تبقى تطورات الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا في وسط شرق أوروبا منذ يوم 24 فبراير 2022 طاغية على بقية الأحداث في العالم بسبب تداعياتها الكبيرة على الأوضاع العسكرية والاقتصادية والسياسية في كل بلاد المعمور، وكذلك بسبب خطورة توسعها ميدانيا لتشمل مناطق أخرى من القارة الأوروبية أو أن تتحول إلى حرب عالمية ثالثة ونووية خاصة بعد تدخل واشنطن شبه المباشر فيها.
البعض يرى في هذه الحرب امتدادا لصراعات عسكرية نشبت داخل الحدود الجغرافية السابقة للاتحاد السوفيتي بعد تفككه سنة 1991 حيث تسعى موسكو لتعديل ترسيم الحدود بين الجمهوريات السوفيتية السابقة لتراعي التوزيع السكاني على أسس القومية واللغة والتي لم يكن يعمل بها داخل الاتحاد السوفيتي، فالتقسيم كان في ذلك الوقت عملية إدارية صرفة.
بعد أن استقطب الغرب سواء عبر الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي دول شرق أوروبا التي كانت جزء من الكتلة الاشتراكية الأوروبية والعضوة في حلف وارسو، تركز اهتمامه على تحقيق مكاسب في الجمهوريات السوفيتية السابقة خاصة جمهوريات البلطيق الثلاث إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا التي كانت جزء من الإمبراطورية الروسية حتى نكستها في الحرب العالمية الأولى ثم استعادتها في ظل حكم ستالين وكذلك في جورجيا وأوكرانيا. تقارب حلف الناتو مع هذه الجمهوريات بضمها أو بترشيحها لعضويته أشعل نيران صراع خطر ودق ناقوس الإنذار في الكرملين الذي قدر أن الولايات المتحدة مستمرة في تشديد الحصار حول روسيا الاتحادية لإضعافها وحتى السعي إلى تفتيتها إلى مزيد من الكيانات الصغيرة. في آسيا الوسطى تمكن الكرملين من وقف توسع النفوذ الأمريكي في جمهوريات أوزبكستان وكازاخستان وتركمانستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وأدمجها في رابطة مع روسيا الاتحادية، ولكن الأمر لم يكن بهذا الشكل في أماكن أخرى.
في جورجيا حسم نزاع مسلح شاركت فيه روسيا سنة 2008 بعد إعلان منطقة أوسيتيا الجنوبية استقلالها عن جورجيا التي كانت على وشك الانضمام إلى الناتو، وفي سنة 2014 نشبت حرب القرم بين أوكرانيا وروسيا، هذه الحرب لم تنته عمليا فطوال ثمان سنوات خاضت قوات جمهوريتا دونيتسك ولوغانسك اللتين يتشكل سكانهما من أغلبية روسية مواجهات عسكرية متقطعة مع جيش كييف تم خلالها وضع خطة تسوية عبر اتفاقيات مينسك التي لم تنفذ مما قاد إلى الحرب الواسعة الجديدة.
في المواجهات السابقة فرض الكرملين إرادته رغم الحصار والعقوبات الغربية، في حرب فبراير 2022 الأوكرانية يعمل الكرملين على تكرار انجازاته السابقة في حين يرى الغرب وخاصة الولايات المتحدة أنه إن لم تتكبد روسيا هزيمة فسوف ينهار النظام العالمي الأحادي الذي ولد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بداية العقد الأخير من القرن العشرين وسيبرز نظام متعدد الأقطاب بكل تبعياته العسكرية والاقتصادية والسياسية المنهية للهيمنة الأمريكية على العالم.
نتيجة ضخامة الرهانات في حرب فبراير 2022 يتكثف تدخل حلف الناتو وفي مقدمته الولايات المتحدة بالسلاح والمال والمعلومات لمساندة كييف عسكريا إضافة إلى فرض حصار اقتصادي شبه شامل ضد روسيا. التصعيد بين المعسكرين مستمر وبوتيرة متنامية وصلت إلى حد تلويح الجانبين باللجوء إلى الخيار النووي.
ما بين المواجهة العسكرية الصرفة وعملية تكسير العظام على الصعيد الاقتصادي والتي لم يكسبها الغرب حتى الآن، يبقى سؤال كبير مطروحا حول الأهداف الأساسية للعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وخطر الانعكاس العكسي للصراع الاقتصادي على النظام المالي الدولي المعروف بهيمنة الدولار الأمريكي.
محاولة للتعاطي مع الأزمة بتوازن
جاء في تقرير نشره موقع "ميدل إيست آي" البريطاني يوم 27 أبريل 2022:
منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، والغرب يعتبر أي محاولة للتعاطي مع الأزمة بتوازن خيانة ويتعامل بمنطق مفاده "إما أن تدعم النضال الأوكراني البطولي ضد روسيا الوحشية، أو تكون عميلا لبوتين".
هذا ما يراه الدبلوماسي الإيطالي السابق ماركو كارنيلوس في مقال له ويتساءل فيه كيف أصبح التفكير الغربي ضيقا إلى هذا الحد؟.
ويقول كارنيلوس إن الحرب في أوكرانيا تنحو نحو التصعيد في ظل تصميم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخروج منها بمكاسب إقليمية لبلاده، وتصميم الغرب على منع حدوث ذلك.
ويشير المقال إلى أن واشنطن قد تخلت مؤخرا عن التردد الذي كان يساورها بشأن إمداد كييف بالسلاح، فتدفقت الدبابات والمدفعية الثقيلة والطائرات المقاتلة نحو أوكرانيا.
كما تحقق روسيا الآن في أعمال "تخريب" قامت بها عناصر من القوات البريطانية على الأراضي الأوكرانية، مما يعني أن القوات البريطانية قد تكون مشاركة في الصراع ضد القوات الروسية.
ويرى الدبلوماسي الإيطالي السابق أن الخط الفاصل بين الحرب بالوكالة والمواجهة المباشرة في الحرب بين روسيا وحلف الناتو قد أصبح الآن رفيعا للغاية. وأن تصريحات الجانبين التي تؤكد الاستعداد لمواصلة الحرب توضح أنه لا مجال للدبلوماسية في المستقبل المنظور.
وقد وصل الأمر حد اقتراح القائد الأعلى السابق لحلف الناتو في أوروبا، فيليب بريدلوف، أن يرسل الحلف قوات إلى أوكرانيا، وقال إن الخشية من أن يستخدم بوتين أسلحة نووية ينبغي ألا تمنع الناتو من التدخل.
لعبة عبثية خطيرة
ولإبراز حجم الانقسام الدولي حول الموقف من الصراع، وتعصب الغرب للموقف الذي يريد حمل باقي الدول على تبنيه، يرى الكاتب أن حلف الناتو والاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع يعملون جاهدين على جعل روسيا منبوذة دوليا. في حين تحافظ دول مثل البرازيل والهند والصين وجنوب أفريقيا بالإضافة إلى ما يسمى بالجنوب العالمي على مسافة ملحوظة من الأزمة، خاصة فيما يتعلق بالحرص على الابتعاد عن تبني رواية الغرب حول الحرب.
ويقول كارنيلوس إنه صحيح أن الغالبية العظمى من أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أدانت غزو بوتين لأوكرانيا، كما تم تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، ولكن أعضاء الناتو والاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع فقط هم من تبنوا عقوبات ضد روسيا.
وخلال اجتماع وزراء مالية مجموعة العشرين لم يتبع أي وزير أعضاء الوفود الأمريكية والكندية والبريطانية والأسترالية التي غادرت القاعة احتجاجا على وجود ممثلي روسيا. كما لم يغادر مسؤولو الاتحاد الأوروبي القاعة إلا خلال خطاب ممثل موسكو. في حين صدت إندونيسيا، التي تتولى رئاسة مجموعة العشرين، والصين اقتراحا بطرد روسيا من المجموعة.
ويذكر الكاتب إنه في ضوء هذه المخاطر الكبيرة والانقسامات العميقة، قد يعتقد المرء أن مواقف اللاعبين الرئيسيين في المجتمع الدولي قد اتخذت بعد نقاش شامل وتفكير نقدي يزن الأمور، لكن ذلك النقاش لم ينطلق بعد خاصة في أوروبا.
ويرى أن الصراع أصبح لعبة عبثية خطيرة، حيث يبدو أن روسيا وجدت نفسها -كما عبر عن ذلك بعض مسؤوليها- أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تخرج من الحرب منتصرة، أو تدمر. في حين لا يقبل الغرب حلا أقل من تغيير النظام في موسكو.
وقال الدبلوماسي الإيطالي السابق إن الغرب يتعامل مع الحرب بمنطق مشابه للمنطق الشهير الذي تعامل به الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 "إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهابيين".
وفي هذا الإطار يقول الكاتب إن أي محاولة لتقديم تحليل سياسي منطقي من قبل الغرب تعتبر خيانة. وقد تم النيل من أشهر العلماء المختصين في العلاقات الدولية، مثل جون ميرشايمر، وشوهت سمعتهم لمجرد تشكيكهم على نحو مدعوم بالأدلة في تصرفات سابقة وأوجه تقصير من قبل جميع اللاعبين الرئيسيين في الأزمة.
ويؤكد الكاتب أن الغرب لم يبذل أي جهد لمحاولة فهم ما إذا كانت مخاوف روسيا الأمنية ومزاعمها السياسية السابقة مبررة، وما إذا كان ينبغي للغرب أن يتعامل معها على نحو أفضل.
وختم الدبلوماسي الإيطالي السابق مقاله بالتذكير بأن الديمقراطيات تشتهر بطرح الأسئلة وإثارة الشكوك المشروعة. بينما تحتفظ الأنظمة الاستبدادية بتقليد طويل من قمع الرأي والنقاش، وفي الوقت الراهن يرى أن كلا طرفي الصراع يستخدمان التقنيات نفسها التي درجت عليها الأنظمة المستبدة.
عودة إلى الواقع
بعد امتلأت وسائل الإعلام الغربية أو تلك المحسوبة عليها بالأخبار والتحليلات عن تعثر العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا خلال الاسابيع الثمانية الأولى من المواجهة الموسعة، سجل تحول نسبي في تعاطيها خاصة بعد اعتراف أوكرانية وغربية بأن الكثير مما روج له كان كذبا ودعائيا بهدف رفع الروح المعنوية.
يوم 29 أبريل 2022 صرح مسؤول رفيع في البنتاغون، إن روسيا متأخرة عدة أيام عن الجدول الزمني الذي وضعته لخطتها في دونباس، "ولم تحقق هدفها بوصل الجنوب بالشمال لاصطدامها بمقاومة أوكرانية شرسة".
وأضاف المسؤول للحرة أن "هناك قتال في مناطق عدة في دونباس، والروس لا يزالون يحضرون الأجواء لمعركة واسعة وطويلة الأمد هناك"، مبينا أن "القوات الروسية تتحرك من ماريوبول شمالا لتطويق القوات الأوكرانية من الجنوب".
وكان وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن قال، الخميس 28 أبريل، إن الولايات المتحدة ستواصل تزويد أوكرانيا بالأنظمة الدفاعية الجوية التي أثبتت فعاليتها خلال الحرب التي فرضت عليها.
في نفس التوقيت وحسب وكالة رويترز أفاد مسؤول عسكري أمريكي كبير، إن الولايات المتحدة لا تعتقد أن هناك تهديدا باستخدام روسيا للأسلحة النووية على الرغم من التصعيد الأخير في خطاب موسكو.
وقال المسؤول الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته للصحفيين "نواصل مراقبة قدراتهم النووية كل يوم بأفضل ما نستطيع ولا نرى أن هناك تهديدا باستخدام أسلحة نووية ولا يوجد تهديد لأراضي حلف شمال الأطلسي".
وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد صرح يوم الاثنين 25 أبريل إن على الغرب ألا يقلل من شأن المخاطر المتزايدة لنشوب صراع نووي بشأن أوكرانيا.
وذكرت روسيا في وقت سابق أنها تخطط لنشر صواريخها الباليستية العابرة للقارات من طراز سارمات التي تم اختبارها حديثا، والقادرة على شن ضربات نووية ضد الولايات المتحدة بحلول الخريف.
بينما قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إنه لا يتوقع أن تدفع التطورات العسكرية الرئيس الروسي إلى استخدام أسلحة نووية تكتيكية، قائلا إن الرئيس الروسي لديه مجال للمناورة وإنهاء الصراع.
تطور مخيف
تتطور الحرب في أوكرانيا بسرعة إلى "صيغة مخيفة" بدأ الجميع يعترف بها، وقد تحمل مزيدا من المخاطر للمعنيين بالصراع، وفق تقرير لمجلة "سلات" الأمريكية.
ذكرت مجلة "سلات" إن الصراع يتطور إلى حرب بالوكالة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا، ما قد يكون مفيدا لأوكرانيا، لكنه بالمقابل أمر محفوف بالمخاطر.
وتتمثل المخاطر، بحسب المجلة، في أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، كلما بدا أن روسيا تخسر أكثر، كلما شعر أنه "مضطر إلى الهجوم بعنف شديد".
وتمت الإشارة إلى هذا التحول في مسار الحرب، الاثنين، من خلال تصريح لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، قال فيه إن "أهداف الولايات المتحدة في الحرب ليست فقط حماية أوكرانيا كدولة ديمقراطية ذات سيادة، ولكن أيضا إضعاف روسيا كقوة عسكرية".
وتشير المجلة إلى أنه "حتى بعض المسؤولين الأمريكيين فوجئوا بسماع أوستن يعبر عن الحقيقة بهذه الصراحة".
وأشار تقرير المجلة إلى تصريح سابق لبوتين في فبراير، حذر فيه من أن "كل من يحاول إعاقتنا" سيواجه "عواقب لم تواجهوها أبدا في تاريخكم"، وهو ما اعتبره كثيرون تهديدا باستخدام الأسلحة النووية.
وذكر بوتين في وقت لاحق إنه سيعتبر التدخل المباشر لحلف شمال الأطلسي تهديدا لروسيا مما يؤدي إلى نفس العواقب.
وتقول المجلة إنه لهذا السبب، لم يرسل الرئيس الأمريكي، جو بايدن، وغيره من القادة الغربيين قوات خاصة إلى أوكرانيا أو إقامة منطقة حظر جوي، إذ أن القيام بذلك يعني إعلان الحرب على روسيا، الأمر الذي قد يؤدي إلى اندلاع الحرب العالمية الثالثة.
لكن في الأيام الأخيرة، يقول التقرير، خففت الدول الغربية القيود المفروضة على الأسلحة الثقيلة. وحتى البرلمان الألماني الذي ابتعد لأسباب تاريخية عن أي نوع من التدخل في الحروب الخارجية، صوت بأغلبية ساحقة لصالح إرسال أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا.
والخميس 28 أبريل، طلب بايدن من الكونغرس 33 مليار دولار أخرى من المساعدات لأوكرانيا، ثلثاها للمساعدة العسكرية، وهو ما يكفي للحفاظ على استمرار المعركة لمدة خمسة أشهر أخرى، كما استند بايدن إلى قانون الإعارة والتأجير الذي يعود إلى حقبة الحرب العالمية الثانية لتسريع نقل الأسلحة من مخزون الجيش الأمريكي، ما يسمح بإعارة معدات عسكرية لدول أجنبية "يرى الرئيس أن دفاعها حيوي للدفاع عن الولايات المتحدة".
وربما ردا على ذلك، تقول المجلة، بدأ بوتين ينظر إلى الصراع على أنه حرب ضد قوة عظمى وليس فقط "عملية عسكرية" ضد أوكرانيا، وعين يوم الأربعاء، فاليري غيراسيموف رئيس هيئة الأركان العامة الروسية لتولي قيادة الهجوم في شرق أوكرانيا.
ووفق التقرير، فإن خطوة بوتين تعني أنه "أعاد تقييم طبيعة الحرب ورفع من رهاناتها".
وعلى الرغم من انسحاب القوات الروسية مؤخرا من المنطقة المحيطة بكييف، وتركز القتال الآن في منطقة دونباس بشرق البلاد، أطلقت روسيا صاروخي كروز على كييف بعد ساعات فقط من زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للعاصمة ولقائه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
وأنهت ضربة الخميس التي حصلت بعد أقل من ساعة على انتهاء مؤتمر صحافي لغوتيريش، فترة هادئة نسبيا عاشتها العاصمة الأوكرانية كييف ومنطقتها التي لم تتعرض لقصف منذ 17 أبريل.
ويشير توقيت الهجوم الصاروخي، وفق التقرير، إلى أن بوتين يعتبر الأمم المتحدة مؤسسة خارجية أخرى تصطف ضد روسيا.
كيف يتحرك الصراع الإستراتيجي ؟
جاء في بحث نشره موقع ساسة بوست يوم 28 أبريل 2022:
يمنح التقرير السنوي الصادر عن "المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية" بلندن، والذي يصدر في مارس من كل عام، المراقبين كما هائلا من البيانات والمعلومات حول تطور الإستراتيجيات العسكرية لأغلب دول العالم، وينصب تركيز المحللين على تلك الدول التي غالبا ما يحيط الغموض بنشاطاتها وإستراتيجياتها العسكرية، مثل روسيا والصين.
وبالنظر إلى أن صدور نسخة تقرير هذا العام، "التوازن العسكري لعام 2022"، قد ترافق مع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، فإن ذلك يدفعنا لتفحص الأجزاء الخاصة بروسيا في هذا التقرير، من أجل فهم أبعاد هذا الصراع ومستقبله، إذ من الضروري إلقاء نظرة على كيف خطَّطت روسيا لهذا الصراع إبان عام 2021؟ وكيف طور الغرب من إستراتيجياته للتكيف في مواجهة روسيا؟.
في يوليو 2021، أقر الرئيس فلاديمير بوتين العمل باستراتيجية الأمن القومي الروسية الجديدة، والتي تمثل تحديثا للوثيقة السابقة الصادرة في ديسمبر 2015، ولا تتعلق التغييرات الرئيسية في النسخة الجديدة بالمسائل العسكرية فقط، وإنما تتطرق إلى "قضايا أيديولوجية" معنية بمواجهة النفوذ الغربي.
إذ ترى الوثيقة أن بعض الدول تتطلع إلى "عزل روسيا" و"تدمير وحدتها الداخلية"، من خلال أنشطة موجهة من الخارج، بهدف تقويض العادات والمعتقدات التقليدية وإضفاء الطابع الغربي على الثقافة الروسية، كذلك شددت الوثيقة على "أمن المعلومات" بوصفها أولوية إستراتيجية وطنية، وذلك بعد ظهور التهديدات المتزايدة في البيئة الرقمية.
أمن أوروبا
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الوحيدة المذكورة في الوثيقة في سياق التحديات العسكرية لروسيا، ولا سيما في ظل احتمال قيام الولايات المتحدة بنشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في أوروبا وآسيا والمحيط الهادئ، كما انتقدت الوثيقة وجود البنية التحتية العسكرية للناتو بالقرب من حدود روسيا، وأشارت إلى أن "رغبة الدول الغربية في الاحتفاظ بهيمنتها" تزيد "الخلافات بين الدول، وتجعل الأمن العالمي أقل كفاءة".
وعلى صعيد آخر، ففي الأول من يناير 2021، تحول الأسطول الشمالي الروسي إلى منطقة عسكرية خامسة مستقلة ضمن القوات المسلحة للبلاد، ورغم أن الأسطول قد احتفظ منذ عدة سنوات بوضع مستقل، فإن إعادة تقنين وضعه تشير إلى تغييرات هيكلية كبيرة تتعلق به.
إذ تعكس هذه الترقية الأهمية المتزايدة الممنوحة لطريق القطب الشمالي والبحر الشمالي في الخطط الإستراتيجية لروسيا، وكان هناك لبعض الوقت تطلعات لتحسين البنية التحتية العسكرية لروسيا وانتشارها في القطب الشمالي.
وتشير الوثيقة إلى أن موسكو اعتبرت أن الجهود التي تركز على تغير المناخ والعوامل البيئية يمكن استخدامها ذريعةً لعرقلة التنمية الروسية في القطب الشمالي، لذلك، شهد شهر يناير 2021 قيام مقاتلات «MiG-31BM Foxhound C» بدوريات فوق أرخبيل القطب الشمالي "نوفايا زيمليا" كما أجرت الطائرات أيضا تجربة هبوط تجريبية على "ألكسندرا لاند" في أرخبيل "فرانز جوزيف لاند".
وكذلك جرى افتتاح المطار ذي السطح الصلب في عام 2020 في قاعدة "Nagurskoye" الجوية في "ألكسندرا لاند"، وهو ما يهدف إلى تمكين نشر الطائرات على مدار العام، وكانت هناك أيضا خطط لبناء حظائر لتخزين الطائرات وصيانتها، وفي مارس 2021، أجرى زوجان من طائرات "MiG-31BM" رحلة استعراضية من "Nagurskoye" إلى القطب الشمالي والعودة.
التحديث أولًا
شهدت ميزانية الدفاع الروسي زيادة طفيفة في عام 2021، فبعد أن بلغت 4.46 تريليون روبل (61.6 مليارات دولار أمريكي) في عام 2020، وصلت في 2021 إلى 4.59 تريليون روبل روسي (62.2 مليارات دولار أمريكي). ولكن بالنظر إلى بلوغ معدل التضخم نسبة 5.9 في المئة، فهذا يعني أن ميزانية البلاد انخفضت بالقيمة الحقيقية بنسبة 1.8 في المئة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن روسيا كانت قد سعت إلى زيادة أصولها المالية الخاصة بتطوير الذخائر وإنتاجها وإمدادها في إطار برامج التسلح الحكومية "State Armament Programs"، المعروفة اختصارا بـ(SAP)، وقد جرى التخطيط لبرنامج التسليح الحكومي الأول للفترة بين 2011 إلى 2020، وكان من المفترض –وفقا لوزارة الدفاع الروسية- أن الهدف الرئيسي لهذا البرنامج أن يكون 70 في المئة من مخزون الأسلحة الروسية من الأسلحة والمعدات "الحديثة".
وتشير التقارير إلى أن البرنامج نجح في تحقيق هدفه، إذ وصلت نسبة الأسلحة الحديثة ضمن الترسانة الروسية إلى 70.1 في المئة بنهاية 2020، و71.9 في المئة بنهاية عام 2021، ومن المتوقع أن تصل إلى 72.9 في المئة في نهاية عام 2023.
أما على صعيد صادرات الأسلحة الروسية، فيشير التقرير إلى أنها ظلَت مستقرة نسبيا في السنوات الأخيرة، وذلك على الرغم من فرض عقوبات أمريكية على بعض الدول التي اشترت أسلحة من روسيا، ورغم تأثير جائحة فيروس كورونا أيضا.
ويشار إلى أنه إذا جرى التعامل مع قطاع التصدير العسكري الروسي من منطق "التعاون العسكري الصناعي الشامل"، ليشمل بيع الأسلحة والمعدات العسكرية الأخرى، بجانب خدمات الإصلاح والصيانة والتدريبات، سنجد أن قطاع الصناعات العسكرية الروسية قد حقق تقدما ملحوظًا في عام 2020.
وفي يونيو 2021، توقع، "دميتري شوجاييف"، مدير الهيئة الفيدرالية للتعاون العسكري التقني في روسيا، أن إجمالي الصادرات في عام 2021 قد يصل إلى نحو 15 مليار دولار أمريكي، مع محفظة طلبات في بداية عام 2022، تزيد على 50 مليار دولار أمريكي.
وفي يوليو 2021، قال ألكسندر ميخيف، مدير عام "روس أوبورون إكسبورت" الشركة التي تدير معظم صادرات الأسلحة الروسية، إن معظم المعاملات ليست بالدولار ولكن بالروبل أو بعملات البلدان المشترية، مع الاستخدام المتزايد لاتفاقيات الأوفست، والتي تعني أن الدول المستوردة لا تدفع أموالًا مقابل صفقات التسليح، وإنما بضائع بديلة.
وهو أمر كان يأتي في ظل الجهود الروسية لتقليل استخدام الدولار في التجارة الخارجية من أجل تقليل تأثير العقوبات الأمريكية، وهي السياسة التي أفادت روسيا كثيرا في التعامل مع العقوبات الشديدة التي تتعرض لها حاليا إبان حربها ضد أوكرانيا.
بيئة تجارب مثالية
بناء على تجربة الحرب المستمرة لسنوات للجيش الروسي في سوريا، تعمل روسيا دوريا على تطوير وتحديث أسطول المركبات المدرعة الذي تمتلكه، إذ بدأت الدبابة الأكثر حضورا ضمن عتاد الجيش الروسي، طراز (T-72B3)، في تلقي إضافات وتحديثات مهمة لتطوير أداءها الميداني، خاصةً في حرب الشوارع، وللحماية من هجمات الدرونز.
كذلك قامت روسيا بتطوير عدد من الدرونز المسلحة، واختبرت بعضها في التدريبات وفي ميادين الحرب السورية، وأفاد المحللون الروس بأنه قد جرى تطوير مجموعة من الذخائر الموجهة، كذلك من المقرر، بحلول نهاية 2023، أن تتسلم روسيا 21 طائرة درونز من طراز "Inokhodets" المعروفة أيضا باسم (Orion)، والمصممة للهجوم جو-أرض وكذلك للمراقبة والاستطلاع الاستخباري.
وعلى صعيد آخر، جرى تطوير منظومة الصواريخ الإستراتيجية الروسية، وتحديدا الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وصارت التكنولوجيا الحديثة تدخل في 83 في المئة من مكوناتها، بعد أن كانت هذه النسبة لا تتعدى 40 في المئة خلال السنوات السابقة، كذلك تعمل روسيا على تطوير قوتها الصاروخية "فرط صوتية" (التي تتجاوز سرعتها سرعة الصوت بنحو ست مرات)، واستكمال بناء البنية التحتية اللازمة لمنصات هذه الصواريخ.
في يونيو 2021، وصف بيان قمة الناتو، تطور القدرات العسكرية لروسيا وموقفها المتشدد تجاه قضايا أوروبا وأنشطتها التي عدها استفزازية وتدريباتها العسكرية المفاجئة، بوصفها تهديدا متزايدا للأمن الأوروبي الأطلسي، ورأى أن العلاقات الأوروبية-الروسية تمر بأدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة.
فقد تولَّد يقين لدى دول حلف الناتو أن تصرفات موسكو العدوانية، وقدرتها على خلق تحديات متنوعة في مواقع متعددة، يهدد أمن دول الحلف، ويقوض قدرته على الرد بالشكل السريع والفعال، ففي القطب الشمالي، أثار الاستثمار الروسي في البنية التحتية والقدرات ذات الصلة، قلق دول الناتو والدول غير الأعضاء فيه على حد سواء، مما دفعهم لتركيز انتباههم لتلك المنطقة الجغرافية.
وبات من المقرر أن ينظِّم الناتو ابتداء من عام 2022 مناورات عسكرية ضخمة بقيادة النرويج وبمشاركة 40 ألف جندي، داخل الدائرة القطبية الشمالية، وذلك كل عامين، ووفقا للخطط الحالية، ستكون هذه المناورات هي الأكبر في القطب الشمالي منذ نهاية الحرب الباردة.
قوات الناتو
وعلى صعيد مواز، بدأ عدد من الدول الأوروبية في صياغة إستراتيجياتها الأمنية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وفقا للتطورات على الساحة الروسية، إذ نصت وثيقة الاستراتيجية الفرنسية لمنطقة الهند والمحيط الهادئ لعام 2021، على أن باريس تهدف إلى زيادة نشاطها وتعاونها البيني مع الشركاء الإقليميين في تلك المناطق، بما في ذلك أستراليا والهند واليابان، مع إجراء عمليات انتشار عسكري ومناورات عسكرية دورية، وعلى الرغم من التأثير السلبي لمعاهدة "أوكوس" الموقعة في سبتمبر 2021، على العلاقات الفرنسية مع أستراليا، فلا تزال تلك الخطط الفرنسية قائمة.
الأمر ذاته ينطبق على ألمانيا، التي خططت لتوسيع نطاق وجودها في التدريبات والعمليات العسكرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مع قرارها للمشاركة في مناورات "Pitch Black" التي تقودها أستراليا، والتخطيط لتعزيز شراكات الدفاع الثنائية مع أستراليا واليابان على وجه الخصوص.
وفي مارس 2021، كشفت الحكومة البريطانية عن مراجعة متكاملة للأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية، بعنوان "بريطانيا العالمية في عصر تنافسي"، والتي أعلنت سابقا أنها ستكون أكبر مراجعة من نوعها يجري تنفيذها في المملكة المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة.
وتبع ذلك على الفور صدور ورقة قيادة الدفاع بعنوان "الدفاع في عصر تنافسي"، والتي حددت بمزيد من التفصيل خطط تحديث القوات المسلحة البريطانية، بما في ذلك بعض التخفيضات الكبيرة في الأفراد ومخزونات المنصات، للمساعدة في دفع تكاليف برامج المعدات الجديدة والاستثمار في التقنيات الناشئة.
وتخطط بريطانيا أن تنتقل ترسانتها العسكرية إلى عصر الشبكات، واستغلال البيانات، والذكاء الاصطناعي، وأسلحة الطاقة الموجهة، والأنظمة الروبوتية، وكذلك استغلال الريادة البريطانية في مجال الأقمار الصناعية، وكانت الحكومة البريطانية قد أعلنت سابقا في نوفمبر 2020 زيادة قدرها 16.5 مليارات جنيه إسترليني (22.8 مليارات دولار أمريكي) في ميزانية الدفاع على مدى أربع سنوات لاحقة حتى عام 2024.
وبجانب تركيز الإستراتيجية البريطانية على مناطق المحيطين الهندي والهادئ، فقد حددت تلك الإستراتيجية روسيا على أنها "التهديد المباشر الأكثر حدة" للمملكة المتحدة، في حين جرى تصوير الصين على أنها مجرد منافس "منهجي"، ويأتي ذلك كله في إطار سعي بريطانيا للعب دور أكثر نشاطًا وتأثيرا في تشكيل النظام الدولي.
ومن ثم تشير القراءة المتعمقة في تطور الإستراتيجية العسكرية الروسية، والتطور المقابل لدول الناتو في مواجهة موسكو، إلى أن المواجهة الحالية في أوكرانيا، ربما تكون مجرد جولة افتتاحية، لحرب طويلة الأمد بين الناتو وروسيا، حرب يسعى من خلالها كل طرف إلى إعادة تشكيل النظام الدولي، بما يمنحه مكانة لائقة، حرب ربما تقود العالم إلى نظام جديد ما زلنا نحاول تبين ملامحه.
يوم السبت 7 مايو 2022 دعا مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز إلى التعامل بجدية مع رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين توسع "الناتو"، ولاسيما التوجه لضم السويد وفنلندا للحلف. وقال بيرنز خلال منتدى عقد في واشنطن نظمته صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية: "يجب أن نتعامل بجدية مع جميع القضايا التي يثيرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين" حيال توسع حلف "الناتو". وأضاف: "لكنني أعتقد أن أيا من هذا لن يصبح رادعا إذا قررت فنلندا والسويد الانضمام للحلف، وإذا قرر الحلف زيادة عدد أعضائه وضم هاتين الدولتين".
تبخر الحلم الأوروبي
أعلن الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير يوم 8 مايو أن الجهود الرامية إلى بناء "البيت الأوروبي المشترك" باءت بالفشل في ظل الأحداث الأخيرة في أوكرانيا. وذكر شتاينماير، في كلمة ألقاها في جمعية النقابات الألمانية (DGB) في برلين بمناسبة ذكرى استسلام ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، إن الثامن من مايو أصبح "يوم حرب" هذا العام في ظل الأحداث في أوكرانيا.
وأشار الرئيس الألماني إلى أن أجيالا من السياسيين عملوا على تفادي تكرار مثل هذه الحرب في أوروبا، مذكرا بالمبادرة التي تقدم بها آخر زعيم للاتحاد السوفيتي، ميخائيل غورباتشوف، لبناء "البيت الأوروبي المشترك".
وذكر: "لكن اليوم، في الثامن من مايو هذا العام، باء حلم بناء البيت الأوروبي المشترك بالفشل وحل الكابوس محله".
وذكر شتاينماير أن النزاع في أوكرانيا يدفع أوروبا إلى "استنتاجات مؤلمة"، مضيفا: "تمثل هذه الحرب ابتعادا عن الكثير من الأمور التي كانت تعد بديهية. إنها منعطف تاريخي".
وشدد شتاينماير على أن التضامن مع أوكرانيا في هذا النزاع يقضي بـ"مواصلة الضغط على روسيا اقتصاديا من خلال العقوبات غير المسبوقة"، محذرا من انقسام محتمل داخل المجتمع الألماني بسبب التبعات الاقتصادية الناجمة عن هذا النزاع.
ودعا الرئيس الألماني إلى التركيز على تحديث الجيش، مبديا قناعته بأنه "لا يمكن التفاوض على منع نزاعات جديدة إلا من موقف القوة".
تصريح شتاينماير جاء في نفس الوقت الذي أشارت فيه وكالة "شبيغل" إلى زيادة نسبة الفقراء في ألمانيا، وأنهم معرضون ولاسيما المسنون وأصحاب الدخل المحدود، لخطر التأثر بارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، نتيجة العقوبات على روسيا كما حذرت من كساد كبير.
في هذه الاثناء تهتز أسواق المال بشكل خطير رغم قرار "مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة" بهدف مقاومة التضخم غير المسبوق منذ أربعين سنة في الولايات المتحدة حيث حذر عدد من الاقتصاديين، من أن "الفيدرالي الأمريكي يقود الاقتصاد العالمي إلى الهوة بأقصى سرعة، نتيجة الإفراط في استخدام سياسات التيسير الكمي وأشاروا إلى أن "ما يفعله الفيدرالي الأمريكي سوف تكون له آثار سلبية كبيرة، وسيقود الاقتصاد العالمي إلى موجة كساد كبرى، سوف تتخطى في آثارها الكساد العظيم الذي ضرب العالم في ثلاثينات القرن الماضي".
عمر نجيب