في شهر آب/أغسطس 2008، قدم وزير الأمن الصهيوني آنذاك آفي ديختر محاضرة في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي عن الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة، تناول خلالها الرؤية الاستراتيجية للكيان الصهيوني تجاه 7 دول، هي فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وإيران ومصر والسودان.
لخص ديختر الرؤية الاستراتيجية الصهيونية تجاه هذه الدول في مقولته: "إن إضعاف تلك الدول واستنزاف طاقاتها وقدرتها هو واجب وضرورة من أجل تعظيم قوة إسرائيل، وإعلاء منعتها في مواجهة الأعداء، وهو ما يحتم عليها استخدام الحديد والنار تارة، والدبلوماسية ووسائل الحرب الخفية تارة أخرى".
وقال إن السودان بموارده ومساحته الشاسعة من الممكن أن يصبح دولة إقليمية قوية منافسة لدول مثل مصر والعراق والسعودية، وإنه يشكل عمقاً استراتيجياً لمصر، وهو ما تجسّد بعد حرب 1967، عندما تحول إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري والقوات الليبية، كما أنه أرسل قوات مساندة لمصر في حرب الاستنزاف عام 1968. وبناء عليه، بحسب ديختر:
- لا يجب أن يسمح لهذا البلد بأن يُصبح قوةً مضافةً إلى قوة العرب.
- لا بدَّ من العمل على إضعافه وانتزاع المبادرة منه لمنع بناء دولة قوية موحدة فيه.
- سودان ضعيف ومجزأ وهشّ أفضل من سودان قوي وموحّد وفاعل.
- ما سبق يمثل من المنظور الاستراتيجي ضرورة من ضرورات الأمن القومي الإسرائيلي.
منذ حدوث التغيير -المستحقّ- الذي أطاح نظام المشير عمر البشير في نيسان/أبريل 2019، انكشف السودان أمام الخارج بمخابراته وخططه ومخططاته، فسيطرت دولة إقليمية صغيرة على المشهد السوداني بالتعاون مع بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي والكيان الصهيوني، وتمكّنت هذه الدويلة من إدارة الشأن السوداني وتشكيل مؤسسات السلطة الانتقالية واختيار اللاعبين الأساسين فيها.
وبعد تشكيل السلطة الانتقالية، بدأت ملامح تنفيذ المخطط الصهيوني الغربي الذي تحدث عنه آفي ديختر، وذلك مع بداية انطلاق عمل هذه السلطة، إذ التقى رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس وزراء الكيان الصهيوني في عنتبي في شباط/فبراير 2020، ثم عقدت القمة الرباعية التي جمعت البرهان وحمدوك بنتنياهو وترامب، أعقبها قيام مجلس الوزراء بإلغاء "قانون مقاطعة إسرائيل" الساري المفعول منذ عام 1967، ثم مبادرة مجلس الوزراء إلى التوقيع على "اتفاقية أبراهام"، ثم الحديث مع الجانب الإسرائيلي عن التعاون المشترك في جوانب مختلفة، من بينها إقامة مشروعات زراعية في مواقع قرب النيل وموقع في شرق السودان يشتبه في أنه يراد له أن يحمل الطابع الصهيوني الذي يجمع بين الاستيطان والإنتاج، وخصوصاً أنَّ بعض المرويات التراثية الصهيونية تتحدَّث عن قداسة الأرض المقترح إقامة المشروع عليها وملاءمتها لتكون مستوطنة تجمع بعض الفلاشا الذين ضاقت بهم أرض فلسطين وأولئك المقيمين داخل إثيوبيا، وذلك من خلال تعاون عربي وإقليمي، وبمباركة من حكومة حمدوك.
قبل ذلك، شهد السودانيون حذف اللغة العربية من الدستور الانتقالي كمدخل رئيس لتغيير هوية السودان وتاريخه وتوجهاته، حين أصرّ تحالف الحرية والتغيير على حذفها، وتبع ذلك تغيير المناهج الدراسية التي أعيد تصميمها لتخدم هدف تغيير الهوية الحضارية للناشئة من تلاميذ السودان وطلابه، ولتغذيتهم بالفكر والقيم الغربية من زوايا تخدم هدف التغيير الأخلاقي من جهة، وتخدم هدف الاستلاب الثقافي والسياسي من جهة أخرى.
وقد هدف المنهج الجديد الذي وضعته حكومة الحرية والتغيير إلى نسف قضية الاستقلال الوطني كقيمة ومبدأ من مسيرة البناء التي تعمل المناهج الدراسية على غرسها وترسيخها في نفوس الناشئة، فحذفت من تلك المناهج الدراسية كل ما له صلة بفلسطين، بل حذفت الدروس الخاصة بالثورة المهدية التي تعتبر أول ثورة شعبية سودانية ناهضت الاحتلال الأجنبي للسودان وهزمته.
قبل أن يفيق السودان والسودانيون من أثر تلك الصدمات، تفاجأوا برسالة أعدها السفير البريطاني في الخرطوم، ووقعها عبد الله حمدوك رئيس الوزراء، وأرسلها سراً إلى الأمين العام للأمم المتحدة، طلب فيها إنشاء بعثة أممية خاصة بالسودان تعمل من أجل إعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية على نحو جديد، ووفق فلسفة جديدة، ومن أناس جدد، لصياغة حاضر السودان وفق أسس جديدة، وإعداد دستور جديد ودائم لحكم السودان للمساهمة في صناعة مستقبله على فلسفة جديدة، وتحقيق السلام مع الحركات المسلحة في دارفور والنيل الأزرق، والمساهمة في معالجة الأزمة الاقتصادية كذلك بناء على مرجعية جديدة. وقد وافق مجلس الأمن على هذا الطلب، وأنشأ البعثة التي ظلت تدير الشأن السوداني بكل تفاصيله منذ أكثر من عام وحتى الآن، في انتهاك صارخ للسيادة الوطنية.
وما لبث أن اتفقت الحكومة الانتقالية مع البنك الدولي على اعتماد فلسفته كفلسفة حاكمة للمسار الاقتصادي السوداني، وقبلت برنامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كمرجعية اقتصادية، وأتبعت ذلك بتحرير سعر العملة الوطنية، وتحرير الأسعار، ورفع الدعم عن المحروقات والأغذية والتعليم والدواء والعلاج، وعن العلاج المجاني للأطفال دون السادسة، ومرضى السرطان وأصحاب الأمراض المزمنة، وحالات الولادة القيصرية والطبيعية، فأصبحت الحياة ضرباً من ضروب المستحيل، فزادت نسب الفقر، وازدادت نسب ارتكاب الجرائم، وتراجع المستوى القيمي العام للسكان.
وقد صاحب كل ذلك مهددات خارجية إضافية، منها ما يتصل بمحاولات الدولة الإقليمية الصغيرة الراعية للسلطة الانتقالية الهادفة إلى السيطرة على الساحل السوداني على البحر الأحمر والموانئ السودانية الواقعة عليه، ثم السيطرة على الأراضي الزراعية والمعادن، وبخاصة معدن الذهب.
ومن هذه المهددات أيضاً مشروع التغيير الديموغرافي الذي بدأ منذ عقود، والذي تزايدت مخاطره بشكل ملحوظ أثناء الفترة الانتقالية هذه بالزيادة الكبيرة في نسب الهجرة (المنظمة) من غرب أفريقيا وشرقها، الأمر الذي يهدد بحدوث انقلاب ديموغرافي وشيك يتزامن معه تغيير ديموغرافي في شمال السودان بصفة عامة، وبشكل خاص في الولاية المتاخمة للحدود المصرية، وفي مناطق أخرى لا تقل أهمية عن هذه المنطقة.
ومن المهدّدات البالغة الخطر، رعاية الغرب لبعض الحركات التي تحمل السلاح، والتي رفضت الدخول في العملية السلمية، ودعمه هذه الحركات حتى تتمكن من فرض رؤيتها الأحادية حول هوية السودان وتوجهاته الاستراتيجية أو دعم الانفصال عنه في حال لم تنجح في ذلك.
وفي هذا السياق، يحتضن الغرب بعض الأصوات التي تنادي بتحرير السودان من العروبة والعرب، وبتقسيمه إلى دويلات، الأمر الذي دفع طيفاً واسعاً من المثقفين في وسط السودان وشماله وشرقه إلى الدعوة لعودة حدود السودان إلى ما كان عليه إبان حكم السلطنة الزرقاء الممتدة من كردفان غرباً وحتى البحر الأحمر شرقاً، ومن طرفي الشريط المائي الممتد من سنار جنوباً حتى الحدود المصرية شمالاً، وهو أمر خطر، لكونه يصنع الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، ويؤسس لوضع جيوسياسي جديد يضع نهاية للكيان السوداني الواحد المتحد.
إنَّ السّودان خلال حقبة الحكم الانتقالي يعيش حالة من الضعف والعجز وفقدان الإرادة لم يسبق لها مثيل، وحاله هذا يشي ببداية تحقق ما أراده الصهاينة وكشف عنه آفي ديختر في محاضرته.
محمد حسب الرسول باحث في الشؤون الإقليمية