ثلاث تطوّرات على درجةٍ عالية من الأهميّة، اثنان منها كان مسرحهما الأراضي السوريّة، أمّا الثالث فلهُ علاقة مُباشرة بالحرب الأوكرانيّة، ويُمكن أن تقود بطريقةٍ أو بأخرى، إلى المُواجهة العسكريّة المُباشرة بين الولايات المتّحدة وخصمها الروسي العنيد.
الأوّل: تأكيد صحيفة “وول ستريت جورنال” المُقرّبة من البيت الأبيض اليوم السبت، نقلًا عن مصادر عسكريّة موثوقة، أن طائرتيّ “سوخوي” روسيّة مُقاتلة شنّت هجمات على قاعدة “التنف” العسكريّة الأمريكيّة الواقعة على مُثلّث الحُدود السوريّة العِراقيّة الأردنيّة، وجاء هذا القصف ردًّا على زرع عناصر تابعة لـ”جيش مغاوير الثّورة” المدعوم أمريكيًّا قُنبلة في إحدى الطّرقات التي تستخدمها القوّات الروسيّة ممّا أدّى إلى وقوع إصابات في صُفوفها.
الثاني: قصف إسرائيل لمطار دِمشق الدولي بعدّة صواريخ فجر الجمعة الماضي، وإخراجه من الخدمة كُلِّيًّا، الأمر الذي أحرج وأثار غضب القيادة الروسيّة في موسكو، وجاء هذا القصف تحت ذريعة منع إيران من تهريب معدّات تكنولوجيّة حديثة إلى حزب الله اللبناني يُمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في تحويل صواريخ الحزب القادمة إلى صواريخٍ دقيقة وتضرب بدقّة منصّات إخراج الغاز ومحطّات التحلية والماء والكهرباء الإسرائيليّة.
الثالث: إعلان إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطيّة عن نواياها بتزويد الجيش الأوكراني بصواريخ “هيمارس” لاستخدامها في قصف القوات الروسيّة التي أحكمت سيطرتها على إقليم دونباس جنوب شرق أوكرانيا.
***
القيادة الروسيّة أعربت عن غضبها الشّديد بسبب إقدام “الصّديق” الإسرائيلي على قصف مطار دِمشق الدولي، وأدانت هذا العمل بقوّة، واستدعت السّفير الإسرائيلي في موسكو وسلّمته رسالة احتجاج شديدة اللّهجة، وهذا ليس جديدًا وليس الاستدعاء الأوّل من نوعه على أيّ حال، وقد يكون جاء لامتصاص حالة الغضب الرسميّة الشعبيّة السوريّة، لكنّ الجديد أن تقصف طائرات “السّوخوي” قاعدة “التنف” الأمريكيّة العسكريّة، في رسالةِ إنذارٍ شديدة اللّهجة، وللمرّة الأولى، اللهمّ إلا إذا كانت روسيا تقف خلف القاعدة بصواريخ أطلقتها منظومة الحشد الشعبي العِراقيّة المدعومة إيرانيًّا في شهر تشرين أوّل (أكتوبر) عام 2021، وهو احتِمالٌ ضعيف.
من غير المُستبعد أن يكون قصف قاعدة التنف “رسالة إنذار عمليّة” للإدارة الأمريكيّة، لتحذيرها من تنفيذ وعودها بتزويد الجيش الأوكراني بصواريخ “هيمارس” ذات القُدرة التدميريّة العالية جدًّا (استخدمتها القوّات الأمريكيّة في حربيّ العِراق)، فالرئيس فلاديمير بوتين هدّد شخصيًّا بقصف أيّ شُحنات من هذا النّوع من الصّواريخ الأمريكيّة التي وصفها بأنّها تُشَكِّل تدخّلًا أمريكيًّا في هذه الحرب وقد يتطوّر إلى مُواجهاتٍ عسكريّةٍ مُباشرةٍ بين القُوّتين العُظميين، فروسيا تُراقب الحُدود الأوكرانيّة بدقّة، وتملك تفَوَّقًا جويًّا مُؤكَّدًا في هذه الحرب انعكس في ميادين القتال.
أمريكا، وكُل الدول الغربيّة الأعضاء في حِلف “الناتو” تعهّدت بتزويد أوكرانيا بطائراتٍ حربيّة ودبّابات ومدرّعات، ولكنّها لم تفِ بوعودها لأمرين أساسيين: الأوّل تجنّب المُواجهة المُباشرة مع موسكو، والثاني صُعوبة إيصال هذه الأسلحة الثّقيلة لقُدرة روسيا على ضربها قبل وصولها، ولهذا تمّ الاكتفاء بإرسال أسلحة خفيفة وصواريخ محمولة على الكتف مِثل صواريخ “جافلين” لضرب الدبّابات، و”ستينغر” لضرب المروحيّات والمُقاتلات.
***
قاعدة “التنف” العسكريّة الأمريكيّة قطعت طريق الإمداد البرّي الرئيسي الذي يربط بين طِهران وسورية ولبنان عبر العِراق، الأمر الذي جعل من إيران وحُلفائها التّعويض بالاعتماد على مطار دِمشق الدولي، حسب بعض التقارير الغربيّة، وهُناك احتمال قويّ يُرَجِّح أن يكون القصف الروسي لهذه القاعدة جاء كرَدٍّ مُباشر على قصف المطار، وإن كانت “الحُجّة” الرّد على حادثة زرع الألغام في طريق القوّات الروسيّة من قبل جماعة مُسلّحة مدعومة أمريكيًّا.
المُواجهة العسكريّة المُباشرة بين روسيا وأمريكا على الأرض الأوكرانيّة، وربّما السوريّة أيضًا، باتت وشيكةً أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ولعلّ تقاطر الزّعماء الأوروبيين إلى كييف (ماكرون الفرنسي، وشولتز الألماني، وجونسون البريطاني) هو مُحاولة لتجنّب هذه المُواجهة، وإقناع زيلينسكي، أو بالأحرى إبلاغه، بضرورة الرّضوخ للمطالب الروسيّة وتقديم تنازلات أرضيّة للرئيس بوتين في إقليم دونباس (خُمس الأراضي الأوكرانيّة) والتّنازل عن المُطالبة بشبه جزيرة القرم، والتخلّي كُلِّيًّا عن طُموح الانضمام لحلف الناتو، وهي الأفكار التي طرحها هنري كيسنجر وزير الخارجيّة الأمريكي الأسبق في خِطابه بمُنتدى دافوس الاقتصادي، لإيمانه بأنّ الغرب سيخرج مهزومًا من الحرب الأوكرانيّة، ومن الحكمة تقليص الخسائر إذا تعذّر النّصر.. واللُه أعلم.
عبد الباري عطوان