كثيرون يستغربون كيف استمر المؤتمر القومي العربي طيلة 32 عاماً، دون أن يستند الى دعم أي جهة، وقادراً على الجمع بين أعضاء جاؤوا من منابت فكرية ومشارب سياسية وحزبية متعددة، بل أن يستمر محافظاً على تماسكه العام في زمن يسود فيه منطق الأحتراب والتصادم والغاء الآخر، ليس على مستوى الأنظمة فحسب، بل على مستوى التيارات والاحزاب نفسها.
والجواب على هذا الاستغراب يكمن في ركائز خمس قام عليها المؤتمر القومي العربي منذ تأسيسه في تونس في ربيع 1990.
أولها : المشروع الجامع والذي هو المشروع النهضوي العربي الذي وضعه مركز دراسات الوحدة العربية بعد مناقشات وحوارات دامت أكثر من عشر سنوات ليطلقه رئيس المركز الراحل الدكتور خير الدين حسيب في مؤتمر صحفي عقده في بيروت في 22/2/2010 اي في ذكرى ميلاد الجمهورية العربية المتحدة عام 1958.
هذا المشروع بعناصره الست الوحدة العربية، الاستقلال الوطني والقومي، والديمقراطية، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية والتجدد الحضاري هو ما أعتبر المؤتمر الالتزام به هو معيار الانتماء إليه بغضّ النظر عن الخلفية الفكرية اوالعقائدية أو الاثنية للعضو.
الركيزة الثانية هي ثقافة التكامل التي ترفض كل أشكال الأقصاء والألغاء التي كانت سائدة في العلاقات بين تيارات الأمة وقواها واحزابها، والتي ترجمت نفسها في هذا الزمن على شكل التكفير بأسم الدين أو التخوين بأسم الوطن، فالمؤتمر يجسّد في تكوينه ومواقفه هذه الثقافة ويسعى لتعميمها على مستوى الأمة تقديراً منه أن جزءاً كبيراً من الخراب الذي أصاب علاقاتنا السياسية والمجتمعية يكمن في عقلية أقصاء الآخر والسعي لألغائه وشيطنته، ذلك ان نظرة سريعة إلى ما شهدته العلاقات بين أنظمتنا وتياراتنا وأحزابنا من تصادم وتناحر ومحاولات الغاء تكمن في سيطرة عقلية الأقصاء على عقلية التكامل التي تبحث عن مشتركات تبني عليها، لا عن خلافات تغرق فيها وتغرق معه الأمة بأسرها.
الركيزة الثالثة هي الاستقلالية في الموقف، ترفض التبعية لأي نظام أو جهة، كما ترفض العداء غير المبرر . فهذه الاستقلالية هي أم الموضوعية وأبنتها في آن، فلا يمكن أن يكون موقفك مما يجري حولك موضوعياً اذا لم تكن مستقلاً ، ويستحيل أن تحصن استقلالية موقفك إذا لم تكن موضوعياً تعارض حيث يجب ان تعارض وتؤيد حيث يجب ان تؤيد بعيداً عن الأفكار المسبقة، وعن الشعبوية المدمّرة.
اما الركيزة الرابعة والتي يتحّد معها المشروع بالعمل فهي في مقاومة المشروع الاستعماري الصهيوني واسقاطاته المحلية، لقناعة عند المؤتمر بتلازم الكثير من الخلل الذي نعيشه في حياتنا اليومية من فساد واستبداد وإذلال انما يكمن في رعاية هذا المشروع له وحماية أركانه، حكاماً كانوا أم أرهابيين، لذلك لم يساوم المؤتمر يوماً في موقف له من مقاومة أبناء الأمة في هذا القطر أو ذاك، متحمّلاً في ذلك كافة صنوف الاتهامات التي كثيراً ما تكون متناقضة.
تبقى ركيزة هامة هي مستقبلية نظرة المؤتمر وهي مستقبلية عبر عنها فكريا عبر اورق وتقارير يناقشها كل عام مستشرفا مستقبل الأمة والعالم وأخرى عمليا عبر عنها باهتمام بالشباب من خلال المخيمات السنوية للشباب القومي العربي ومن خلال ندوات التواصل الفكري الشبابي العربي التي ينظمها أركانه كل عام بالإضافة إلى توسيع مشاركة الشباب في الامانه العامة للمؤتمر.
إن الالتزام بخط المقاومة وبوصلته فلسطين كان الضمانة الرئيسية للمؤتمر كي لا يقع في مطبّات وقع بها كثيرون فأيدوا مقاومة هنا وشيطنوا مقاومة هناك، حركة المقاومة في جوهرها هي حركة واحدة وان تعددّت ألوانها وتنوعت فصائلها .
لا شك ان لأسباب استمرار المؤتمر ركائز متعددة، أنه لم يرتبط بالشخصانية أو الفردية، فتناوب على أمانته العامة على مدى 32 عاماً (1990-2022) تسعة أمناء عامين من مشرق الوطن الى مغربه رفضوا جميعاً التمديد لهم وهم خير الدين حسيب (العراق)، عبد الحميد مهري (الجزائر)، ضياء الدين داود (مصر)، معن بشور (لبنان)، خالد السفياني (المغرب)، عبد القادر غوقه (ليبيا)، عبد الملك المخلافي (اليمن)، زياد حافظ (لبنان)، مجدي المعصراوي (مصر)، بالاضافة الى الأمين العام الجديد الذي سيختاره أعضاء المؤتمرفي دورته الحادية والثلاثين ( 23 و24 حزيران /يونيو 2022).
وبقدر ما استطاعت هذه التجربة القومية الجامعة أن تحافظ على هذه المبادئ والركائز، كانت تحقق نجاحاً وتتغلب على الكثير من الصعوبات التي واجهتها وأبرزها الحصار السياسي والمالي والاعلامي الذي ضرب على المؤتمر منذ تأسيسه وأدى الى سوء فهم لمعنى هذه التجربة الوحدوية الحضارية ومقاصدها مما سمح لكثيرين من المتضررين منها أن يسعوا لشيطنتها وتشويه صورتها.
لقد حرص المؤتمر على مدى ثلث قرن أن يكون جامعة شعبية عربية مرجعها الشعب العربي وأمانيه وأن يؤكد للجميع انه ما دامت نخب الأمة قادرة على الاجتماع في تجربة وحدوية ونهضوية واحدة من مغربهم الى مشرقهم، فإن أمتهم قادرة على تحقيق وحدتها ونهوضها.
معن بشور كاتب عربي