المواقف السياسية المشرفة التي عرفت بها السلطنة والتي سجلت متلازمة عمانية خصوصا خلال العقود الخمسة الاخيرة ليست جديدة على عمان بل لها أساس ثابت رصين منذ عرفت عمان، ولسنا هنا بصدد تعداد تلك الاضاءآت العمانية اجمالا ولكن نستعرض بشكل سريع أبرز تلك الاضاءآت التاريخية للولوج الى الحاضر المشرق لهذا البلد الذي يستكمل منظومة العقد المضيء في تاريخ الدولة والحضارة والامبراطورية .
تذكر المصادر التاريخية أن مالك بن فهم هو أول من أسس كيان سياسي في عمان في القرن الميلادي الثاني حيث جاء الى عمان مع قومه من الازد ووجد الفرس في عمان فحاربهم في معركة تاريخية تسمى معركة “سلوت” وكانت هذه المعركة إحدى أهم ثلاث معارك انتصر فيها العرب على الفرس قبل الاسلام، وهناك مصادر تاريخية تحدثت عن هذا القائد القحطاني العظيم الذي حكم عمان لسنوات طويلة، ومن طرائف القول أن مالك بن فهم أراد اختبار يقظة ابنه سليمه وقد كان يحرسه في تلك الليلة وهو أصغر أبناءه وأحبهم الى قلبه والذي حكم عمان من بعده فرماه بسهم أصابه فلما أيقن مالك من وفاته قال مرثية قصيرة أخذ منها العرب المثل: أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني، ثم استمر حكم أبناء مالك بن فهم في عمان واستمرت عمان كأحد الكيانات السياسية المعروفة قبل الاسلام وبعده.
الاضاءة العمانية الأهم التي يشار إليها بالبنان في حديث الرسول الكريم محمد عن أهل عمان، وهو من الاحاديث الصحيحة حيث بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَسَبُّوهُ وَضَرَبُوهُ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ أَنَّ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ مَا سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ ) رواه مسلم (رقم/2544) .
الثناء على مواقف عمان لم يتغير أيضا في عهد الخلفاء الراشدين وقد شارك العمانيين في مختلف الفتوحات الاسلامية في عهد الدولة الاسلامية الاولى خاصة في العراق ومصر حيث كان الازد من أبناء عمان هم ثلة جيش عمرو بن العاص الى مصر، والمعلوم أن عمرو بن العاص بعثه الرسول عليه الصلاة والسلام الى عمان قبل ذلك فدخلها سلما بلا خف ولا حافر فكان له في عمان موطئ قدم لذلك اختار من اهلها الجيش في حملته الشهيرة الى مصر، كما تولى قادة عمانيون عدد من الحملات في بعض الفتوحات الاسلامية خصوصا في فتوحات الهند والسند وغيرهما، وحافظت الدولة العمانية في فترات طويلة من التاريخ على سيادتها خاصة في العهد الاموي وتعرضت عمان لحملات أموية عنيفة بهدف اخضاعها والحال لا يختلف كثيرا في عهد الدولة العباسية، فكانت عمان بين استقلال وخضوع تتحول من تفكك وانقسام الى وحدة تراب وطني لتقاوم الغزاة وتستعيد سيادتها وهكذا هو الحال في معظم فترات التاريخ .
الدولة العمانية في عصر النهضة الأوروبية أيضا كانت تعتبر من أبرز الكيانات السياسية في المنطقة ولكن للأسف كان ذلك في فترات حالكة للوطن العربي عموما اذا ما استثنينا لاحقا دولة محمد علي باشا في مصر، ومع أن الملاحين العمانيين كان لهم دور محوري في الاكتشافات الجغرافية وهم من ساعد ماجلان في اكتشاف رأس الرجاء الصالح بل وتذكر بعض المصادر أن الملاحين العمانيين كان لهم السبق في اكتشاف امريكا ويمكن للقارئ البحث في ذلك، ونظرا لأهمية عمان الجغرافية كانت هدفا للقوى الاستعمارية فقد تعرضت للاحتلال البرتغالي الغاشم خلال فترة سادها الانقسام الداخلي في النصف الاول من القرن السابع عشر فكان العمانيون على الموعد، ورب ضارة نافعة حيث اجتمع أهل الحل والعقد في عمان لتعيين قائدا موحدا اجتمع عليه أبناء عمان فتم اختيار الامام ناصر بن مرشد اليعربي ليوحد أبناء عمان ويوجه مقدرات البلاد لمحاربة البرتغاليين في عام 1624م لذا لم يطل الامر كثيرا فتم محاصرة البرتغاليين في مسقط من قبل الجيش العماني إلا أن وفاة الامام ناصر بن مرشد وتولي خلفه الامام سلطان بن سيف اليعربي الذي استكمل مهمته الوطنية الاولى في محاربة البرتغاليين وطردهم ثم خلفه الامام سيف بن سلطان اليعربي “قيد الارض” الذي انطلقت جيوشه لاجتثاث البرتغاليين في عموم المنطقة ولاحقهم في سواحل افريقيا فقد كان الاسطول العماني يتكون من مئات السفن ويعتبر أقوى الاساطيل ومهابا بين الاساطيل الاوروبية المتواجدة بالمنطقة، وبنهاية دولة اليعاربة دب الخلاف بين العمانيين ليجد الفرس الفرصة سانحة لاحتلال صحار العمانية على ساحل بحر عمان، فاجتمع أهل الحل والعقد مجددا لمبايعة الامام أحمد بن سعيد مؤسس الدولة البوسعيدية عام 1744م وهي التي تحكم عمان حتى اليوم، فقاد الامام أحمد بن سعيد بنفسه جيشا عمانيا لمحاربة الفرس وتم طردهم من عموم عمان بل لاحقهم في مناطق أخرى من الخليج (البحرين والبصرة) فقد استنجد حاكم البصرة بالامام بعد محاصرة الفرس للبصرة فأرسل الامام أحمد اسطولا قويا لفك الحصار وتذكر المصادر التاريخية أن الفرس مدوا سلاسل حديدية في شط العرب لمنع وصول الاسطول العماني فقامت إحدى سفن الاسطول العماني وتسمى “الرحماني” بقطع تلك السلاسل الحديدية وفك الحصار عن البصرة وظل الخراج يأتي من البصرة مع رسالة شكر موثقة من قبل الخليفة العثماني .
لم تغب عمان بعد ذلك عن المشهد السياسي بالمنطقة نظرا لوجود امبراطورية عمانية قوية ويحمي دولتها جيش وأسطول قوي بل هو الاقوى في المحيط الهندي، وامتدت امبراطورية عمان لتشمل أجزاء مترامية الاطراف شملت عمان والساحل الشرقي لافريقيا ووصل نفوذها الى الضفة الاخرى من الخليج حيث ضمت اقليم بلوشستان وجواذر في عهد السيد سعيد بن سلطان فبرزت الحضارة العمانية في العمارة والزراعة وجلب السلطان سعيد زراعة القرنفل الى زنجبار وازدهرت التجارة وكان للعمانيين دورا مهما في تجارة طريق الحرير والتواصل مع الشرق الأسيوي، ومما يذكر هنا أن عمان أرسلت حينها أول السفن الى الولايات المتحدة وعقدت اتفاقيات تجارية مع الولايات المتحدة وعينت أول سفير عربي في واشنطن هو الشيخ أحمد بن النعمان الكعبي أول مبعوث عماني إلى الولايات المتحدة الأمريكية أرسله السيد سعيد بن سلطان لتقوية العلاقات مع الولايات المتحدة ولشراء الأسلحة التي كان السلطان في حاجة إليها أثناء صراعه ضد الوجود البرتغالي في موزمبيق، حيث أبحر على ظهر السفينة سلطانة عام 1840م متوجها إلى ميناء نيويورك، ومع دخول الدول الاستعمارية بين الاشقاء في مسقط وزنجبار بدأ الانقسام والضعف والتراجع يأخذ مجراه بعد وفاة السيد سعيد بن سلطان واستمرت حالة التراجع والضعف التي لازمتها ظروف الحربين العالميتين خلال القرن العشرين والتي أثرت بشكل مباشر على مختلف المناطق في العالم، وانتهى أخيرا ذلك التمدد العماني من آخر قلاعها بالساحل الافريقي في زنجبار عام ١٩٦٤م .
تولى السلطان قابوس الحكم في عمان بتاريخ 23 يوليو 1970م فشهدت عمان انطلاق نهضة عصرية حديثة انتشلت عمان من الانقسام والظلام والعزلة الى آفاقا واسعة من المعاصرة والنهضة فكانت نهضة عمان التي اسسها السلطان الراحل قابوس – طيب الله ثراه لتعيد عمان الى تولي دورها في قضايا الامة العربية فكان لها أدوارا مشرفة للمساهمة مع أشقاءها العرب في دعم جبهات القتال في معركة العبور عام 1973م ولم تتوقف أدوار عمان عن محيطها العربي والاقليمي في قضايا عدة منها المقاطعة العربية لمصر، فكانت رؤية عمان الثاقبة بأهمية محورية دور مصر وعدم مقاطعتها الذي سيؤدي الى انزواءها أكثر فأكثر، فلعبت عمان دورا مهما في عودة العلاقات العربية مع مصر، كما كان دورها مشرفا في محاولة انهاء الحرب العراقية الايرانية، وأخيرا لعبت عمان دورا محوريا في موضوع الامن في منطقة الخليج وتهدئة التوترات فحققت مساعيها نجاحا في ابرام اتفاق الاطار بمسقط عام 2015م للاتفاق النووي بين ايران ومجموعة 5+1 ، وحاولت عمان قدر استطاعتها ابعاد شبح التوترات والحروب لما يمثله ذلك من أزمات انسانية تطال الشعوب في المنطقة، فقد كانت السياسة العمانية التي أرساها السلطان قابوس تقوم على مبادئ وقيم انسانية نبيلة هي أهم اسرار النجاح العماني في علاقاتها الدولية .
لم تتوقف مساعي سلطنة عمان في دعم القضية المركزية الفلسطينية وسعت في كل مراحلها بتقديم كل ما من شأنه دعم الاشقاء في فلسطين في موقف عماني ثابت لم يتزحزح، ولسنا هنا بصدد المزايدة على الدور العماني ولكن الاشقاء في فلسطين يدركون تلك المواقف العمانية، واستمرت الادوار العمانية في العهد الجديد مع تولي جلالة السلطان هيثم بن طارق – حفظه الله ورعاه مقاليد الحكم في البلاد سواء” في استمرار الدور العماني لدعم القضية الفلسطينية أو تهيئة المناخ لعلاقات اقليمية عربية ايجابية واصلاح العلاقات العربية عموما وبرز الدور العماني في أكثر من ملف أبرزها الملف اليمني الذي واصلت فيه عمان دورها المشرف، وكذلك هو الحال في اطار العلاقات الدولية والتوازن بالعلاقات الاقليمية والدولية والسعي الحثيث نحو تحقيق السلام الاقليمي والدولي .
الحقيقة نحن نفخر بالموقف العماني الثابت والدائم في السياسة الخارجية وخاصة في دعم القضية الفلسطينية، ورغم الضغوطات التي مورست في أوقات سابقة والاغراءآت أيضا لم تستطع تلك الضغوطات والحوافز زحزحة الموقف العماني، وهذا يستند على تجربة تراكمية تاريخية عميقة أدركت معاني الاحداث والقضايا الدولية وفق آلية تقييم شاملة ودقيقة استندت على البعد الانساني في منهجها السياسي، ولا شك أن السلطنة تدرك مآلات أي علاقة مع كيان الاحتلال دون قواعد حقيقية للسلام ودونما انفراج واضح لقيام الدولة الفلسطينية وعودة الحقوق التاريخية الفلسطينية، ومن هنا فإن المواقف السياسية العمانية تتسم بارتباط واضح مع استعادة حقوق الشعب الفلسطيني وهو ما عبر عنه وزير الخارجية العماني السيد بدر بن حمد البوسعيدي من على منبر الامم المتحدة في أكثر من مناسبة .
اليوم تتداول قضية رفض السلطنة السماح لعبور الطيران “الاسرائيلي” للمجال الجوي العماني، وهو بلا شك يتوافق مع النهج العماني الدائم الداعم لقضية العرب المركزية، فلا يمكن أن يتم تقديم تنازلات مجانية في الموقف العماني مع وجود مواقف متزمته من قبل كيان الاحتلال وفي ظل غياب الحقوق الفلسطينية، وبعيدا عما يراه الاشقاء العرب في موضوع العلاقات مع كيان الاحتلال فإن الموقف العماني يثبت استقلاليته ووقوفه المبدأي والثابت مع حقوق الشعب الفلسطيني، ولا شك أن الموقف الرسمي العماني الواضح المعزز بالموقف الشعبي وموقف المؤسسة الدينية هو موقف عماني أصيل وراسخ لم ولن يتغير في مختلف الظروف والمعيار هنا يرتكز على السلام وعودة الحقوق الفلسطينية وإعادة الاعتبار لهذه القضية، فلا يمكن الحصول على تنازلات مجانية، وعلى العرب جميعا العودة الى المبادرة العربية للسلام المقترحة في قمة بيروت وعدم تقديم أية تنازلات طالما أن الطرف المحتل لم يقدم خطوة نحو السلام .
نعم كانت عمان من الدول التي مدت خطوة الى الامام في وقت سابق وفتحت المكتب التجاري الذي كان توازيا مع مرحلة يعتقد انها ستحقق جزء من السلام وتحقيق قيام الدولة ولكن لم تنفذ تلك الوعود المقدمة من قبل الدولة الراعية للسلام بل تجاوز كيان الاحتلال مداه في قمع أبناء الشعب الفلسطيني وأثبت انه غير جدير بالسلام، فأغلقت السلطنة المكتب التجاري وهذا يسجل موقف عماني ثابت، كيان الاحتلال يهمه اطلاق عناوين تطبيعية مع العرب ويحاول التمسك بها لمحاولة احداث اختراق في تغيير الثقافة العربية المقاومة، وهذا لم ولن يتحقق دون عودة كامل الحقوق الفلسطينية .
الموقف العماني الراسخ يستند على قواعد أصيلة وثوابت تتكئ على عمق التجربة العمانية وتستند على مبدأ عودة الحقوق العربية، وهنا تبرز نقطة جوهرية تمثل استقلالية الموقف العماني، فالسلطنة لا شك تتميز بخصوصية انسانية قومية لا يمكن أن تنحاز الى موقف آثم عقائديا مذموم فكريا مخل سياسيا والتاريخ والحاضر يؤكدان ذلك وهذه هي عمان التي نفخر بها.
خميس بن عبيد القطيطي