الحرب في أوكرانيا والأزمة الاقتصادية العالمية ....... خط فاصل بين الهيمنة الأمريكية ونظامين عالميين جديدين

أربعاء, 2022-07-20 09:47

منذ انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية في سنة 2008 وعملية الإنقاذ التي طبقت لوقف استفحالها والتي وصفها الكثيرون من الخبراء السياسيين والاقتصاديين بالترقيعية، تعددت التوقعات بأن الأزمة سوف تتجدد وبحدة أكبر خلال أمد ليس بالبعيد وأن صدمة اقتصادية أو سياسية كبيرة على الصعيد الدولي ستسهل حدوث ذلك. 

في أعقاب أزمة المناخ المتفاقمة، وجائحة مرض فيروس كورونا 2019 كوفيد - 19، وارتفاع أسعار الطاقة إلى عنان السماء، كانت الحرب في أوروبا القشة، التي توشك أن تقصم ظهر النظام الاقتصادي العالمي الذي يعتمد على الدولار ومعه الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية فيما يوصف أحيانا بالنظام الإمبراطوري.

ذكر الكاتب إيمانويل تود في كتابه ما بعد الإمبراطورية دراسة في تفكك النظام الأمريكي:

إنَ واحدا من المقومات الأساسية للإمبراطوريات ـ المبدأ الذي يضمن الدينامية والاستقرار معا ـ هو العمومية، أي القدرة على التعامل بالمساواة مع الأفراد والشعوب. ويسمح ذلك بالتمدد المتصل لنظام السلطة عن طريق اندماج الشعوب والأفراد المحتلة بالنواة المركزية. يجب تجاوز القاعدة الإثنية عند البداية، ويتسع حجم المجموعة البشرية التي تتماهي مع النظام من دون توقف لأن النظام يسمح للمغلوبين بأن يعتبروا أنفسهم غالبين. وفي ذهن الشعوب المقهورة، يتحول العنف الذي مارسه المنتصر في البداية، إلى نوع من الكرم.

هل يولد نظام عالمي تنتهي فيه الهيمنة الأمريكية التي استمرت لعقود؟، سؤال يطرح بقوة.

أحد الإجابات على هذا التساؤل نشهدها عمليا منذ سنوات، فالتحديات التي تواجهها واشنطن وتعجز عن حسمها، من طرف دول وحكومات لدول لا تصنف ضمن الكبار عسكريا وإقتصاديا في تصاعد. كوريا الشمالية طورت وتطور قدراتها النووية والصاروخية منذ 9 أكتوبر عام 2006، إيران تسير على نفس المسار خاصة منذ تراجع إدارة البيت الأبيض في 8 مايو 2018 خلال حكم الرئيس ترمب عن الاتفاق النووي المبرم مع طهران عام 2015 وإعادة العمل بالعقوبات، في أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط يتزايد عدد الدول التي ترفض إملاءات البيت الأبيض وتتجه لربط علاقات وثيقة مع كل من موسكو وبكين. حلفاء للولايات المتحدة مثل تركيا وإسرائيل يمارسون لعبة الرقص على الحبال بين البيت الأبيض والكرملين في انتظار نتيجة الصراع والميل للمنتصر.

جاء في بحث نشر خلال الربع الثاني من سنة 2022 في لندن:

تشكل الأحداث السياسية العالمية التي حصلت في السنوات الأخيرة تحدياً للهيمنة الأمريكية المطلقة في العالم، والتي استمرت بشكل منفرد ومطلق منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، ولكنها أيضاً امتداد لنفوذ وهيمنة أمريكية تمتد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، رغم وجود المنافسة السوفييتية، وهيمنة غربية عالمية عمرها قرون عدة، ابتدأت مع أولى الحملات التوسعية الأوروبية في الخارج. 

ولكن عصر الهيمنة الأمريكي امتاز عن غيره من مراحل التاريخ، حتى بات يعرف باسم "السلام الأمريكي، في تشبيه لمفهوم تاريخي آخر يعبر عن "السلام الروماني، والذي امتاز بسلام طويل الأمد داخل الإمبراطورية الرومانية نفسها، وإن استمرت جيوش وفيالق الإمبراطورية بالتوسع العسكري، وضم مناطق وشعوب جديدة بالقوة العسكرية إلى أراضي الإمبراطورية، وجعل سكانها رعايا للرومان. 

وكذلك، فالسلام الأمريكي لم يعن سلاما عالميا، ولكن سلاماً غربيا ضمن حدود الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة، بما في ذلك غرب أوروبا ودول آسيوية، بالإضافة إلى تأمين ممرات التجارة العالمية، وتأمين تدفق الطاقة في العالم. 

عكَرت صفو هذا السلام بعض الأزمات والصراعات المسلحة، بعضها كان على أطراف هذه "الإمبراطورية"، وكانت هي نفسها طرفاً مباشرا أو غير مباشر في جميع هذه الصراعات، لكن حالة السلام ظلت مستتبة بشكل عام داخل الإمبراطورية نفسها.

وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي ثبت "السلام الأمريكي" أكثر من ذي قبل، وترسخت الهيمنة الغربية والأمريكية بشكل خاص في العالم، ولم تعد هناك منافسة حقيقية لها. لكن الأمر لم يدم طويلاً، فبعد حوالي العقدين من انهيار الاتحاد السوفييتي بدأ الغرب نفسه بالحديث عن أفول الهيمنة، وبدء نهاية عصر السلام هذا، وحرب أوكرانيا قد تكون إحدى أهم علامات ومفاصل تاريخ هذه النهاية.

 

مرحلة تحول

 

منتصف شهر يوليو 2022 قال رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير إن حرب أوكرانيا أظهرت أن هيمنة الغرب تشهد نهايتها في ظل صعود الصين لتكون قوة عظمى بالشراكة مع روسيا في أوضح نقاط التغير في المشهد العالمي منذ قرون.

وأضاف بلير أن "العالم في مرحلة تحول في التاريخ يمكن مقارنتها بنهاية الحرب العالمية الثانية أو انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن هذه المرة وبوضوح الغرب ليس في الكفة الراجحة".

ووفقا لنص خطاب ألقاه في منتدى لدعم التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا في ديتشلي بارك غرب لندن في محاضرة حملت عنوان "بعد أوكرانيا، ما الدروس الحالية للقيادة الغربية؟"، قال بلير "نحن نشهد نهاية الهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية".

وتابع قائلا: "سيصبح العالم ثنائي القطب على الأقل أو متعدد الأقطاب.. التغيير الجيوسياسي الأكبر في هذا القرن سيأتي من الصين وليس من روسيا".

وأشار إلى أن "حرب أوكرانيا أوضحت بما لا يدع مجالا للشك أن الغرب لا يمكنه الاعتماد على الصين لتتصرف بطريقة نعتبرها عقلانية".

وذكر: "مكان الصين كقوة عظمى طبيعي ومبرر. إنها ليست الاتحاد السوفياتي"، لكنه قال إن "على الغرب ألا يسمح للصين بالتفوق عسكريا".

وأضاف: "علينا أن نزيد من الإنفاق الدفاعي ونحافظ على التفوق العسكري"، مشيرا إلى أنه يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها "أن تكون لهم الغلبة عسكريا بما يكفي للتعامل مع أي احتمال أو نوع من الصراع في كل المناطق".

وشغل بلير منصب رئيس وزراء بريطانيا في الفترة من 1997 وحتى 2007 وشارك إلى جانب الرئيس الأمريكي السابق بوش في الحرب على العراق وإحتلاله سنة 2003 بعد حصار دام 12 عاما.

يوم 9 يوليو 2022 انتقد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب، الوضع الذي تعيشه بلاده، وقال إن أمريكا في حالة انحدار، مشيرا إلى أنه في الوقت الذي تسفك فيه الدماء في شوارعها، تقدم المواعظ للآخرين.

وأضاف خلال اجتماع أمام مؤيديه في لاس فيغاس: "نحن أمة في حالة انحدار، وهذا لم يحدث قط سابقا. أصابوا بلادنا في ركبتيها، وأذلوها أمام العالم، وأضعفوها. ولا نزال نتجرأ ونلقي المحاضرات على شعوب ودول أخرى عن الديمقراطية، في حين غمرت شوارعنا بدماء الأبرياء".

وأشار إلى أنه "لن تكون لدينا دولة إذا لم نوقف هذه الهمجية المتزايدة بسرعة"، مؤكدا أن أول ما يتعين على الدولة فعله هو جعلها أكثر أمانا.

وأوضح ترمب أن القانون جرى انهاكه، وسياسات منع الجريمة ضعيفة في ظل إدارة بايدن، مستشهدا بالمجزرة التي وقعت يوم 4 يوليو في ضواحي شيكاغو كمثال.

كذلك حذر ترمب من أن حدود بلاده أصبحت محمية بشكل أسوأ من أي وقت مضى، وغمرت المخدرات البلاد.

 

دلائل نهاية عصر

 

بتاريخ 9 أغسطس 2021 كتب نيكولاي ليزونوف في "أوراسيا ديلي"، حول دلائل نهاية عصر الهيمنة الأمريكية في العالم.

وجاء في المقال: استعرض كاتب العمود في "ناشيونال انترست" الأمريكية، مارك كاتس، علامات أفول الهيمنة الأمريكية على هذا الكوكب.

وبحسب الكاتب، فإن النقاط التالية تدل على نهاية هيمنة واشنطن:

- لم تستطع أمريكا أن تبقي يدها فوق كل يد في العمليات العسكرية واسعة النطاق وطويلة الأمد في أفغانستان والعراق.

- ردت الولايات المتحدة بشكل ضعيف على روسيا، في أحداث العام 2008 في جورجيا و2014 في أوكرانيا.

- تنازلت واشنطن عن المبادرة، لموسكو وطهران وأنقرة، في تسوية النزاعات في الشرق الأوسط، في سوريا واليمن وكذلك في ليبيا بشمال إفريقيا.

- فشلت الولايات المتحدة في منع الصين من تعزيز قوتها، وتأكيد هيمنتها في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، وتوسيع نفوذها من خلال مبادرة الحزام والطريق الاقتصادية.

- حاول البيت الأبيض التقرب من خصومه دون جدوى "حاول دونالد ترمب "ترويض" كوريا الديمقراطية وإيران". علاوة على ذلك، فشلت واشنطن في ثني حلفائها عن التعاون مع خصومها.

وفي انسحاب القوت الأمريكية من أفغانستان والانسحاب المخطط له من العراق في نهاية العام 2021 علامات على أن العالم أحادي القطب بقيادة أمريكا "إذا كان موجودا" يقترب من نهايته.

لا يوجد إجماع بين الخبراء حول الشكل الذي سيكون عليه النظام العالمي في المستقبل. فيرى البعض أن الصين يمكن أن تصبح القوة المهيمنة التالية، والبعض الآخر مقتنع بأن العالم سوف يصبح ثنائي القطب مرة أخرى، بمركزين في بكين وواشنطن.

ولكن، في هذه الحالة، قد تكون هناك قوة ثالثة قادرة على تحقيق التوازن بين جمهورية الصين الشعبية والولايات المتحدة، هي بالطبع روسيا.

 

خط فاصل

 

جاء في تحليل نشرته وكالة الانباء الالمانية "د ب أ" يوم 6 يوليو 2022 لن يتوقف الصراع على النفوذ في العالم، ومحاولة الدول الكبرى ممارسة نفوذها في مناطق معينة لخدمة مصالحها، وهو صراع يدخل مرحلة جديدة في ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا. 

وكان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قد أكد في نهاية عام 2021 أن الولايات المتحدة لن تناقش المخاوف الروسية بالنسبة لانضمام أوكرانيا لعضوية حلف شمال الأطلسي، مشيراً إلى أنه "ليس من حق دولة واحدة ممارسة مجال نفوذ، وأن تلك الفكرة يجب أن يكون مآلها مزبلة التاريخ".

وفي مؤتمر الأمن بميونخ، قبل أيام فقط من الحرب، والذي وصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بادئ الأمر بأنه "عملية عسكرية خاصة"، ردد عدد من صانعي السياسات هذا التأكيد من جانب بلينكن، بما في ذلك وزيرة الخارجية الألمانية انالينا بيربوك، التي قالت إن أوروبا تواجه اختياراً صعباً: "هلسنكي أو يالطا... وهذا يعني أن هذا الاختيار هو بين نظام مسؤولية مشتركة عن الأمن والسلام... أو نظام تنافس بين القوى ومجالات النفوذ".

وتقول إيما آشفورد، الباحثة الأمريكية بمركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن، في تقرير نشرته مجلة ناشونال انتريست الأمريكية إنه لذلك من السهل معرفة سبب ترحيب الكثيرين بالحرب في أوكرانيا في رفض لمجالات النفوذ في الشؤون العالمية، وإعادة تأكيد لفكرة وجود نظام دولي ليبرالي تقوده أمريكا تكون فيه الأعراف والقيم أكثر أهمية من القوة والنفوذ.

وترى آشفورد أن هذا خطأ كبير، فأي مجال نفوذ ليس مفهومامعياريا، أو شيئاً ما تتنازل عنه دولة لأخرى بدافع المجاملة أو الشفقة. ويرجع الأمر ببساطة إلى وضع تكون فيه دولة عظمى غير مستعدة، أو غير قادرة على توفير الموارد الضرورية اللازمة لإرغام دولة أخرى على الخضوع. وفي هذا الصدد، لا تعتبر أوكرانيا رفضاً لفكرة مجالات النفوذ، ولكنها في الحقيقة نموذج واضح لكيفية تحقق ذلك عملياً.

وأوكرانيا مؤشر واضح لحدود مجال النفوذ العالمي لأمريكا في فترة ما بعد الحرب الباردة، ودليل على مدى قدرة روسيا على الدفاع عما تعتبره مجالها الإقليمي. ومن ثم، فإن الحرب في أوكرانيا ليست دليلاً على استمرار اللحظة أحادية القطبية، ولكنها خط فاصل بين الفترة التي كانت تعتبر فيها الولايات المتحدة العالم كله مجال نفوذها، وعالم جديد أكثر تعدداً في الأقطاب يعتبر نفوذ الولايات المتحدة فيه محدوداً ومقيدا.

وتؤكد آشفورد أن هذا يعني أن الحرب في أوكرانيا كشفت عن ثلاثة أمور بشأن تحول ميزان القوة العالمي. أولها، أنه بينما ربما لا تزال أمريكا تزعم أنها تتمتع بمجال نفوذ عالمي، فإنها غير مستعدة في الواقع للمخاطرة باندلاع حرب نووية مع روسيا من أجل حماية أوكرانيا. ولا شك أن الأسلحة، والمعلومات الاستخباراتية، والأموال ساعدت كييف في الحرب، لكن لن تخوض قوات أمريكية الحرب.

والأمر الثاني هو أنه نادراً ما تكون مجالات النفوذ غير متنازع عليها، ومن ثم فقد أثبتت روسيا أنها غير قادرة على فرض إرادتها على أوكرانيا، حيث فشلت في تحقيق أهدافها العسكرية الأولية والثانوية في هذه الحرب. وعلى هذا الأساس، ربما تكون حدود أي مجال نفوذ روسي محتمل أقل في الواقع مما كان مفترضاً قبل 24 فبراير، تاريخ بدء الحرب.

والأمر الثالث، هو أنه رغم أن الكثير من تغطية الحرب في أوكرانيا يتم في نطاق هذا النهج ثنائي القطبية - أي تمثل الحرب على أنها صراع بين روسيا والغرب- لم يكن رد الفعل إزاء الحرب واضحا كثيرا، ففي خارج أوروبا، اتخذت معظم الدول نهجا أكثر تساهلاً تجاه الأزمة.

وقد شاركت الدول الأفريقية والآسيوية الفقيرة في تصويت الأمم المتحدة الذي أدان روسيا، لكنها لم تشارك في العقوبات. ورفضت الهند الانحياز لأي طرف، وهو قرار له علاقة باعتمادها الجزئي على الصادرات العسكرية الروسية، وقد استفادت من الصادرات النفطية الروسية المنخفضة التكلفة. من ناحية أخرى، التزمت بكين بالتأييد الحذر لموسكو، لكنها رفضت أي مشاركة سياسة أو اقتصادية أكثر عمقاً.

وتقول آشفورد إن أياً من هذه الأمور لا يشير إلى أننا نعود للحظة القطبية الأحادية ما بعد الحرب الباردة، أو أننا نتجه نحو مواجهة جديدة على غرار الحرب الباردة مع روسيا، أو حتى مع روسيا والصين. ولكنها في الحقيقة تشير إلى أن العالم يشهد انقساماً بصورة متزايدة إلى وضع أكثر تعقيدا ومتعدد الأقطاب، يمكن أن تؤدي فيه المغامرة والنفاذ المفرط للسياسة الخارجية الأمريكية السائدة منذ وقت طويل إلى ترك الأمر يتفاقم.

وتختتم آشفورد تقريرها بالقول إنه رغم كل ما يتردد عن انتصار السياسة الخارجية الأمريكية بالنسبة لأوكرانيا، سيكون من الحماقة افتراض صناع السياسة الأمريكيين أن هذه الحرب تمثل تبريراً للنظام الليبرالي أو رفضاً لسياسات القوة ومجالات النفوذ. وبدلاً من ذلك، يشير الأمر إلى أنه يتعين عليهم تعلم الإبحار في عالم ليس مقسما إلى أبيض وأسود، ولكن إلى ظلال رمادية كثيرة.

 

الأزمة

 

حذرت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، يوم الأربعاء 13 يوليو 2022، من أن المشهد الاقتصادي العالمي "ازداد قتامة" وقد يتدهور أكثر بفعل الحرب في أوكرانيا، والتضخم السريع، الذي تسببت به.

وصدر التحذير بعد أشهر فقط من خفض صندوق النقد توقعاته للنمو العالمي للعامين 2022 و2023.

وجاءت الحرب في أوكرانيا ومحاولات الغرب فرض حصار اقتصادي على روسيا لتفرز نتائج غير متوقعة في وقت كان العالم يكافح للتعافي من تداعيات وباء كوفيد وأدت إلى تسارع وتيرة التضخم ما يشكل تهديدا للمكاسب التي تحققت خلال العامين الماضيين. 

وقالت غورغييفا في مدونة نشرتها قبيل اجتماع وزراء مالية دول مجموعة العشرين وحكام المصارف المركزية في بالي، الجمعة والسبت 15 و 16 يوليو، إن صندوق النقد الدولي "يتوقّع مزيدا من التدهور في النمو العالمي" في 2022 و2023.

وكتبت "سيكون عام 2022 صعبا - وربما يكون عام 2023 أكثر صعوبة مع زيادة مخاطر الركود". 

ومن المقرر أن يصدر صندوق النقد الدولي تقرير آفاق الاقتصادالعالمي المحدث في وقت لاحق من شهر يوليو، والذي قالت غورغييفا إنه سيخفض بشكل أكبر تقديرات النمو العالمي عن تلك الصادرة في أبريل والتي بلغت 3,6 في المئة. 

وقالت "لقد حذرنا من أنه قد يزداد سوءا بالنظر إلى مخاطر الانحدار المحتملة. ومنذ ذلك الحين، تحققت العديد من هذه المخاطر واشتدت حدة الأزمات المتعددة التي تواجه العالم". وأضافت أن التوقعات "لا تزال غير مؤكدة للغاية"، وحذرت من أن الأشد فقرا سيكونون الأكثر تضررا. 

وأوضحت أن خطر "الاضطرابات الاجتماعية" يتزايد بسبب ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة.

وبعد عقد من التضخم المنخفض، ارتفعت الأسعار في جميع أنحاء العالم وسط طلب قوي على السلع فاق العرض مع بدء الاقتصاديات في العودة إلى طبيعتها. لكن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على موسكو دفعت أسعار الوقود والغذاء للارتفاع بشكل حاد. 

وتعتبر أوكرانيا وروسيا منتجين رئيسيين للحبوب، كما تعد روسيا مصدرا رئيسيا للطاقة لأوروبا، وقلصت إمدادات الغاز الطبيعي إلى المنطقة. 

كما أدى التضخم إلى تعقيد عملية صنع السياسات إذ ترفع المصارف المركزية الرئيسية أسعار الفائدة لاحتواء الأسعار، لكن هذا يزيد من تكاليف الاقتراض للأسواق الناشئة والدول النامية التي تواجه أعباء ديون عالية. 

لكن غورغييفا قالت إن محاربة ارتفاع الأسعار أمر بالغ الأهمية على الرغم من مخاطر الركود. 

وأوضحت أن "القيام بعمل ما الآن سيكون له آثار أقل ضررا مما لو تم التحرك لاحقا".

وذكرت إن تدارك آثار الحرب والوباء من الأولويات القصوى التي لا يمكن معالجتها إلا من خلال المساعدات المالية "المتعددة الأطراف" وتخفيف الديون. 

وأضافت أن "تخفيض الديون ضرورة ملحة، خاصة في الاقتصاديات الناشئة والنامية التي تقوم التزاماتها المالية بالعملات الأجنبية والتي تعد بدورها الأكثر عرضة للظروف المالية العالمية المشددة".

ونوهت غورغييفا إلى أن الأولوية القصوى تتمثل في خفض التضخم، بما في ذلك من خلال خفض الإنفاق الحكومي الذي من شأنه أن يساعد جهود المصرف المركزي. 

ودعت مجموعة العشرين إلى تعزيز "العمل الدولي المنسق"، بما فيها الدول الغنية التي تقدم مساعدات أساسية للدول الفقيرة.

وحذرت غورغييفا من أن معظم اقتصاديات الدول "معزولة تماما" عن الأسواق العالمية بسبب الضغوط المالية، وتفتقر إلى شبكة أمان سوق محلي كبير.

 

أمر حتمي

 

يرى محللون اقتصاديون أن الاقتصاد الأمريكي لن يتمكن من تجنب الركود، وأن تلك مسألة وقت فقط، متوقعين اقتراب دخوله في "دوامة هبوط".

ونشرت مجلة الأعمال الألمانية "WirtschaftsWoche" في تقرير لها خلال الثلث الأول من شهر يوليو 2022 أن آراء الخبراء تتفق حول حتمية دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود، ويختلفون فقط حول مدى تأثره سياسيا ودوليا.

وأشارت الصحيفة إلى أن الاقتصاد الأمريكي دخل في حالة من عدم الهدوء، كما أن الحالة المزاجية للأمريكيين ساءت بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة.

وأضافت أن "التضخم المرتفع، الذي يشعر به المواطن الأمريكي، خاصة في محطات الوقود والمحلات التجارية، بدأ ينعكس على حياة الأمريكيين".

وكشفت الصحيفة في تقريرها أنه وفقا لاستطلاعات الرأي، يخشى ما يقرب من ثلثي الأمريكيين اليوم من أن البلاد يمكن أن تنزلق إلى الركود، في حين أن هذه المشاعر يشعر بها لا المواطنون العاديون فحسب، بل يتقاسمها أيضا المتخصصون في مجال الاقتصاد.

وتنبأ رئيس أكبر بنك أمريكي، جيمي ديمون، قبل أسابيع "بإعصار" يمكن أن يضرب الاقتصاد الأمريكي، بينما وصف رئيس شركة "تسلا"، إيلون ماسك، الركود بأنه "حتمي".

 

حدود الدعم

 

مع تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية في الغرب تتخبط حكوماتها في تحديد سياساتها المستقبلية، البعض يريد مواصلة الحرب حتى إنهاك روسيا أو هزيمتها لعل ذلك يحافظ على النظام العالمي القديم، وهناك آخرون يقدرون أنه بمواصلة الحرب تزيد خطورة نشوب حرب عالمية ثالثة أو إنهاك الغرب والسقوط في الفخ الذي يعده سيد الكرملين منذ سنة 2014 وتمكن موسكو من فرض إرادتها، ولهذا يجب البحث عن تسوية سياسية بسرعة.

تعتقد صحيفة "نيويورك تايمز" أنه من غير المرجح أن تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من الحفاظ على المستوى الحالي من الدعم الذي تقدمه لأوكرانيا لفترة طويلة.

وذكرت الصحيفة بتاريخ 9 يوليو أن "الرئيس بايدن تعهد بدعم أوكرانيا "مهما استغرق الأمر"، لكن لا هو ولا أي شخص آخر يمكنه تحديد المدة التي سيستغرقها ذلك أو إلى أي مدى يمكن للولايات المتحدة وحلفائها القيام بذلك من تلك المسافة دون التدخل العسكري المباشر".

ولفتت الصحيفة إلى ان "المسؤولون يعترفون بأن مخزونات الأسلحة الأمريكية والأوروبية سوف تنفد في مرحلة ما. ورغم أن الولايات المتحدة قد سمحت بمبلغ 54 مليار دولار من المساعدات العسكرية وغيرها، ولا يتوقع أحد شيكات أخرى بقيمة 54 مليار دولار عند نفادها".

وأشارت الصحيفة، إلى ما قاله مسؤولون ومحللون إنه سيكون من الصعب "الحفاظ على نفس المستوى من الدعم المادي" وسط "إجهاد متزايد" من الصراع "على جانبي الأطلسي".

وتضيف الصحيفة أن المساعدة العسكرية التي وافق عليها الكونغرس من المتوقع أن تستمر حتى الربع الثاني من العام المقبل، بحسب بعض التقديرات، لكن "السؤال هو إلى متى يمكن أن تستمر عمليات نقل الأسلحة والذخيرة الحالية دون المساس بالجاهزية العسكرية الأمريكية".

في هذه الأثناء تتابع الكثير من الأوساط سواء في المعسكر الغربي أو خارجه تقلبات الوضع الداخلي في أوكرانيا خاصة على ضوء إقالة الرئيس زيلينسكي أعداد كبيرة من المسؤولين الأمنيين والقضائيين وفي مقدمتهم رئيس وكالة المخابرات والمدعيةالعامة في البلاد، وإتهام أكثر من 650 مسؤولا في حكومة كييف بالعمالة لموسكو والتجسس لصالحها، ويخشى في الغرب أن تدفع هذه الخطوات المعارضين لسياسة حكومة كييف الحالية إلى قلب نظام الحكم والتفاوض بسرعة مع موسكو.

 

تطلق النار على نفسها

 

كتبت صحيفة غلوبال تايمز الصينية يوم 13 يوليو أن الغرب بدأ يدرك أن المساعدة العسكرية لأوكرانيا لا تعطي سوى مشاكل جديدة، وكلما طال أمد الأزمة، زاد الضرر الذي ستعاني منه الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى.

وأشارت الصحيفة إلى أنه "على الرغم من أن الرئيس الأمريكي جو بايدن وعد بالوقوف مع أوكرانيا، مهما تطلب ذلك من وقت، إلا أن الإرهاق من الصراع ومن أوكرانيا بدأ يرصد في كل من أمريكا والحلفاء الغربيين، خاصة مع بداية أزمتي الطاقة والغذاء، ومع ارتفاع معدلات التضخم والإنفاق على احتياجات كييف".

على سبيل المثال، تدور تساؤلات متزايدة حول المدة التي ستستمر فيها الولايات المتحدة والغرب في تقديم المساعدة إلى كييف، حيث تحدثت بعض وسائل الإعلام الأمريكية بشكل مقلق عن إنفاق أمريكا الهائل على أوكرانيا.

وقال الخبير العسكري الصيني، سونغ تشونغ بينغ، لصحيفة غلوبال تايمز: "في البداية، كانت الولايات المتحدة تنوي استخدام أوكرانيا كبيدق مهم لإضعاف روسيا، والمفارقة أن ذلك لم يحدث. على العكس من ذلك، استفادت موسكو نفسها من مثل هذا الوضع ودفعت الولايات المتحدة والدول الغربية إلى الجدار. الاستراتيجية الأمريكية يمكن أن تضرب الولايات المتحدة بطريقة مرتدة".

وشدد هذا الخبير على أنه كلما طال أمد الأزمة الأوكرانية، زاد الضرر الذي ستعاني منه الولايات المتحدة والغرب. لافتا في الوقت نفسه إلى وجود العديد من المكونات التي لا يمكن السيطرة عليها في هذه الأزمة، إذ أنه "في مثل هذا الوضع، ستدرك الولايات المتحدة وحلفاؤها قريبا أن مساعدتهم لأوكرانيا قد تحولت بالفعل إلى ثقب أسود محفوف بعواقب وخيمة عليهم".

ومضت الصحيفة تقول إن الأموال الضخمة المخصصة لدعم أوكرانيا تترك الولايات المتحدة في معضلة صعبة: فالمزيد من المساعدة سيكون عبئا ثقيلا على الولايات المتحدة والاقتصاد الأمريكي وسيزيد التضخم، وهكذا فإن جميع الجهود السابقة التي بذلتها واشنطن ستنهار، ولذلك فإن الولايات المتحدة: "بصفتها البادئ والمحرض على الأزمة الأوكرانية، تطلق النار على نفسها".

بالمقابل، سيدرك قسم كبير ومتزايد باستمرار من السكان في الولايات المتحدة والغرب قريبا أنه من الصعب جدا تقديم المساعدات لأوكرانيا في الأحجام السابقة، " والولايات المتحدة والغرب بدآ أخيرا يدركان بإحراج من هو الطرف الذي وقع في مستنقع لا يمكن تجاوزه".

 

دروس مستفادة

 

جاء في بحث نشره موقع الحرة الأمريكي يوم 5 يوليو 2022: وسط حالة "لا غالب ولا مغلوب" في أوكرانيا، تستعد الحكومات الغربية لصراع طويل الأمد مع روسيا، ويتسابق القادة العسكريون لاستخلاص الدرس من "أكبر حرب برية في أوروبا منذ ثمانية عقود تقريبا".

وتشير صحيفة "وول ستريت جورنال"، إلى أن دراسة المسؤولين عن الدفاع بالدول الغربية للأسلحة والتكتيكات واللوجستيات، المستخدمة في الحرب بأوكرانيا، لاستخلاص دروس "تمنحهم ميزة في ساحة المعركة الحالية، وفي النزاعات المستقبلية".

وذكر الرئيس الجديد لهيئة الأركان العامة البريطانية، الجنرال باتريك ساندرز، "كنا نراقب الحرب في أوكرانيا عن كثب، ونحن نتعلم بالفعل ونتكيف"، مضيفا "سنعيد التفكير في كيفية قتالنا".

ويشير ساندرز إلى درس آخر مستفاد من الحرب في أوكرانيا، "فإذا كنت تريد تجنب الصراع، فمن الأفضل أن تكون مستعدا للقتال".

وتوضح "وول ستريت جورنال"، أن ساحة المعركة الحديثة ليس لها حدود ولا توجد بها مناطق "لإخفاء القوات"، فالطائرات دون طيار والمراقبة الإلكترونية والمراقبة الفضائية "تجعل الأمر أصعب مما كان عليه قبل بضع سنوات".

وكان القتال في أوكرانيا بمثابة "حرب استنزاف مدمرة"، شنتها المدفعية الثقيلة، واستحضرت ذكريات القتال في الحربين العالميتين، وفقا لـ"وول ستريت جورنال".

وعن ذلك قال المحلل السابق في وزارة الدفاع وضابط مشاة بالجيش الأمريكي، بيلي فابيان، إن "الحرب الهجومية الجماعية صعبة وفظيعة، مع خسائر فادحة".

ونقلت "وول ستريت جورنال"، عن مسؤول كبير في الناتو، قوله إن القصف المتواصل من كلا الجانبين كشف أهمية "المخزون الجاهز من الأسلحة والذخائر".

ويشير تحليل لموقع "ووار اون روكس" إلى أن الحرب في أوكرانيا هي أول حرب برية كبرى بين جيشين حديثين مجهزين بأسلحة تقليدية متطورة منذ عقود.

ويرى الموقع أن الدروس المستفادة من الحرب في أوكرانيا، قد تقلب "الفهم العسكري للنزاعات البرية"، واصفا الحرب بـ"الحديثة الرهيبة".

ويستخدم كلا الجانبين طائرات بدون طيار لتحديد الأهداف ومهاجمتها. لكن معظم الأضرار التي لحقت بالجيشين والمدنيين والبنية التحتية الأوكرانية، كانت عن طريق" الصواريخ والقذائف والقنابل"، وعن ذلك يقول فابيان، "ما نراه هو حرب آلية تقليدية بخصائص حديثة"، وفقا لـ"وول ستريت جورنال".

سمحت الإمدادات الروسية من قطع المدفعية والقذائف لموسكو بالحصول على أرض في شرق أوكرانيا خلال الأسابيع الأخيرة.

واتخذت القوات الأوكرانية خطوطا دفاعية جديدة في الشرق، استعدادا لمرحلة جديدة صعبة في الحرب، بينما أعلن بوتين انتصار روسيا في معركة لوغانسك التي استمرت لأسابيع، حسب "رويترز".

ووضع استيلاء روسيا على مدينة ليسيتشانسك، حدا لواحدة من أكبر المعارك في أوروبا منذ أجيال.

واكملت المعركة غزو روسيا لمقاطعة لوغانسك، وهي إحدى منطقتين تطالب موسكو بتنازل أوكرانيا عنهما للانفصاليين في منطقة دونباس.

 

بحث خجول عن تسوية

 

أفادت وسائل إعلام غربية بأن الولايات المتحدة وحلفاءها يجرون محادثات سرية لإيجاد طريقة دبلوماسية لحل النزاع في أوكرانيا.

وذكرت صحيفة “فيلت” الألمانية، يوم 9 يوليو أن مشاورات سرية جارية بين الولايات المتحدة وحلفاء أوروبيين رئيسيين لاستكشاف الوسائل الدبلوماسية لإنهاء الصراع".

ورأت الصحيفة أن ارتباك القادة الغربيين أصبح واضحا، لأن الغالبية العظمى من الناخبين يؤيدون "الحل الدبلوماسي".

وفي وفي بداية شهر يوليو، أفادت صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية، بأن رؤساء الدول الغربية الذين يدعمون نظام كييف يخشون أن يتعب سكانهم من الأحداث في أوكرانيا وينتقلون إلى الأجندة المحلية.

ذكر البروفيسور ستيف هانكي، أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور بالولايات المتحدة، إن فرض العقوبات على روسيا أدى إلى استقالة الحكومة البلغارية.

فقد سقط رئيس الوزراء البلغاري كيريل بيتكوف وحكومته، يوم 22 يونيو، بعد ستة أشهر من تعيينه، بعد حجب البرلمان الثقة عنه، بسبب الخلافات المتزايدة على الحرب في أوكرانيا.

ويخيم الآن شبح الانتخابات على البلد البلقاني الذي يبلغ عدد سكانه 6.5 ملايين نسمة، والأشد فقراً في الاتحاد الأوروبي.

رئيس حكومة بريطانيا جونسون استقال ولمواقفه من الصراع وسط شرق أوروبا نصيب في ذلك.

الحكومة الايطالية مرشحة للسقوط رغم رفض رئيس الجمهورية استقالتها.

وأضاف هانكي في حديث نقله موقع News.bg: شهدت فرنسا انتخابات برلمانية وتكبد الرئيس ماكرون فيها خسائر فادحة. وبات حاليا ضعيفا مثل شولتس في ألمانيا. أصبحت العقوبات مقبرة سياسية. يجب على أوروبا أن توقف النزاع على الفور من خلال الدبلوماسية. العقوبات - غباء. لا تعمل ولم تنجح أبدا".

وشدد الخبير على أن العقوبات المعادية لروسيا، بمثابة انتحار لاقتصاديات الدول الأوروبية. وأشار إلى أن هذه العقوبات أثرت على دول الاتحاد الأوروبي بشكل أسوأ بكثير من تأثيرها على روسيا.

 

عمر نجيب

[email protected]