى الراحة والنوم طيلة 10 ساعات متتالية ، و لكنه سوف يكون نوما متقطعا بسبب جوقة الضفادع التي يبدأ نشيدها الوطني مادحة به الخالق عز وجل على ما أتى به من أمطار غزيرة وذلك بما يصدرعنها من نعيق متماثل ربما تمله بسرعة بسبب رتابته و عدم تغيير، نغماته أوإيقاعه ،ثم لليأتي بعد ذلك و على موعد دقيق ومضبوط نهيق الحمير التي تجر العربات مستذكرة مشاق اليوم الماضي بما عانته فيه من سغب و مشقة ربما منتظرين اليوم الموالي قياسا على اليوم الذي سبقه معبرين بذلك النهيق عن حزنهم الشديد وذلك بنوع من الحنين المتقطع والمتموج الذي لا يخفى على السامع الفطن ما مدى ما عبرت به تلك الحمير من اصوات عن واقعهم السيئ المزري والحزين !
وبعد ذلك ياتي دور الكلاب السائبة حيث يقومون بجوقة نباح و كأنهم يعيدون التدريب عليها كل ليلة خوفا من أن ينسوا وظيفة النباح التي يدافعون بها عادة عن قطعان الماشية وذلك قبل ان قلت في المدينة بسبب هجرة السكان الشيئ الذي جعل تلك الكلاب تعيش شبه بطاله دائمة .
وحين يصل الوقت الى الرابعة ليلا فإذا بالأئمة المحترمين يذكرون الناس بواسطة الأذان بقرب صلاة الفجر و ليتهم كانوا يوحدون وقت الأذان ! حيث يبدأ اول مؤذن مع بداية الساعة الرابعة لليكون آخر مؤذن ينتهي مع بداية الساعة السادسة صباحا و هو ذلك المؤذن المتميز الذي شهادته برسالة محمد ( ص )يقدمها دائما بهدوئه المعهود و كأنه يسوق تلك الشهادة رويدا على شكل حبة زيتون يدحرجها بسبابته اليمنى فوق طاولة مثبتة القوائم !
وأخيرا يعلن ذلك الإمام بشرى كلمة " أصبح و لله الحمد " التي تشعرني ببداية ساعة كاملة من الراحة بعد صلاة الفجر من لسع حشرات البعوض و أنا اتريض مشيا على الأقدام فوق منزلنا موزعا نظراتي في كل اتجاهات اطراف المدينة المترامية و كأنني اراها لأول مرة من جديد ، و في تلك الساعة أيضا ستسريح يداي من مطاردة الباعوض و أبقيهما مسدلتان هكذا إلى ان يحين وقت حليب البقرات صباحا من جديد وفي نهاية تلك الساعة الرحيمة ، فإني سأنزل من فوق الدار من اجل مساعد العامل في بعض مهامه كحليب البقرات مثلا أو تنظيف البيت الشئ الذي لا يرضاه لي أبنائي و لا أمهم ، ولكني أرضاه لنفسي لأن أبي قد عودني على تلك المشاركة رحمة بذلك العامل وغيره . فرحم الله أبي رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته صحبة الأنبياء والشهداء والصالحين ونعم أولئك رفيقا .
و في حدود التاسعه صباحا سيبدأ يوم جديد بمقر مؤتمر الغربان المجود أصلا فوق شجرة الطلح العجوز الموجودة جنوب منزلنا وهي المتبقية أصلا من عجائز أشجار الطلح في المنطقة بعد وفاة زميلتها (طلحاية ) اولاد خالي علما الشهيرة رحمها الله ، وذلك منذ سنوات قد خلت ، لليبدأ حوار الغربان عاليا على الطريقة الغرابانية وكلما أحسوا بالعطش إلا وينزلون أفرادا أو جماعات إلى حنفية المنزل لليشربوا منها ولليعودوا لمتابعة مأتمرهم اليومي وذلك تزامنا مع تجمعات حزب الإنصاف الجديد في ثوب سلفه القديم . ولعلهم يحضرون هم أيضا لانتخابات جديدة ربما تكون أكثر ديمقراطية وشفافية مما قد تعودنا عليه في ظل نظم العسكر المختلفة !
وفي الختام فإني اريد ان أنبه بادئ ذي بدء بالا يتهمني أي شخص -غلطا على اني مستاء من زيارة بلادي هذه السنة بسبب ظروفها كما ذكرت . وذلك لكوني آخذ الأمور تجاه وطني بالمقولة القائلة: ( بلادي و ان جارت علي عزيزة و أهلي وان ضنوا علي كرام ) !
و بالتالي فمهما كان المناخ قاسيا و كذا اهمال النظام باديا و معاملات موظفيه غير لائقة ولاعادلة الا أن كل ذلك لا ينقص من قيمة لمسة قدمي لأول ارض (مس جلدي ترابها) ثم أنه رغم ما ذكرت فإني بمجرد ما وطأت قدماي مطار نواكشوط فإني قد غمرتني سعادة وراحة بال و طمأنة نفس كان آخر عهد لي بمثلهم هم أيام قضيتها في الوطن قبل يوم مغادرتي لبلادي في أواسط شهر يونيه من السنة 2013 م .
ذ / اسلم ولد مانه