الفصل الثالث: حصاد التسول
السيد اطول عمرو إذا طلبت منك ان تلخص لي ما الفائدة التي قد تحصلت عليها من ممارسة مهنة التسول طيلة هذه المدة التي مارستها فيها ، و هل كان الناس يستجيبون لظروفكم و نداءاتكم المتكررة بسخاء . فقال فليس الأمر كما يتصور البعض عن تجاوب الناس مع نداء المتسول, ولكن الذي ظهر لي خلال هذه المدة الطويلة نسبيا من عملي المتواصل في مهنة التسول فهو كون الرياح ربما أحيانا تجري بما لا تشتهي السفن ، وذلك لأن الناس حسب ما لاحظت منذ أن ( أدمجني ) الواقع وكذا كتابة الدمج في هذه المهنة في زمن لم يعد الناس فيه يقرضون الله القرض الحسن . بل العكس من ذلك صاروا يكرهون من صميم قلوبهم كل من يلتمس ذلك القرض أويسعي إليه , وإن أعطوه شيئا من ذلك القبيل فلن يغني من جوع ، لأنه في الأغلب الأعم فسيكون بعض الأطعمة الزائدة عن الحاجة والتي قد كانت في طريقها إلي صندوق القمامة إن وجد ! أو بعض الأسمال التي لا تستر حتى عورة متسول !
وبعملي هذا صرت أتولى عن البلدية بعض مهامها دون تعويض وذلك بأخذي لهذه الأ وساخ من منازل الناس والذهاب بها إلي مكاني هذا حيث أنفق ساعات طوال من الليل والنهار في تصنيف ما جمعت طيلة اليوم وعزل كل صالح منه عن فاسد وأحيانا أرميه بكامله في مكان تجميع القمامة لعدم فائد ته , وقد أبيت بعض الليالي محتزما على خوى الأمعاء استمع الى صوت صريرها و أقتات ريق الشيخوخة في خلوتي الموحشة هذه كما ترى . فقلت له فلم لو انتظرت كتابة الدولة لدمج المسفرين لعلها تجد لك ما هو أفضل مما أنت فيه ؟ فقال لي إن كتابة الدولة بل الدولة نفسهاهي التي أرغمتني على ما أنا فيه . ومن المحزن و المؤسف في نفس الوقت بأنها سوف تضم إسمي إلى قائمة المدمجين في الحياة النشطة كما هم يقولون حين يمدحون القيادة الوطنية الرشيدةَ! إن الدولة بسدها لباب التوظيف والعمل أمام الناس فما هي في الواقع إلا تسهم بذلك على ممارسة خرق القانون تماما حسب طبيعة الشخص وكذا ظروفه وفي معظم الأحيان وبصفة خاصة منهم في سني على ممارسة مهنة التسول المتعبة والمحدودة المردوديةً !
إن ربحي من هذه العملية وأقولها صادقا بأنه لا يغني من فقر . فهذا من جهة ، ومن جهة ثانية فإن قوتي قد بدأت تنتهك تدريجيا بسبب العمل الشاق والمتواصل الذي أمارسه طيلة اليوم عكس ما يتصور البعض ، ولما في ذلك من سير على الأقدام ولعدة ساعات ولمسافات بعيدة مع حمل أثقال مخلة التسول البغيضة ، وأشار إليها بسبابته اليمني، وهي مكومة بجانبه، مع تمدد عضلات جسمي و كذا هشاشة عظامي و قد أصبح ينتابني إرتعاش حاد ودائم في مفاصلي ، الشيء الذي أفقدني شهية الطعام بإستمرار إن وجد لدي منه ما قد يفتح الشهية أصلا . ثم توقف عن الحديث دقيقة أو دقيقتين ليشرب كأسه الثالثة وقد انتظرته حتى أكمل شربها وتلمظ في طعمها بصوت مسموع وأفتر باسما عن أسنان قد توزعت بين فكيه دون انتظام ، والتفت إلي قائلا : بعيدا عما كنا فيه من حديث، ممل ومتعب ، فشهادتي بالله بأنك من أمهر ما يصنعون الشاي الموريتاني .
فقلت له شاكرا شهادة أعتز بها ولكن قل لي فهل ما زلت بعد كل ما ذكرت من متاعب التسول ترغب في مواصلة العمل فيه . فأجاب بسرعة ممتعضا قائلا "أوه" لا أبدا ولكن مكرها على ذلك بسبب ظروفي التي ذكرت لك والتي لم تتغير بعد.
فقلت له فماذا يكرهك على ممارسة هذا العمل الذي لا ترضاه ما دمت حر الإرادة ؟ فقال عن أي حرية تتحدث، أوأي إرادة ؟! فهل أنا حر حقا من وجهة نظرك ؟ وهل لدى مثلي أمام هذه الظروف السيئة مجتمعة التي ذكرت لك من إرادة أو حرية ؟ إني بلا تردد فسوف أستمر في ممارسة التسول إلى أن تتغير الظروف. فقلت له وهل هناك من ملامح تلوح في الأفق القريب تذكر لتغيير هذه الظروف؟ فقال ولا في الأفق البعيد ما دام شعبنا ممسوخ الهوية فاقد الإرادة يعيش تحت تخدير الأماني الممارس عليه من طرف حكوماته المتعاقبة سواء منها العسكرية أو شبه المدنية و التي تتفنن كلها في خداعه . فقلت له إذن فما هو العمل؟ فقال أن أتابع التسول. فقلت له إلي متي ذلك؟ فقال سوف أظل أمارسه لكي أعيش يوما آخر، أوعدة أيام ولكن في الحقيقة لا أدري لما ذا أنا مصر علي البقاء كما تري والنهاية معروفة سلفا وحتمية نرجو حسن الخاتمة. رحماك يا رب. والله هو من قدرلي ظروفي هذه التي ألجأتني إلى هذا العمل ! والذي أتمنى ان يعوضني ربي عما لم استطع تحقيقه في هذه الدنيا وقد رغبت في الحصول عليه ، و تعبت من أجله ! وأن يكون مدخرا لي في الآخرة ماهو أفضل منه بكثير . وربما قد يكون سبب تشبثي بهذه الحياة المرة هو من جملة الخداع التي كنت أخادع بها نفسي في مختلف مراحل عمري. حيث قد كان يخيل إلي بأنه بإمكاني أن أخادع الحياة لكي أنال من نعيمها ما أشتهي بالحيلة وأبتعد عن آلامها بنفس الحيلة.
وهنا توقف عن الحديث فأجأة كمن كان يقرأ شيئا ما في ورقة وقد جذبتها الريح منه ولم يتذكر ماذا كان يقول ! ثم اكتسى لون وجهه لحظتئذ بشحوب وإرهاق شديدين وكأن سنوات عمره قد تضاعفت فجأة بسبب تعبه من إعتصار ذكرياته من دماغ لم يتعود التفكير الجاد مطلقا في مثل ما تناولنا من أحاديثة متشعبة في بعض مجالات الحياة . وقد بدأت نظراته تدور من حول كينونته و كذا من حولي وكأنه يريد أن يقول في جمل مضغوطة يلخص فيها كل ما يخالج طويته من أحاسيس قد ظلت مكبوتة داخلها ، والآن وقد صار وقت التعبير يضيق عن معظمها جملة وتفصيلا تجلى ذلك واضحا من خلال تردد بصره الكليل بيني وبين ذاته عدة مرات ، وكأنه لا يريد نهاية لذلك الحديث الودي بيننا خوفا من فراقنا الوشيك ، لأنه كما يبدو متعبا من وحشة الخلوة والفراغ المؤلمين وربما يريد من يظل يكلمه طيلة الوقت أو يستمع إليه لليخفف مخزون ذاكرته المليئ بتجارب ما يقارب قرنا من الزمن .
وأخيرا وأنا أتابع حركاته بجد لاحظت من خلال وجهه شبه المستطيل الذي تتداخل الظلال فيه جراء تعاقب لهيب الشمس وزمهرير البرد كصورة فوتوغرافية أعيد تركيبها بغراء غير لاصق ، كما قد اكتسي ذلك الوجه أيضا بلون الأسى الشاحب وبدأ يبسط يده اليمني على صفحة وجهه وكأنه يمسح بهاغبار الزمن العالق بها ، ويده اليسرى تطلع مع ذلك الوجه وتنزل حتى تستقر على عثنون لحيته الذي قبضت عليه عدة مرات وفركتها عنه ملاعبة خصلات شعر لحيته تلك ، التي تشبه لحى الرهابنة الصيين , ثم تلعثم بعبارات إذا حذف منها دعاء خاتمة المجلس فلن يبقي منها سوى كلمات لو أصيغت جيدا لكانت قريبة جدا من ترجمة حاله الذي لا يعلمه إلا الله ، والذي تعبرعنه تلك الحكمة القديمة القائلة : (كنت أخادع الحياة لكي أعيش كما أريد ولكن في الحقيقة خدعت نفسي وعشت كما أرادت الحياة) !
وفي الختام فلقد لملمت عدة وريقات كانت بحوزتي أدون عليها ما قد سمعت من اطول عمرو تلك الليلة لأصيغها لاحقا بحسب مقتضى مرامها . ثم قد ودعته مصافحا إياه على ضوء قنديل قد كانت تراقصه الرياح أثناء تبدده عنا عتمة ذلك الظلام الدامس داخل تلك الغرفة الموحشة والتي رددت بصري وأنا خارج منها فإذا بها تحتوي على حصير قديم ووسادة رثة وقدح من شجرة (دنبو) وصينية موا عين وكانون فحم وقدر و راديو وثياب رثة معلقة هنا وهناك على المسامير وفردة نعل واحدة ثم قد تركت له مايقوم به أوده عدة أيام وهو مستريحا من و عثاء الترحال و إحراج الناس بإظهار الحاجة إليهم وهو مقيما في مقر سكنه ذلك .كما قد تركته هو الآخر يحاول جمع شتات ذكرياته بعد أن فرقها على قرابة ثمانين سنة قد خلت من عمر ذلك النموذج الوطني طيب القلب ذي الأريحة والذي وإن كان شبه أمي إلا أن تجاربه في الحياة حلوها و مرها قد علمته أكثر من مجرد القراءة و حتى الكتابة . بل يمكن القول بأنه أكثر تطلعا وأوضح رؤية في كثير من الأمور من بعض خريجي مدارسنا وكذا أيضا معاهدنا الوطنية اليوم للأسف ، وقد ذهبت عنه وأنا مختلط في ذهني ماسمعت منه ليلتئذ، جراء طول سهرتنا تلك التي قد دامت وحتى سمعنا صياح ديكة الحي ونباح كلابه ، وكذا صوت المؤذن المنبعث من مسجد كان قريبا منا داعيا الناس إلى صلاة الفجر وهو مرددا بعد الشهادتين قائلا حي على الصلاة حي على الفلاح ، من صبيحة ذلك اليوم الموافق للعاشر من شهر يوليه من سنة 1995 م في مدينة نواكشوط ، حيث قد مرعلى أول انقلاب وقع في بلادنا ، منذو سبعة عشر سنة قد خلت من تاريخ ذلك اليوم بالتمام والكمال !
إسلمو ولد مانا .