لم تتمكَّن القيم العليا التي تحاول القوى الغربية تسويقها كإطار حاكم لسياساتها الخارجية من الصمود أمام المصالح القومية للولايات المتحدة الأميركية. وبعد أكثر من عام على نشر التقرير الاستخباراتي الأميركي الذي حمّل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان المسؤولية المباشرة عن اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، والذي مهَّد لعقوبات طالت 76 شخصاً من الدائرة المحيطة بولي العهد، عادت الإدارة الأميركية لتخفف القيود، بما أتاح للأخير الفرصة لفتح آفاق التواصل مع الخارج، عبر نشاط قد يكتسب، وفق الرؤية السعودية، أهمية في ظل التوازن الإقليمي الذي تسعى الولايات المتحدة الأميركية لإرسائه.
وإذا افترضنا أن السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأميركية تجاه الشرق الأوسط تميزت بالثبات منذ أكثر من 70 عاماً، فإن الموقف الذي تبناه الرئيس الأميركي جو بايدن تجاه المملكة العربية السعودية، لم يكن متوافقاً مع المسار التقليدي المتعارف، إنما ارتبط باتجاه مستجد لدى الحزبين الجمهوري والديمقراطي، يفترض ضرورة إعادة تطويع مؤسسة الحكم في المملكة؛ فالسلوك الذي حكم السياسات الخارجية للمملكة منذ وصول جو بايدن إلى الحكم، وإصراره على متابعة قضية اغتيال جمال خاشقجي، أوحيا بمحاولة سعودية للتحرر من العلاقة العضوية مع الولايات المتحدة الأميركية، ومحاولة رسم مسار خاص لعلاقاتها، بما يكفل نوعاً من الاستقلالية في تقدير المصالح ورسم السياسات.
وإذا كانت محاولة التخلص من العلاقة العضوية مع الولايات المتحدة الأميركية تم التسويق لها في الداخل السعودي على أنها نجاح لولي العهد في قيادة سياسة خارجية تستند إلى الواقعية، وتهدف إلى التأثير بشكل فاعل في التوازن الإقليمي والدولي، من خلال تقديس المصلحة العليا للمملكة، والاعتماد على الحاجة الدولية للنفط، ولما تدّعي المملكة تمثيله على مستوى العالمين العربي والإسلامي، فإنَّ محاولات القوى الكبرى، كالصين وروسيا أو الولايات المتحدة الأميركية، لا يمكن تصنيفها في إطار البحث عن علاقة متوازنة مع المملكة، بوصفها قطباً دولياً، إنما تتمحور حول محاولة تجنيد الفواعل الإقليمية، بما يساعد كل منها في مشروعه لتحقيق التوازن الدولي الذي يتوافق مع طموحه ورؤيته لموقعه الدولي.
القوى الدولية المتناحرة على المستوى الدولي، والساعية لإلغاء بعضها البعض من أجل ضمان تفوقها وتربعها على رأس النظام العالمي، لن تسمح بانبثاق فاعل إقليمي ودولي يملك أيّ قدرة على التأثير في مسارها.
وبناء عليه، إذا كان تصنيف الولايات المتحدة الأميركية للدول صديقة أو خارجة على القانون، انطلاقاً من التزامها بالمصالح الأميركية وعدم تبنيها أي موقف سياسي أو اقتصادي معادٍ لها، فإن حرص المملكة على رسم سياساتها النفطية وفق المصلحة الأميركية، والتعهد بعدم المس بالأمن القومي للكيان الإسرائيلي، سيشكل صمام أمان لبقاء نظام الحكم فيها.
وإذا كان ولي العهد السعودي قد نجح شكلياً في رفض المطالب الأميركية بزيادة إنتاجه للنفط من أجل تعويض النقص الناجم عن الحظر الغربي على روسيا، فإنَّ إظهار هذا النجاح كدليل على نجاح ولي العهد في حجز مقعد متقدم في تراتبية النظام الدولي يفتقر إلى الواقعية.
إنَّ المساحة التي منحتها الولايات المتحدة للدبلوماسية السعودية أو التي نجحت المملكة في اقتناصها في لحظة دولية معينة لا تعبر عن موقع نهائي في النظام العالمي؛ فضمن أهم أدوات القوة التي تجيرها المملكة العربية السعودية في رسم سياساتها، تكمن الحماية الأميركية للنظام فيها. وإذا افترضنا تخلياً أميركياً عن هذه الحماية، فإنَّ أسئلة كثيرة ستُطرح عن إمكانية بقاء الأسرة السعودية في الحكم.
إضافةً إلى ذلك، تفرض مساعي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان نفسها في مقاربة إشكالية الموقع السعودي على المستوى الإقليمي والدولي؛ فسعي ولي العهد الحثيث والدائم لاقتناص اعتراف أميركي بمحورية دوره ومركزيته في المملكة العربية السعودية، ومحاولة الحصول على اعتراف إدارة بايدن به كمرشح وحيد لخلافة والده، يؤكدان افتقاد المملكة الدور المحوري والمستقل تجاه الولايات المتحدة الأميركية.
وعلى الرغم من العلاقات المميزة التي عمد ولي العهد السعودي إلى تكريسها مع الصين وروسيا وغيرهما، إضافةً إلى سلوكه الطوعي لمسار التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، فقد ظهر واضحاً، من خلال محاولات تبييض سجل ولي العهد، عبر اللوبيات الأميركية، أنَّ الرضا الأميركي يمثل شرطاً أساسياً لتولي محمد بن سلمان عرش المملكة.
وبناء عليه، إنَّ الأسس التي ستنطلق منها السياسات السعودية، بعد ادعاء النجاح في تغيير موقف جو بايدن، سترتكز على تقديم المملكة كمؤثر فاعل لا يمكن التغاضي عن دوره في تحقيق المصلحة القومية الأميركية. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى المحاولة السعودية لإظهار أنَّ زيارة بايدن إلى المملكة هي حاجة حيوية أميركية ودليل على دور ولي العهد كشريك لا يمكن تخطيه.
ولكنَّ العودة إلى ما صدر عن جو بايدن في هذا الإطار تؤكّد أن الرؤية الأميركية لهذه الزيارة لا تتماثل مع التسويق السعودي، إذ إنَّ عناوين مكافحة الإرهاب والتغير المناخي لا تعبر عن علاقات ثنائية سعودية أميركية فقط، في حين أن زيادة الإنتاج النفطي الخليجي تعبر عن عمق المصلحة الأميركية المرجوة من هذه الزيارة، وتؤكّد البراغماتية الأميركية التي تنظر إلى الدول النفطية كأدوات تخدم مشروع السعي نحو الهيمنة، وتسمح بإمكانية القفز فوق دعائية تقديس القيم العليا للمجتمع الغربي الحر والمدافع عن حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية.
إذاً، من خلال السردية السعودية للعلاقة المتوازنة مع الولايات المتحدة، إضافة إلى الاقتناع بالدور المحوري للمملكة في الإقليم والعالم، يمكن تفسير نشاط محمد بن سلمان الأخير، إذ إنَّ مسار تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، عبر مشروع نقل السيادة على تيران وصنافير، يترافق مع جولة خارجية إلى مصر والأردن وتركيا.
ومن خلال التسويق لعمق العلاقات الاستراتيجية التي يمكن للمملكة أن تنسجها مع القوى الإقليمية الحليفة للولايات المتحدة الأميركية، وإظهار الكفاءة في قيادة ما يشبه تحالفاً إقليمياً، تتوافق اتجاهات دوله السياسية مع التوجهات الإقليمية للولايات المتحدة الأميركية، وتحاول المملكة العربية السعودية، عبر ولي العهد محمد بن سلمان، أن تقدم للولايات المتحدة الذريعة، بغية دفع إدارة بايدن إلى اعتماد محمد بن سلمان وريثاً شرعياً للعرش.
وبناء عليه، يمكن القول إنَّ الجولة الأخيرة لمحمد بن سلمان في مصر والأردن وتركيا، لا تعبر عن رؤية سعودية خالصة لسياسات المملكة السعودية الخارجية، إنما تظهر محاولة سعودية لتقدير ما يمكن أن يُكسب المملكة رضا أميركياً ضرورياً لتمرير انتقال العرش إلى ولي العهد محمد بن سلمان. لذلك، يصبح ضرورياً ربط المسار الذي قررته المملكة في هذه الجولة بالخطوط الأميركية العريضة المحددة لاستراتيجياتها في الشرق الأوسط.
وسام إسماعيل باحث واستاذ جامعي لبناني