يبدو أن العالم يقترب من مشاهدة الفصل الأخير من المواجهة العسكرية المفتوحة والواسعة الدائرة في وسط شرق أوروبا منذ 24 فبراير 2022، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة التوصل إلى تسوية سياسية سريعة أو استبعاد خطر نشوب حرب عالمية ثالثة. قد يبدو الأمر متناقضا، ولكن من جهة وعسكريا لا يجادل سوى قلة من الخبراء العسكريين في أن كفة الحرب مالت بشكل واضح لصالح موسكو وأن الجيش الأوكراني مستنزف وفقد الجزء الأكبر من أسلحته الأساسية وقواته المدربة والدعم العسكري الغربي لم ينجح في تعويض الخسائر، وتصريحات ساسة أوكرانيا عن مواصلة الحرب ورفض التسويات التي تتطلب تقديم كييف لتنازلات والوعود بإستعادة الأراضي التي دخلتها القوات الروسية والتي تشكل 24 في المئة تقريبا من المساحة الكلية لأوكرانيا ليست أكثر من تطلعات وآمال ليس لها سند مادي قوى على الأقل في الوقت الحاضر.
والسؤال الذي يجب طرحه حاليا، أنه على ضوء الانكسارات العسكرية المتتالية لقوات كييف وتسارع عمليات انسحابها وزيادةتعداد أسراها، هو هل ستستطيع حكومتها إيجاد جنود يرغبون في مواصلة القتال حتى وإن توفر السلاح الغربي بكثافة، كما أن هناك احتمالا لوقوع تحول في القيادة السياسية كما يحدث كثيرا مع حكومات تخسر حربا.
الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو والاتحاد الأوروبي يدركون حقيقة الأوضاع السلبية بالنسبة لهم على ساحة القتال ولكنهم في نفس الوقت لا يريدون ركوب المغامرة بالتدخل بقواتهم مباشرة في الحرب لأن ذلك سيقود إلى حرب عالمية ثالثة نووية. واشنطن ولندن وأنصارهما الرئيسيون في التحالف الغربي -حيث أن هناك من هو أقل تحمسا حتى داخل الناتو لمواصلة تحدي الكرملين- لا زالوا يراهنون على سلاح الحصار الاقتصادي وعلى تمكنه من فرض واقع مختلف على موسكو على الصعيد الاقتصادي، وفي نفس الوقت يشاهدون ويعانون من الانعكاسات السلبية على اقتصادهم والمحصلة من حربهم الاقتصادية ضد روسيا ويخشون من إنهيار أو كساد كامل يضرب أساسا الاقتصاديات الغربية. وسط هذه المتاهة يحاول ما يمكن اختصارا تسميته بتحالف "الناتو ناقص" جس نبض الكرملين عبر الأطراف الأقل تشددا بشأن تسوية سياسية يريدونها كفيلة بحفظ ماء وجههم، وفي نفس الوقت منع تحالف موسكو بكين والمتضامنين معهما من تبديل ما يسمى غربيا بقواعد النظام العالمي، أو باختصار إلغاء نظام القطبية العالمية الأحادي الذي فرض منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين مع انهيار الاتحاد السوفيتي.
أخطر ما يواجه واشنطن ولندن بوصفهما اللب الصلب في المواجهة مع موسكو، هو تفكك التحالف الغربي وزيادة تمرد دول كثيرة في العالم خاصة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب آسيا على املاءاتهم ونجاح موسكو بالتعاون مع بكين في بناء تحالفات جديدة ليس أمنية فقط بل إقتصادية تنهي التحكم الغربي في الاقتصاد العالمي عبر الدولار واليورو وتسعير البترول والغاز وغيره بالعملة الأمريكية والمنظمات الاقتصادية كالبنك وصندوق النقد الدوليين وأنظمة سويفت وغيرها.
الوضع الصعب الذي يجد فيه المعسكر الغربي نفسه الآن يحمل في طياته أخطارا كثيرة لعل أشدها إقدام ساسته على خطوات غير محسوبة لتعديل موازين القوى تقود إلى ركوب أخطار غير مخطط لها تقرب ساعة يوم "القيامة".
تناقضات
يوم 25 يونيو 2022 قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، إن الاحتمال الأكثر ترجيحا أن يتم حل الأزمة الأوكرانية من خلال طاولة المفاوضات.
وأوضح ستولتنبرغ في مقابلة مع صحيفة "إل باييس" الإسبانية نشرت يوم السبت، أنه "على الأرجح، ستنتهي هذه الحرب على طاولة المفاوضات. نحن مسؤولون عن ضمان أن تكون أوكرانيا وفي وضع قوي قدر الإمكان، ونساعدها على أن تظل دولة أوروبية مستقلة وذات سيادة". وأضاف أن "أفضل طريقة للقيام بذلك هي تقديم دعم عسكري واقتصادي قوي واتخاذ عقوبات صارمة ضد روسيا". وتابع "نساعدهم "الأوكرانيين" لأنهم يطلبون ذلك"، مشيرا إلى أنه "لا توجد حرب شاملة بين الناتو وروسيا".
يوم الجمعة 24 يونيو صرح نائب الأمين العام لحلف الناتو ميرتشا جيوانا خلال مؤتمر في رومانيا: "للأسف نتوقع نزاعا طويل الأمد، وما يشبه حرب الاستنزاف، ستكون فيها خسائر كبيرة من الطرفين، وحربا مع الدور الأكبر للمدفعية وتحركات محدودة للقوات حيث ستتقدم وثم ستتراجع، ولا يوجد عدد كاف من القوات لدى أي طرف ليحقق انتصارا حاسما في الميدان".
ووصف جيوانا قمة الناتو في مدريد التي تعقد في 29 و30 يونيو، بأنها ستكون "تاريخية"، مضيفا: "سنعمل على تعزيز حضور الناتو في الجناح الشرقي، وسيعلن الزعماء عن الأبعاد وعن المساهمة الخاصة التي سيقدمها مختلف الحلفاء". وتابع قائلا: "أتوقع أن اهتماما ملموسا سيعار لمنطقة البحر الأسود التي تتسم بأهمية حيوية وإستراتيجية للناتو".
يوم الأحد 26 يونيو اعتبر رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، خلال لقائه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في ألمانيا، "أن محاولات تسوية النزاع في أوكرانيا الآن ستساعد على عدم الاستقرار في العالم، وستمنح الرئيس الروسي بوتين تفويضا مطلقا للتلاعب المستمر بكل الدول ذات السيادة والأسواق الدولية". وكانت لندن قد انتقدت عدة مرات خلال الأسابيع الأخيرة سياسة الرئيس الفرنسي في التفاوض مع الكرملين.
يشار أنه قبل 24 ساعة ويوم السبت 25 يونيو صرح بوريس جونسون إنه يخشى أن تواجه أوكرانيا ضغوطا للموافقة على اتفاق سلام مع روسيا لا يصب في مصلحتها، بسبب التداعيات الاقتصادية للحرب في أوروبا.
وأضاف لمحطات إذاعية في العاصمة الرواندية كيغالي أثناء مشاركته في قمة مجموعة دول الكومنولث "تقول دول كثيرة إن هذه حرب أوروبية غير ضرورية... وبالتالي فإن الضغط سيزداد لتشجيع، وربما إجبار، الأوكرانيين على قبول سلام سيء".
وأشار جونسون إلى أن عواقب نجاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في شق طريقه في أوكرانيا ستكون خطرة على الأمن العالمي و"كارثة اقتصادية طويلة الأمد".
موازاة مع تصريحات رئيس الوزراء البريطاني قال الرئيس الأمريكي، جو بايدن إن "القيادة الروسية كانت تخطط لإثارة خلاف بين الحلفاء الغربيين وفي صفوف حلف الناتو، لكنها فشلت". جاء ذلك خلال لقاء بايدن مع المستشار الألماني، أولاف شولتس، قبل بداية مفاوضاتهما الثنائية على هامش قمة مجموعة السبع في قصر إيلماو في ألمانيا.
وأضاف بايدن: "اعتقد الرئيس بوتين أن الناتو وحلفنا سينقسمان لكن هذا لم يحدث ولن يحدث". وشكر شولتس لجهوده الهادفة إلى الحفاظ على وحدة الغرب، مضيفا: "تجعلنا هذه التحديات أقوى". وعبر بايدن عن اعتقاده بأن ألمانيا والولايات المتحدة تقفان موقفا واحدا من الوضع حول أوكرانيا.
إرهاق الحرب
جاء في تقرير نشر يوم 26 يونيو: يبدو واضحا الانقسام الواسع بالشارع الأوروبي بين معسكرين رئيسيين، الأول ينادي بـ"السلام" عبر الخيارات الدبلوماسية والسياسية في التعامل مع العملية الروسية في أوكرانيا وتبعاتها، حتى لو دفع ذلك إلى تقديم كييف تنازلات، والثاني ينادي بمواصلة الحرب من أجل ردع روسيا.
استطلاع الرأي الذي نشره المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في الأسبوع الثاني من شهر يونيو، يسلط الضوء على وجود معسكرين داخل أوروبا عندما يتعلق الأمر بالصراع في أوكرانيا. ومن بين الدول العشر التي شملها الاستطلاع، ظهرت إيطاليا بقوة في المعسكر الأول، وبولندا في المعسكر الآخر.
ينطلق أنصار كل معسكر من وجهتي نظر مختلفتين، فبينما يعي أنصار "معسكر السلام" خطورة الانجرار إلى سيناريو "الحرب الطويلة والمستمرة"، وفي ظل التحديات شديدة الخطورة التي تواجه أوروبا - وبشكل خاص في ملف الطاقة والغاز الروسي - فإن أنصار المعسكر الثاني يرون أن انتصار روسيا في أوكرانيا سيكون "كارثة"، طبقا لتعبير جونسون.
وتطرح جملة من التساؤلات نفسها حول مستقبل المواقف الأوروبية في حال استمرار الحرب، وما إن كانت أوروبا قادرة على مجابهة تبعاتها ومواصلة دعم أوكرانيا.
يقول المحلل السياسي المتخصص بالشؤون الأوروبية، نزار الجليدي، في تصريحات لـ"البيان" إنه "بات من الواضح أن أوروبا في وضعية المأزق الحاد، وربما الآن تتمتع بشيء من الصبر، لكنها لن تواصل بشكل أو بآخر جسور الإمداد لأوكرانيا، لأنها "دول أوروبا" تعرف جيدا أن أوكرانيا ليست هي التي ستوفر الطاقة في اللحظة المطلوبة إلى مواطني الاتحاد الأوروبي".
في تصور الجليدي فإن أوروبا ستتجه إلى أفريقيا ضمن المصادر البديلة للطاقة عوضا عن الغاز الروسي بينما في الوقت نفسه ستحاول ترميم موقفها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وستخفض جناح الذل لروسيا، علها تجد مخرجا على اعتبار أن الحرب سوف تمتد أكثر فأكثر وأن بوتين عازم على الذهاب إلى أبعد نقطة ممكنة، وهي الصيغة التي لا يمكن أن تقبلها أوروبا، ومع ذلك يبقى العنوان الرئيسي لمشكلة أوروبا ليس مواصلة مد أوكرانيا بالسلاح بل معاناة الطاقة والشتاء القارس، وفي ضوء الأوضاع الراهنة وتراجع القوة الشرائية وارتفاع أسعار النفط.
وذكرت صحيفة "واشنطن بوست" في تقرير لها منتصف شهر يونيو، أنه في الوقت الحالي يظل نفق الحرب طويلا ومتعرجا ومظلما. وسلط التقرير الضوء على تصريحات الرئيس الأوكراني زيلينسكي التي أشار خلالها ضمنيا إلى رفض الاقتراحات الواردة من بعض الأطراف والتي قد تحتاج لتقديم كييف تنازلات إقليمية.
واعتبرت الصحيفة أن تصريحات الرئيس الأوكراني الأخيرة التي قال خلالها "لن نتخلى عن الجنوب لأي شخص" شكلت تذكيرابأن تيار المعركة يتأرجح بشكل ينذر بالسوء، في وقت من المحتمل أن تستعد روسيا لهجمات جديدة في الأسابيع المقبلة. وأشار التقرير إلى أن "الوحدة الأوروبية معرضة للتهديد جراء الضغوطات الاقتصادية، على اعتبار أن قرار روسيا الأخير بتقليص حاد لتوصيل الغاز إلى القارة يحذر المحللون معه من شتاء مرير ومكلف في معظم أنحاء أوروبا".
وتسعى الدول الكبرى ضمن الاتحاد الأوروبي، والتي تقود الاتحاد اقتصاديا وسياسيا ألمانيا وفرنسا ومن بعدهما إيطاليا لطرح حلول دبلوماسية لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، لاسيما وأن الأوضاع ضاغطة بشكل كبير على تلك الدول التي تواجها تحديات واسعة.
تحذيرات
بعيدا عن الحديث عن صلابة التحالف الغربي تضخمت المعارضة والتحذيرات من أخطار محدقة.
يوم الأحد 26 يونيو قال مقدم برنامج على قناة Fox Newsالأمريكية إن العالم الحديث سينهار لأسباب اقتصادية، منوها بأن الولايات المتحدة فقدت قدرتها على حماية النظام العالمي. وأضاف مقدم البرنامج على القناة جيسي واترز، نحن نتحدث عن نقص في موارد الغذاء والطاقة. محذرا من أن "هذه العملية قد بدأت بالفعل". واستشهد المقدم بأزمة الغذاء التي اندلعت في بيرو وسريلانكا، ويرى واتزر أن أي دولة يمكن أن تكون التالية.
وأشار إلى أن الولايات المتحدة مسؤولة عن عمل النظام العالمي وطرق شحنها البحري المحمية. مضيفا: "لقد فقدنا هذه القدرة الآن".
من جهته أشار بيتر زيهان، مؤلف كتاب "نهاية العالم هي البداية فقط"، إلى أن الولايات المتحدة فقدت الرغبة في مواصلة مسارها السابق، "لقد أنفقنا كل قوتنا السابقة. لدينا 14 حاملة طائرات في الخدمة، والعديد منها في الطريق وهذا يكفي لتدمير بلد ما، ولكن هناك حاجة لحوالي 800 مدمرة للقيام بدوريات في محيطات العالم من أجل حماية التجارة البحرية، لدينا 70 منها فقط".
في وقت سابق، قال كبير الاقتصاديين في بنك ميزوهو الياباني، شونسوكي كوباياشي، إنه إذا اختفى الغاز الروسي من السوق، فإن العالم ينتظر نهايته. وسيؤدي نقص الغاز إلى المنافسة وزيادة الطلب على الفحم والنفط والغاز الطبيعي المسال.
وكالة الانباء الالمانية "د ب أ" نقلت عن موقع ناشونال إنتريست الأمريكي تأكيده أن التاريخ سيحاسب بشدة أمريكا والحلفاء على “سياستهم الحمقاء” حول أوكرانيا ووصف جيه. ميرشايمر، الباحث وأستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، الحرب في أوكرانيا بأنها كارثة متعددة الأبعاد، من المرجح أن تزداد سوءا في المستقبل القريب. وقال إنه عندما تكلل أي حرب بالنجاح، لا يهتم أحد كثيرا بأسبابها، ولكن عندما تكون نتيجتها كارثية، يصبح فهم كيف حدثت أمرا مهما للغاية. ويرغب الجميع معرفة كيف تم الوصول إلى هذا الموقف المروع.
جاء ذلك في محاضرة ألقاها ميرشايمر في معهد الجامعة الأوروبية (EUI) بفلورنسا بإيطاليا، تحدث فيها باستفاضة عن أسباب وتداعيات الحرب في أوكرانيا، ونشرتها مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية.
ويرى ميرشايمر أنه فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية تعتبر الولايات المتحدة مسؤولة أساسا عن التسبب في هذه الأزمة. ولا يعني هذا إنكار أن بوتين بدأ الحرب وأنه مسؤول عن سلوك روسيا في الحرب. كما لا يعني هذا إنكار أن حلفاء أمريكا يتحملون بعض المسؤولية، لكنهم بدرجة كبيرة يحذون حذو واشنطن بالنسبة لأوكرانيا.
ويمكن القول إن الولايات المتحدة دفعت بسياسات تجاه أوكرانيا يعتبرها بوتين وغيره من القادة الروس تهديدا وجوديا، وخاصة هوس أمريكا بضم أوكرانيا إلى الناتو وجعلها حصنا غربيا على الحدود الروسية.
ولم يكن لدى إدارة بايدن أي استعداد لإنهاء هذا التهديد بالطرق الدبلوماسية، وأعادت التزامها في عام 2021 بضم أوكرانيا إلى الناتو. ورد بوتين على ذلك بغزو أوكرانيا في 24 فبراير.
واتسم رد فعل إدارة بايدن على اندلاع الحرب بزيادة الضغط على روسيا. فواشنطن وحلفاؤها الغربيون ملتزمون بإصرار بهزيمة روسيا في أوكرانيا واستخدام العقوبات الشاملة لإضعاف القوة الروسية بدرجة كبيرة. والولايات المتحدة ليست مهتمة جديا بإيجاد حل دبلوماسي للحرب، وهو ما يعني أن الحرب يمكن أن تستمر شهورا إن لم يكن لسنوات.
ولا شك أن أوكرانيا التي عانت بالفعل بصورة خطيرة، سوف تشهد المزيد من الأضرار خلال الحرب. وهناك خطر يتمثل في تصعيد الحرب، حيث من المرجح جر الناتو إلى القتال، ومن المحتمل استخدام الأسلحة النووية. ويمكن القول إننا نعيش أوقاتا محفوفة بالمخاطر.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنه قد حدث تسميم كبير للغاية للعلاقات بين روسيا والغرب، ستحتاج سنوات كثيرة لإصلاحها. وفي الوقت نفسه، سوف يؤجج هذا العداء الشديد عدم الاستقرار في أنحاء العالم، وخاصة في أوروبا. وقد يقول البعض إن هناك أمرا يعد إيجابيا: حيث إن العلاقات بين دول الغرب تحسنت بشكل ملحوظ بسبب حرب أوكرانيا.
ويمكن أن يكون هذا أمرا حقيقيا في الوقت الراهن، لكن هناك تصدعات عميقة تحت السطح. وعلى سبيل المثال، من المحتمل أن تتدهور العلاقات بين دول أوروبا الشرقية ودول أوروبا الغربية مع استمرار الحرب لأن مصالحهما ووجهات نظرهما بشأن الحرب ليست متماثلة.
ومن المؤكد أن الحرب تسببت بالفعل بإلحاق الضرر بالاقتصاد العالمي بشكل رئيسي، ومن المحتمل أن يزداد هذا الوضع سوءا مع مرور الوقت.
وفي ختام محاضرته، قال ميرشايمر إن الحرب الجارية حاليا في أوكرانيا تعتبر بوضوح كارثة هائلة، ستؤدي إلى أن يبحث الكل في أنحاء العالم عن أسبابها. ومن يؤمنون بالحقائق والمنطق سيكتشفون بسرعة أن الولايات المتحدة وحلفاءها مسؤولون أساسا عن هذا الخراب. وكان من المحتم أن يؤدي القرار الذي صدر في إبريل عام 2008 بفتح الطريق لضم أوكرانيا وجورجيا للناتو إلى حرب مع روسيا.
تحد للصين واوبك
مجموعة "السبع" التي اجتمعت في ألمانيا أقدمت على خطوات يمكن أن تصيبها بأضرار ضخمة وتعزز التحالف الصيني الروسي وتشجع دول الاوبك على التخلي عن الدولار كعملة لتسعير النفط أي نهاية هيمنة الورقة الخضراء، وقد وصف بعض المحللين هذه الخطوات إذا طبقت بالانتحار.
وكالة الانباء الفرنسية أفادت يوم الأحد 26 يونيو أن الرئاسة الفرنسية تؤيد وضع "حد أقصى لأسعار" النفط على مستوى "الدول المنتجة"، بهدف كبح ارتفاع الأسعار، الناجم عن الحرب في أوكرانيا.
وقال قصر الإليزيه إن باريس "لا تعارض في المبدأ" الاقتراح الأمريكي وضع سقف للأسعار من روسيا، لكن "ما سيكون أقوى بالنسبة إلينا هو أن نضع حدا أقصى لأسعار النفط القادم من كافة الدول المنتجة". وأضاف الإليزيه "هذا ما يلزم لإعادة الانخراط في النقاش مع أوبك+ ومع جميع منتجي النفط في العالم".
ويختلف هذا الاقتراح، عن الإجراء الذي اقترحته الولايات المتحدة بوضع سقف لأسعار النفط، يتقرر في الدول المستهلكة.
وذكر مصدر في الإليزيه "ما يجب أن نفعله في مجموعة السبع هو بالأحرى محاولة وضع "سقف لسعر" النفط، وفي نظري الغاز أيضا لتجنب عواقب وخيمة للغاية للعقوبات والوضع الاقتصادي العالمي".
يوم الأحد 26 يونيو كذلك أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أن مجموعة السبع أطلقت برنامجا هائلا للاستثمارات في الدول النامية، قيمته 600 مليار دولار، يهدف إلى الرد على المشاريع الواسعة النطاق التي تمولها الصين.
وبحسب "الفرنسية"، ذكر مصدر في البيت الأبيض، نسعى إلى جمع 600 مليار دولار بحلول 2027 من أجل استثمارات عالمية في البنى التحتية".
وأوضح المصدر نفسه أنه يفترض على بارتنرشيب فور جلوبل إنفراستراكتشر "الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية" توفير بنية تحتية عالية الجودة ومستدامة.
من جانبه، أكد أولاف شولتس المستشار الألماني الذي قدم المشروع إلى جانب الرئيس الأمريكي، أن مجموعة السبع "وضعت لنفسها هدفا طموحا يتمثل في تقديم عرض أفضل للعالم من حيث الاستثمار في البنية التحتية".
وتعهدت الولايات المتحدة بجمع نحو 200 مليار دولار وحدها خلال خمسة أعوام لهذا البرنامج.
لكن مصطلح "جمع" لا يعني أن الدول هي التي ستقدم هذه المبالغ الهائلة. وبالتالي، ستجمع واشنطن 200 مليار دولار من خلال القروض والتمويلين العام والخاص.
ويريد الغرب أن يتميز عن الصين التي استثمرت بكثافة في عديد من الدول النامية، لبناء بنى تحتية عبر ما يسمى برنامج "طرق الحرير الجديدة" أو لضمان الوصول إلى بعض المواد الخام.
هل فات الوقت ؟
مسؤول كبير في البيت الأبيض ذكر "إن الهجوم الصيني موجود منذ أعوام وقد ترجم بكثير من المدفوعات النقدية والاستثمارات، لكن الوقت لم يفت بعد"، في إشارة إلى مبادرة مجموعة السبع.
وأضاف المصدر نفسه "من الواضح أن إفريقيا جنوب الصحراء ستكون أولوية رئيسة للشراكة التي أطلقتها مجموعة السبع"، مؤكدا أن أمريكا الوسطى وجنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى، هي أيضا مناطق "مهمة جدا".
وبحسب "رويترز"، ذكر البيت الأبيض "إنه سيتم جمع الأموال من خلال المنح والصناديق الاتحادية ومن خلال الاستفادة من استثمارات القطاع الخاص"، مضيفا أن "مئات المليارات من الدولارات الإضافية يمكن أن تأتي من بنوك التنمية متعددة الأطراف ومؤسسات تمويل التنمية وصناديق الثروة السيادية وغيرها".
وبسبب تزايد القلق في الغرب بشأن الصين، طرح قادة مجموعة الدول السبع لأول مرة خططا للمشروع في عام 2021، ويطلقونها رسميا الآن تحت عنوان جديد هو "الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار"، بينما تخلوا عن اسم "إعادة بناء عالم أفضل" الذي صاغه بايدن لأول مرة خلال حملته الرئاسية.
وذكر مسؤول أمريكي كبير للصحافيين "الرئيس لا يفكر في أننا بحاجة إلى إنفاق دولار مقابل دولار في تنافس مع الصين.. لكن إذا أضفت ما ستعلنه الولايات المتحدة والشركاء في مجموعة السبع، فسيكون قريبا جدا من الرقم".
وتتضمن خطة مبادرة الحزام والطريق الصينية، التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ في 2013، مبادرات تنموية واستثمارية بأكثر من ألف مليار دولار في أكثر من مائة دولة، مع مجموعة من المشاريع تتضمن السكك الحديدية والموانئ والطرق السريعة.
ويقول مسؤولو البيت الأبيض "إن خطة الرئيس الصيني لإنشاء نسخة حديثة من طريق التجارة القديم الذي كان يعرف باسم طريق الحرير لا توفر فوائد ملموسة تذكر لكثير من الدول النامية، في ظل تخصيص الوظائف العليا للعمال الصينيين".
وأشار الرئيس الأمريكي إلى أنه من المنتظر أن يتم بهذه الأموال إنشاء بنية تحتية مستدامة "تحسن حياة الناس في كل أنحاء العالم وتعزز سلاسل توريداتنا وتنوعها وتوفر فرصا جديدة للعاملين والشركات الأمريكية وتدعم أمننا القومي".
من جانبه، قال ممثل للحكومة الأمريكية "إن المبادرة التي أطلقتها الولايات المتحدة تستهدف الدول ذات الدخل المنخفض أو المتوسط"، وأوضح أن الهدف هو توفير استثمارات للبنية التحتية "تحتاج إليها الدول، بدون أن تخضع لإملاءات من الخارج".
وبحسب "الألمانية"، قال "إن المشاريع سترتبط بمعايير عالية، من أجل ضمان دفع هذه الاستثمارات اقتصاديا وتجاريا وحتى لا تؤدي إلى الوقوع في شرك الديون".
إلى ذلك، قال أولاف شولتس المستشار الألماني "إن كل زعماء مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى يساورهم القلق من أزمة اقتصادية عالمية وشيكة مع تباطؤ النمو وتزايد التضخم".
جاء هذا التصريح بعد جلسة عمل عن الاقتصاد العالمي في القمة السنوية لمجموعة السبع.
وأضاف شولتس في بيان نقله التلفزيون "كل الدول الأعضاء قلقة من الأزمة التي نواجهها.. معدلات النمو المتراجعة في بعض الدول وتصاعد التضخم ونقص المواد الخام واختلال سلاسل الإمداد، هذه ليست تحديات بسيطة".
إخفاق
قبل يوم واحد من تدفق القوات الروسية إلى عبر الحدود مع أوكرانيا في 24 فبراير، كان سعر صرف الدولار الأمريكي في مواجهة الروبل الروسي يوازي تقريبا 81 روبلا لكل دولار.
وقعت الحرب وفرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون سلسلة عقوبات غير مسبوقة على روسيا، تعد الأقسى من نوعها، وتوقعوا انهيار العملة الروسية.
وفي عالم صرف العملات، فإن مثل هذا الانهيار يعد مخيفا ليس فقط للأشخاص الذين لديهم ثروات بالعملة الروسية، بل أيضا للدولة واقتصادها وقدرتها على الصمود وتمويل آلتها العسكرية واحتياجات مواطنيها من مختلف السلع والخدمات، وأيضا لعديد من الدول والاقتصاديات، التي تعد السياح الروس رافدا مهما لإمدادها بالعملات الأجنبية.
حدث ما لم يكن فارضو العقوبات يتوقعونه أو يرغبون في حدوثه على الأقل، لأنه إلى حد ما يخل بمفهوم وأهداف العقوبات.
الروبل الروسي اليوم أقوى مما كان عليه قبل الحرب، إذ يبلغ سعر صرف الدولار الأمريكي في مواجهة الروبل نحو 54.20 روبل لكل دولار، وهو سعر صرف ليس فقط أفضل مما كان عليه قبل الحرب، بل الأفضل في الأربعة أعوام الماضية، ولم يواصل الروبل قفزاته أمام الدولار فقط، بل وأمام اليورو أيضا ليصل الآن إلى أفضل سعر صرف له في مواجهة العملة الأوروبية الموحدة خلال الأعوام السبعة الماضية.
هذا الوضع الإيجابي للروبل، جعل بعض الخبراء في الولايات المتحدة يعدونه العملة الأفضل أداء في العالم هذا العام ويؤكدون فشل الحصار الغربي.
الدكتورة إلين موريس الاستشارية السابقة في البنك الدولي ترى أن صعود العملة الروسية تشير إلى أن العقوبات عزلت روسيا جزئيا عن الاقتصاد العالمي ولكن لم تعزلها بالكامل.
ولـ"الاقتصادية" تعلق قائلة "في العادة، فإن الدولة التي تواجه عقوبات دولية ونزاعات عسكرية كبيرة تشهد فرارا للمستثمرين وهروبا لرؤوس الأموال، ما يؤدي إلى انخفاض قيمة عملتها، لكن الإجراءات الروسية غير المعتادة لمنع الأموال من مغادرة البلاد، إلى جانب الارتفاع الكبير في أسعار الوقود التقليدي، وإصرار موسكو على ربط المبيعات بالروبل وانصياع عديد من المشترين الأجانب وتحديدا الشركات الأوروبية لذلك أوجد طلبا على العملة الروسية ورفع قيمتها".
وتضيف "أسعار السلع الأساسية مرتفعة حاليا، وعلى الرغم من حدوث انخفاض في حجم الصادرات الروسية بسبب الحظر والعقوبات، فإن الزيادة في أسعار السلع الأساسية كان كفيلا بتعويض تلك الانخفاضات وتجاوزها".
يضاف إلى ذلك أن موجة العقوبات الغربية أدت إلى ترك عديد من الشركات الأجنبية للبلاد، ومن ثم انخفضت الواردات، وارتفع فائض الحساب الجاري الروسي - الفرق بين الصادرات والواردات - إلى مستوى قياسي بلغ 96 مليار دولار.
ويرى البروفيسور مارك ديفي، أستاذ الاقتصاد الدولي في عدد من الجامعات الدولية أن الدول الغربية ومع ارتفاع سعر صرف الروبل بدأت تجادل بأنه لا ينبغي استخدام سعر الصرف كمؤشر على مدى فعالية عقوباتها، ووجهة النظر السائدة بين الرسميين الغربيين أن النظام المالي الروسي قد صمد أمام الصدمة الأولية، لكن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي والنقص في مدخولالصناعي نتيجة تراجع الواردات من شأنه أن يجبر موسكو على وقف الحرب في نهاية المطاف، لكن وجهة النظر تلك في حاجة إلى إعادة نظر.
ولـ"الاقتصادية" يعلق قائلا "الفائض التجاري الروسي يعني باختصار أن روسيا تكسب أموالا ولا تنفقها، وهذا يعني أن روسيا قادرة على تعويض احتياطياتها من العملات الأجنبية بعد أن صادرت الدول الغربية نحو 60 في المائة من تلك الاحتياطيات، ومن ثم فإن قوة الروبل وزيادة الاحتياطيات المالية يوفر استقرارا ماليا لروسيا، ويترافق ذلك في أحد جوانبه مع جاذبية اقتصادية للشركات في الاقتصاديات غير المنحازة في هذا الصراع مثل الصين والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل للاستثمار في روسيا".
ويضيف "كما أن الشركات الصغيرة التي تنتج بدائل السلع الغربية ستشعر بأن هناك فرصة إيجابية ومثرية للعمل في السوق الروسية، يضاف لذلك أن التكلفة التي ستدفعها روسيا للحصول على التكنولوجيا الغربية من الأسواق السوداء ومن خلال عملية التهريب سيكون من السهل عليها سدادها بفضل قوة الروبل والاحتياطيات المالية الضخمة المتراكمة لديها".
تتفق كاثرين إيفانوف الباحثة في التجارة الدولية مع وجهة النظر تلك وتؤكد أنه "لا يجب الاستهانة بتحسن سعر صرف الروبل في مواجهة العملات الدولية، خاصة على الأمد الطويل، فاستمرار هذا الاتجاه يعزز من قبول الأسواق الدولية بالتبادل التجاري مع روسيا باستخدام الروبل في عقد الصفقات الثنائية، وهذا يثير الجدل بين المراقبين ويسرع من الاتجاه الدولي الراهن الذي يحاول تقليص جعل الدولار الأمريكي العملة الرئيسة في التجارة الدولية".
مدخل إلى الحرب النووية
خطوة جديدة نحو التصعيد مع روسيا اتخذها الاتحاد الأوروبي، ولكن هذه المرة عبر البوابة الليتوانية، بعد أن قررت فيلنوس تقييد النقل الروسي عبر السكك الحديدية وحظر عبور عدد من البضائع الروسية عبر أراضيها نحو إقليم كالينينغراد الروسي الذي لا يرتبط بحدود برية مع روسيا. موسكو التي أدانت الإجراء الليتواني، طالبت فيلنيوس بالتراجع عنه، ملوحة بالرد، قائلة إن "الشعب الليتواني سيشعر بجدية بعواقب هذه الإجراءات"، حسب ما جاء على لسان الناطق باسم الكرملين، دميتري بيسكوف.
ومن شأن تقييد حركة نقل البضائع من وإلى كالينينغراد، التسبب بحالة إرباك لوجيستي للاقتصاد الروسي، إضافة إلى احتمال ارتفاع أسعار المنتجات والبضائع التي سيتم نقلها من وإلى الإقليم الحيوي، نتيجة لذلك. فحتى الآن، قدرت الزيادة في تكاليف نقل البضائع "الخاضعة للعقوبات" التي تقع تحت حظر العبور في ليتوانيا بـ:10 - 20 في المئة. كما أن الإجراء الليتواني سيدفع روسيا إلى اللجوء لاستخدام الممرات البحرية كبديل لشحن البضائع، وهي وسيلة مرهونة بالأحوال الجوية، خصوصا في فترات العام شديدة البرودة.
وبينما تقيم موسكو أبعاد الخطوة الليتوانية وتدرس الرد عليها، فإن مراقبين روسا يستبعدون أن يكون الرد عسكريا، ويميلون للاعتقاد، أن الرد سيكون عبر بوابتي الاقتصاد والسياسة.
ويؤكد الخبير الاقتصادي اوليغ تشيرنوف، أن ليتوانيا اتخذت هذه الخطوة تحت ضغط من الغرب، و"لم تكن لتجرؤ على القيام بذلك بمفردها"، حسب تعبيره. ويتابع أن محاولة فرض حصار فعلي على كالينينغراد "هو انتهاك لسيادة روسيا على هذه المنطقة، وقد يكون الأساس لإجراءات صارمة من جانبها".
ومع ذلك، يوضح أن الاحتياطيات الحالية في الإقليم "المحاصر" تسمح لسكانه بالعيش بهدوء ثلاث سنوات دون قلق، ولكن ربما الآن، مع الأخذ بعين الاعتبار العقوبات الجديدة - تصبح المدة سنتين، معربا عن اعتقاده أنه خلال هذا الوقت، سيتم العثور على عدد من الحلول البناءة، رغم الصدمة التي تسبب بها الجانب الليتواني، والتي ستزول – برأيه – بعد فترة قصيرة.
ويشير تشيرنوف إلى أن إنهاء إمدادات الغاز الرئيسة إلى منطقة كالينينغراد، سيؤدي تلقائيا إلى وقف هذه الإمدادات إلى أراضي دول البلطيق. أي أن ليتوانيا ـ حسب تعبيره ـ أصبحت كمن يطلق النار على قدميه.
في كل الأحوال، يرى الخبير الروسي، أنه في حال لم تؤد الوسائل الدبلوماسية إلى إقناع فيلنيوس بالتراجع عن قرارها، فإن روسيا ستقوم بحظر مضاد على عبور البضائع ومصادر الطاقة إلى ليتوانيا، وإنهاء التعاملات التجارية والاقتصادية معها، رغم أن موسكو لا تهدف إلى التصعيد، وتوسيع جبهة النزاعات مع البلدان المحيطة. ويخلص أن الخطوات العقابية الروسية ضد ليتوانيا، في حال اتخذت، ستكون مؤثرة، مع الأخذ بعين الاعتبار حتمية انضمام بيلاروسيا إليها – وهي حليف روسيا القوي والمحاذي لليتوانيا.
عمر نجيب