كيسنجر الذي احترف السياسة والدهاء، وكان علامة فارقة في السياسة الخارجية الأمريكية، وأمسك بكل الخيوط التي تحفظ توازنات الأمن القومي الأمريكي على مرّ عقود، وكان لاعبا سياسيا ومنسقا ودبلوماسيا يرمم العلاقات في مناطق من العالم، ويهندس أخرى استجابة لمخططات وأهداف تحقق مآرب السياسة الصهيونية، وتحديدا في ما يخص العالم العربي.
وهو فوق ذلك عقلية عسكرية، بحكم انخراطه للعمل في كتيبة المشاة 84، وفوق هذا رجل مخابرات يتميز بذكاء حاد، عمل في فرع المخابرات الحربية، وكلف بمهام استخباراتية، وكذلك فهو حاصل على درجة الدكتوراة من جامعة هارفرد، وله ما يقرب من عشرين مؤلف، وتُعبر مؤلفاته عن شخصيته ورأيه وسيكولوجية كيسنجر في السياسة والعلاقات الدولية.
وجاء حديثه أخيرا بدعوة أوكرانيا للتنازل عن بعض أراضيها لصالح روسيا من أجل إنهاء الحرب، مما يعني أن تكون شبه جزيرة القرم ومقاطعتي ” دونيستك” و ” لوغانسك” المتنازع عليهما جزء من الأراضي الروسية، وليس هذا فحسب بل حذر من إلحاق الهزيمة بالدب الروسي” بوتين”.
كلام كيسنجر لا يمكن أن يتجاهله ” بايدن” ولا الإدارة الأمريكية، ولا مجلس الأمن القومي الأمريكي، مما يعني أن الرئيس الأمريكي وكل المستشارين في البيت الأبيض على قناعة أن هناك حدود معينة تتوقف عندها أمريكا وحلف الناتو في مواجهة روسيا، ولا يمكن ان تخاطر بأن تتعداها لأجل إرضاء أوكرانيا ورئيسها ” فولوديمير زيلينسكي”، ولا يمكن الاستخفاف بنظريات التوقع الصادرة عن عقل كيسنجر، الذي يرى أن الاستمرار بالتصعيد يعني تدهور الأوضاع في أوروبا لسنوات طويلة.
وأكد كيسنجر أنه يجب على الدول الغربية أن تاخذ في الإعتبار المصالح الروسية عند مناقشة تسوية سلمية للوضع في أوكرانيا من اجل تجنب زيادة النفوذ الصيني على موسكو، وفي رأي كيسنجر أيضا ” أنه من المهم الحفاظ على الحلف الذي يعكس التعاون بين اوروبا وأمريكا”، وفي نفس الوقت يقول ” من الضروري الاعتراف بحقيقة أن أحداث كبيرة قادمة في الشرق الأوسط وآسيا”.
هذا القول الأخير فيما يتعلق في الشرق الأوسط، ليس فزاعة يزرعها كيسنجر في وسط الإقليم العربي الملتهب، تأتي أهمية كلام كيسنجر وتصريحاته في الوقت الذي يتحرك فيه العالم للتنسق وبناء التحالفات قبل ساعة الصفر التي يملك توقيتها فقط أمريكا و”إسرائيل”.
فالسعودية ستجمع “بايدن” الرئيس الامريكي بقادة المنطقة في شهر تموز القادم، ولأجل هذا ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في عمان للقاء الملك، وسبق زيارته بيوم حضور رئيس هيئة الأمن القومي الإسرائيلي” إيال حولاتا” مبعوثا من إسرائيل نيابة عن رئيس وزراء اسرائيل” نفتالي بينيت” للقاء الملك، وفي نفس الوقت ما زالت العلاقات السعودية –الايرانية بدون تمثيل على مستوى السفراء، وعلى الأغلب أن العلاقات ستبقى على ما هي عليه، حتى يتبلور الموقف فيما سيتم بحثه في القمة التي سيحضرها “بايدن” في السعودية، وحسب المتوقع موضوع توجيه ضربة لأيران في عملية ” رأس الأخطبوط” الغير معلن عن توقيتها وآليات تنفيذها .
ويبدو أن الأردن مقبل على تحديات ليس من السهل تجاوزها؛ فهو في بؤرة ملتهبة وساخنة بالأحداث والتحالفات والأطماع، وفوهة البركان ليست ببعيدة بل قريبة جدا، واسرائيل التي تناكفنا وتعلن عداءها للأردن عبر تصريحاتها الأخيرة، والتي كتبت عنها سابقا، هي نفسها اليوم تتودد لعمان عبر ممثلها رئيس الأمن القومي، وما الزيارة إلا لمصلحتها، والسعي في بناء تحالفات ضد إيران، وتضعنا أمام فوهة البركان الذي في أي لحظة ممكن أن ينفجر في المنطقة، وسيطال الجميع في الإقليم ودول الخليج.
والأردن حليف مهم بالنسبة لأمريكا، لكنه في وضع صعب بالنسبة للخيارات المطروحة أمامه، وأحلاها مر؛ فاسرائيل لاعب أساسي في التحالف، وهي من سيبدأ الضربة الأولى، لكن تريد أن يكون معها حلف من العالم العربي، لمساندتها، وأمريكا معها في هذه المهمة جملة وتفصيلا، وما أن يتم تحجيم الخطر الإيراني تعود “إسرائيل” لسابق عهدها في العداء للحلفاء العرب الجدد، لتمرر مخططها الصهيوني الذي لا يمكن أن تتراجع عنه.
الآن أدركت “إسرائيل” أن ضربتها لإيران ستكون ضعيفة دون مساندة عربية، ولهذا وظفت سدنتها وحراس مشروعها التوسعي، ومخططها الصهيوني في مجلس الشيوخ الأمريكي للموافقة على المذكرة التي قدمتها لخوض الحرب ضد إيران، واستصدار قانون دفاع بهذا الخصوص، يوقع عليه كل زعماء التحالف.
ونحن في الأردن هل سنكون جزء من هذا التحالف؟، الذي يتبنى عملية “رأس الأخطبوط، مع أهمية معرفة أننا كنا في السابق نريد أن يلتفت لنا الأشقاء في دول الخليج ونحن نقف في المواجهة لوحدنا مع الملالي الذين يشكلون الخطر الحقيقي على جبهتنا الشمالية الشرقية، ولكن الأمر برمته اختلف عما كنا نراه دفاعا عن وجودنا وسيادتنا ، ونبذل لأجله الغالي والرخيص ، الآن وعلى هذا الوجه إذا قبلنا بالإنضمام لعملية “رأس الأخطبوط”، سنكون إلى جانب “اسرائيل”، التي لا ترى في الأردن إلا “وطنا بديلا”، وعلى مدى عقود من تاريخها المقيت وسياسة العناد التي تنتهجها، ترفض الاستجابة للسلام والأمن والامتثال للمواثيق الدولية فيما يخص القضية الفلسطينية، وموضوع المقدسات الاسلامية والمسيحية والوصاية الهاشمية عليها.
ما الذي تغير، او سيتغير، بالنسبة لأطماع “اسرائيل، ولماذا الآن يطرح وزير الأمن الاسرائيلي” بيني غانتس”، أنه يتم العمل على بناء تحالف للدفاع الجوي في الشرق الأوسط، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية؟.. يبدو أن هذا التحالف سيستمد الشرعية بعد اجتماع الرئيس الامريكي بزعماء الإقليم في الزيارة المنتظرة، ويعد تتويجا للجهود والمساعي التي بذلها وزير الأمن الاسرائيلي ” غانتس” عبر برنامج طويل ومكثف من اللقاءات مع “البنتاغون” والإدارة الأمريكية ومجلس الكونغرس لتكون المنطقة برمتها متعاونة مع “اسرائيل” وأهدافها ضد إيران، وخطر استهداف قوات الحرس الثوري الايراني الإسرائيليين المتواجدين على الأراضي التركية ، أو غيرها.
هذا الجو المحموم والأحداث المتسارعة وازدياد التطور في موضوع مسألة إيران، مع العلم أننا في الأردن، نحن أول من حذر من خطر الهلال الشيعي، وسياسة إيران التي تنتهجها في المنطقة، لفرض هيمنتها وقوتها، وكان صوتنا عاليا للتكاتف لردع المخطط الإيراني، لكن للأسف لم يسمع الأشقاء هذا الصوت، مما يضعنا أمام خيار صعب قد يكون القبول بالإنضمام في حلف فيه “اسرائيل”، وكنا نتمنى أن يتفهم الأشقاء موقف الأردن، وهو يواجه ما يواجه على الحدود الشرقية الشمالية أمام خطر داهم ويضع كل إمكاناته العسكرية للدفاع عن العمق الأردني، وعمق الخليج العربي معا.
على أي حال كل هذا التجييش لاستكمال التحالف هو فكرة اسرائيلية مدعوم بمباركة وموافقة أمريكية، لردع المخطط الإيراني، وتوقف أذرعه عن التوغل في المنطقة، وتحجيم لقوة إيران، وأن الأمر برمته توظيف للوجود الأمريكي في المنطقة، في الوقت الذي فيه أمريكا مشغولة بالحرب الأوكرانية-الروسية، لكن ياتي الدعم الامريكي لعملية “رأس الخطبوط” حفاظا على أمن إسرائيل، وعدم زعزعةالصورة الذهنية لقدراتها وقوتها في المنطقة، مع العلم أن “إسرائيل” دون هذا الدعم لن تكون قادرة على الوقوف بوجه إيران، وإن حققت بعض الضربات لأهداف إيرانية فهي ليست إلا فعل تكتيكي لا أكثر ولا اقل.
فالحرب لن تبدأ إلا إذا بقيت إيران على عنادها، وسياستها المرفوضة في المنطقة، وعلينا في الأردن أن نُعد لما هو قادم بتحصين جبهتنا الداخلية، وأن لا نأمن لرسائل التودد “الاسرائيلي، وأن ندرك أن هناك خطرا محدقا على حدودنا الشمالية الشرقية، وأذرع النظام الإيراني جزء من تنظيماته التي تشتبك معها قواتنا المسلحة بين فترة وأخرى، ونتمنى أن يتفهم الأشقاء في دول الخليج والمملكة العربية السعودية أهمية دعم امكاناتنا وقدراتنا والوقوف إلى جانبنا ونحن نتصدر الدفاع عن العمق العربي.
حسن محمد الزبن حمى الله الأردن