المعروف عن الجزائر بانها بلد المليون ونصف المليون شهيد في سبيل الحرية والاستقلال وطرد الاحتلال والاستعمار وتاكيد الهوية العربية، هكذا عرفت الجزائر واشتهرت في انحاء الأرض، لكنها بذات الوقت والاهمية بلد الخمسين مليون حر من الاحياء أبناء الشعب العزيز صاحب الكبرياء.
في العام الماضي سنحت لي فرصة زيارة الجزائر لتغطية الانتخابات التشريعية وكانت الزيارة الوحيدة لهذا البلد العزيز، كم كانت فرصة عظيمة ان ازور هذا البلد الذي احببته منذ سنوات الطفولة الأولى، وحفظت نشيده الوطني وانا على مقاعد الدراسة. وفي زيارة الجزائر خلال العام الماضي عبرت لزميلي الصحفيين الجزائريين سفيان مراكشي وسليم بوزيدي عن مدى هذا الحب بقولي ” انني احب كل شيء بالجزائر الأرض والهواء والماء والناس وحتى قطط الطريق “. وكانت هذه الكلمات البسيطة نابعة من القلب.
واليوم نجد لزاما علينا ان نتوجه ببطاقة شكر وعرفان لهذا البلد الأصيل وشعبه النبيل وقيادته الوطنية وجيشه الشريف الشجاع، بعد هذا الجهد الكبير الذي بذلوه لرأب الصدع الفلسطيني بين الفصائل الفلسطينية، وإنجاز وثيقة الجزائر لانهاء الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي. وهذا الجهد لم يكن وليد ثلاثة أيام من الاجتماعات المكثفة في الجزائر، انما كان ثمرة عام كامل من الجهد الجزائري المتواصل للوصول الى هذه اللحظة، توصلت فيه الدبلوماسية الجزائرية مع كافة الأطراف الفلسطينية، ثم انتقلت للتنسيق مع الأطراف العربية الفاعلة، بصمت وهدوء بدون استعراض اعلامي او ضجيج اجوف للتفاخر، وبالتوازي مع هذا الجهد كانت الجزائر تبذل جهدا جبارا لاعادة سورية لمقعدها في الجامعة العربية وظل هذا الجهد مستمرا حتى أعلنت سورية رسميا اعتذارها عن الحضور.
الجزائر لها مكانة خاصة محفورة في وجدان الشعب الفلسطيني على اختلاف توجهاته وتياراته، ولها تقدير وحب من كل المقاومين الفلسطينيين والعرب، وهذه المبادرة الجزائرية والانجاز المهم على صعيد توحيد الساحة الفلسطينية يلقى تقديرا عاليا وامتنانا خالصا. وهذا يرتب على قادة الفصائل الفلسطينية مسؤولية كبيرة في إنجاح هذا الاحتضان الجزائري للمصالحة من خلال تنفيذ كل بنود الوثيقة، واعلاء المصلحة الوطنية للشعب الفلسطيني، والترفع عن الانا الفصائلية والمكاسب الحزبية والمصالح الضيقة. خاصة ان الشعب الفلسطيني ينهض اليوم ليجدد المقاومة في وجه الاحتلال في الضفة الغربية والقدس، ويثبت معادلة الردع ومراكمة القدرة العسكرية في غزة،و التمسك بالهوية العربية والأرض في الأراضي المحتلة عام 48. برغم ممارسات إسرائيل الوحشية بالحصار والاستيطان والاستيلاء على القدس والاعتقال والقتل اليومي وهدم البيوت.
يجب ان يرتقي قادة الفصائل والقوى الفلسطينية الى مستوى هذا الشعب في التضحية والصبر والعطاء والتحمل. وثيقة الجزائر فرصة تاريخية قد لا تتكرر يجب التقاطها والبناء عليها. لقد تم توقيع العديد من اتفاقات المصالحة على مدى 15 عاما في مكة وصنعاء ودمشق والقاهرة وبيروت وكلها اصطدمت بالتنفيذ وتلاشت وعاد الجميع الى نقطة الصفر، وهو ما أدى الى خذلان ويأس لدى الشعب الفلسطيني من هذه الاتفاقات والمصافحات والتقاط الصور التذكارية ولم يعد يهتم بمجرياتها واخبارها. لذلك يجب ان لا تلقى وثيقة الجزائر نفس المصير، وان لا تختلف فتح وحماس مرة أخرى على اليات التنفيذ والحصص والاحجام، فلا سلطة ولا كراسي ولا جاه ولا نفوذ ولا زعامة لاحد طالما الشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية تحت الاحتلال وكلنا امام تحدي واحد هو الاحتلال، وامام مهمة واحدة هي تحرير الشعب والأرض وتقرير المصير.
حسنا فعلت الجزائر بتشكيل لجنة فلسطينية جزائرية لمتابعة التنفيذ وحسنا فعلت برفع الوثيقة لتبنيها في اجتماع القمة العربية الشهر المقبل. لعل هذه الإجراءات تحمي الاتفاق وتوصله الى مرحلة التنفيذ العملي.
لا نشك ان إسرائيل المتضرر الأكبر منه ستعمل ليل نهار على افشاله وسيكون عملها التخريبي مضاعفا باعتبار الاتفاق برعاية الجزائر. توحيد الصف الفلسطيني وتنبني كافة القوى الفلسطينية برنامج نضالي موحد في هذا التوقيت الذي تشتعل فيه الأرض الفلسطينية وتنهض فيه المقاومة في الضفة يضع إسرائيل في موقف حرج، وهي لن تقف دقيقة واحدة بانتظار هذا المشهد وستتحرك لضرب الاتفاق من خلال العملاء في الداخل والخارج.
ايتها الجزائر العظيمة لم يلق الشعب الفلسطيني منك الا كل خير ومحبة ودعم واحتضان في الماضي والحاضر، في الموقف السياسي في ملاعب الرياضة والبطولات العالمية في الثقافة والاعلام والفن في الوجدان الشعبي في المساندة وتقديم ما لا يعرفه الكثيرون من دعم بصمت. لك من الشعب الفلسطيني الف شكر وتحية. تلك مواقف تحفر في عمق ثقافة الشعب وتبقى راسخة جيلا اثر جيل، وسيكتب التاريخ اسمك بحروف من نور.
كمال خلف كاتب واعلامي فلسطيني