انهمك العالم بتصريح مفاجئ للرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال مشاركته في قمة شنغهاي، يعرب فيه عن رغبته في لقاء الرئيس السوري بشار الأسد فيما لو حضر إلى أوزبكستان.
عملياً، لم يأتِ حديث إردوغان من فراغ، إذ سبقته سلسلة من التطورات التي تجعل مسار التقارب السوري التركي يسير بتسارع. ولقد بدأت مؤشرات السعي لتسوية سورية–تركية تظهر بعدما تحرّك الإيرانيون (باعتبارهم أصدقاء لسوريا وتركيا) لتقريب وجهات النظر بين الطرفين وتأمين حلّ سياسي يجنّب منطقة الشمال السوري عملية عسكرية تركية كان إردوغان قد أعلنها، وقال إن هدفها إنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً، من أجل التخلص من الخطر الإرهابي (كما سمّاه)، وإعادة نحو مليون سوري طوعاً إلى بلادهم، أي إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الأمنية التركية في شمالي سوريا.
وعلى هذا الأساس، كانت مبادرة وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان الذي زار تركيا وسوريا لإجراء وساطة، ثم قمة طهران الثلاثية (بوتين، رئيسي، إردوغان) في تموز/يوليو المنصرم التي وضعت سوريا بنداً أول على جدول أعمالها.
لا شكّ في أن كثيراً من الانفراجات السياسية والأمنية حصلت منذ إطلاق مبادرة عبد اللهيان السورية، التي أعلن حينذاك أنها تقوم على أساس حلّ المشكلات الحدودية، ومعالجة ملف الكرد، وإنهاء وجود المجموعات الإرهابية في شمالي سوريا، في مقابل ليونة سياسية دبلوماسية بين البلدين.. وصولاً إلى تحقيق تسوية نهائية بين البلدين. منذ ذلك الحين، أُعلن عن لقاء بين جاويش أوغلو وفيصل المقداد على هامش قمة الانحياز، ولقاءات أمنية رفيعة المستوى بين الطرفين في دمشق، إضافة إلى طلب تركي من مسؤولي المعارضة السورية بالرحيل.
وعليه، ولأن التقارب بات علنياً، فما الأهداف التركية من هذا التقارب السريع الذي فاجأ كثيراً من المراقبين:
أ- الانتخابات التركية المقبلة 2023
تقول التقارير الصحافية إن المعارضة التركية (إن توحّدت) تستطيع أن تشكّل تهديداً جاداً لإردوغان وحزبه في الانتخابات المقبلة، وإن الأميركيين ليسوا بعيدين من دعم المعارضة لإطاحة إردوغان، الذي ينتهج سياسة خارجية "مقلقة" و"غير مرغوب فيها" أميركياً منذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016.
وعلى هذا الأساس، يطرح إردوغان عدداً من القضايا التي تنفعه داخلياً، منها إعادة نحو مليون لاجئ سوري طوعاً إلى بلادهم، وذلك بعدما بدأت المشكلات الداخلية بين المجتمعات المضيفة والسوريين، وبعدما ارتفعت نسب العنصرية في المجتمع التركي الذي يعاني اقتصادياً واجتماعياً بفعل تدهور قيمة العملة الوطنية، وارتفاع معدلات البطالة وسواها، ويُتهم اللاجئون السوريون بأنهم ينافسون الأتراك على فرص العمل ويكلّفون الاقتصاد أعباءً هائلة.
أما من ناحية الموضوع الكردي، فإن قيام إردوغان بـ"التخلص من الخطر الكردي" (قسد) على حدود بلاده، يعطيه تأييداً من القوميين الأتراك الذين يجدون في الكرد دوماً خطراً على الدولة والأمة.
ب- التقارب مع روسيا وإيران
منذ عام 2016، تقوم سياسة إردوغان الخارجية على "مسك العصا من الوسط"، فيتموضع بين المحورين المتقاتلين في المنطقة، ويتعامل بـ"القطعة" والمصلحة مع كل منهما.
لا شكّ في أن سنوات من الحرب التي انخرطت فيها أنقرة مباشرة في سوريا تأييداً للولايات المتحدة وحلف الناتو، لم تؤدِ إلى النتائج المرغوب فيها تركياً، ولم يستطيع إردوغان أن يدفع الناتو إلى توفير غطاء عسكري وسياسي ودولي لتدخل عسكري واسع في سوريا. اليوم، يدرك إردوغان أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، وأن تقاربه مع سوريا مدعوماً من كل من روسيا وإيران سيكون مربحاً اقتصادياً واستراتيجياً في عدد من الملفات الأخرى غير السورية.
ج- استراتيجية "مركز" الطاقة
إن التقارب وفتح الحدود مع سوريا، سوف يتيحان للأتراك أن يحقّقوا ربحاً استراتيجياً طويل الأمد، وذلك على صعيد خطوط الطاقة، التي يهدفون من خلالها إلى استغلال موقع تركيا الجغرافي لتصبح تركيا "محوراً دولياً" للطاقة، تمر عبرها جميع الخطوط (حول هذا الموضوع، راجع مقالنا في الميادين).
يتطلع الأتراك إلى الغاز المكتشف في شرقي المتوسط، ويطمحون إلى أن تكون تركيا ممر عبور لذلك الغاز إلى أوروبا. وهم يدركون أن الغاز الإسرائيلي سيكون حتماً أحد بدائل الغاز الروسي إلى أوروبا، خصوصاً بعدما وقّعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين اتفاقاً مع "إسرائيل" ومصر لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر البحر. وعليه، يضع الأتراك نصب أعينهم تنفيذ مشروع خطوط أنابيب في البحر بين "إسرائيل" وتركيا، وهو يحتاج إلى 3 أعوام تقريباً ليصبح جاهزاً لتأمين الغاز لأوروبا.
ينظر الأتراك إلى فتح الحدود بين سوريا وتركيا، كأساس في إمكانية إعادة العمل بخط "الغاز العربي" الذي أنشئ بهدف نقل الغاز المصري و(العراقي) إلى أوروبا، عبر الأردن، وسوريا، وتركيا ومن هناك إلى أوروبا.
وبعودة الحديث عن تأمين الغاز المصري للبنان الذي طرحته السفيرة الأميركية، يتطلع الأتراك إلى إمكانية تفعيل العمل في هذا الخط، الذي توقف بسبب الحرب السورية.
كانت خطة إنشاء خط الغاز العربي تسير وفق 4 مراحل: الأولى بين مصر والأردن التي أنجزت في تموز/يوليو عام 2003. المرحلتان الثانية والثالثة من الأردن إلى سوريا (حمص)، وأنجزتا عام 2008، وكانت مصر تضخ عبرهما 90 مليون قدم مكعب يومياً من الغاز إلى سوريا.
أما المرحلة الرابعة التي كان من المفترض أن تربط بين حمص وشبكة الأنابيب التركية، لإيصال الغاز المصري إلى أوروبا، فقد أنجز منها خط الأنابيب بين حلب وتركيا بطول 15 كيلومتراً، وتوقّف العمل بسبب الحرب على سوريا.
إذاً، هي مجموعة من الأهداف القصيرة والطويلة الأجل التي تحتّم على إردوغان التقارب مع السوريين، ولكن يبقى أمام هذا التقارب عوائق عدّة، منها قضية إدلب، والانتشار العسكري التركي في الأراضي السورية، والفيتو الأميركي، وبخاصة فيما يتعلّق بالشمال الشرقي السوري وسواها من الأمور التي تحتاج إلى تسويات كبيرة في المنطقة قبل تذليلها تذليلاً كاملاً.
ليلى نقولا أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية