هناك ساعة حرجة يبلغ الباطل فيها ذروة قوته، ويبلغ الحق فيها أقصى محنته ، والثبات في هذه الساعة الشديدة هو نقطة التحول..” هذه العبارة لفارس الدعوة محمد الغزالي رحمه الله و أسكنه فسيج جناته، و لعل الأمة اليوم تمر بحالة ضيق شديد، فيكفي تتبع الأحداث السياسية التي حدثت مند بداية شهر رمضان لنلاحظ حجم التحديات و درجة الإنحدار، ففي فلسطين المحتلة تصعيد خطير ضد الشعب الفلسطيني و انتهاكات متكررة للمسجد الأقصى من قبل مستوطنين و عمليات قتل بالجملة لفلسطينين قتل عشوائي و بالشبهة ، و كم أحزنني مشهد قتل الشهيدة غادة “إبراهيم سباتين” الأرملة الفلسطينية الأربعينية، و التي خرجت وهي صائمة إلى السوق، لكنها لم تعد إلى أطفالها الستة .. فقد قرر جيش الاحتلال الغاضب سفك دمها بدم بارد على إحدى الحواجز الأمنية ، بدون أن تشكل للجنود أي تهديد كما أظهرت الفيديوهات..و الأخطر من ذلك هو موقف السلطة الفلسطينية و صمت القيادات العربية و الإسلامية و حالة الغثائية التي تمر منها أغلب الشعوب العربية و الإسلامية فهل هذه الشعوب خضعت لسطوة التطبيع مع الكيان الصهيوني ..؟ وماذا لو كانت هذه السيدة أوكرانية و الجنود الذين إغتالوها روس؟ رحم الله كل شهداء فلسطين و تحية لكم فأنتم شرف الأمة و عنوان نهضتها…و تعسا لكل المتخاذلين و المتصهينين و المطبعين مع الكيان الغاصب…
و بينما أنا أكتب هذا المقال أعلنت وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية ( وفا) اليوم الثلاثاء 12-04-2022 أن “عشرات المستوطنين اقتحموا المسجد الأقصى من باب المغاربة وأدوا طقوسًا تلمودية ونفذوا جولات استفزازية في باحاته حتى خرجوا منه عبر باب السلسلة، فيما تولت شرطة الاحتلال تأمين الاقتحام وحماية المقتحمين”. ووفق الوكالة، “نفذ عشرات المستوطنين مساء أمس الإثنين، محاكاة كاملة لما يسمى “قربان الفصح” في منطقة القصور الأموية الملاصقة لأسوار المسجد الأقصى المبارك”.
وأشارت إلى أن “هذه الخطوة أتت بعد “قمة حاخامية” عُقدت في الأقصى لمناقشة فرض طقوس “الفصح” العبري فيه، وبعد دعوات من حاخامات اليمين المتطرف وتعهدات من قادة جماعات “الهيكل” بإدخال ما يسمونه “قربان الفصح” إلى الأقصى مساء يوم الجمعة القادم”…ويحل “عيد الفصح” العبري هذا العام متقاطعاً مع الأسبوع الثالث من شهر رمضان المبارك، ما بين 16إلى 22 من شهر نيسان/ابريل الجاري.
وبحسب “وفا” ، “تواصل جماعات /الهيكل/ حشد مناصريها لاقتحام المسجد الأقصى في عيد “الفصح”، وإقامة الطقوس به، والتي يتخللها إدخال ما يسمونه فطير العيد، وقراءة جماعية لمقاطع من “سفر الخروج”، ودخول طبقة “الكهنة” بلباس “التوبة” الأبيض، وذبح “قربان” العيد في باحاته”.
وأوضحت أن “المستوطنين سيحاولون خلاله إدخال ما يسمونه “القربان” أو إدخال دمه لنثره على صحن الصخرة ابتداءً من بعد غد الخميس وحتى يوم الجمعة 21 رمضان، لافتة إلى أن حركة “العودة إلى جبل الهيكل” أعلنت عن مكافأة مالية لمن ينجح بتقديم “قربان الفصح” في المسجد الأقصى المبارك، خلال العيد العبري حيث يحصل من يحاول تقديم “القربان” ويفشل على مبلغ 400 شيقل، ومن يحاول وينجح قليلاً سيحصل على 800 شيقل، أما من ينجح في ذبح “القربان” في الأقصى سيفوز بمبلغ مالي قيمته 10 آلاف شيقل”.
وتقول الوكالة إنه ردا على تلك الدعوات، انطلقت دعوات فلسطينية تحت عنوان “في الأقصى اعتكافي” للإقبال الواسع على الاعتكاف والرباط في المسجد الأقصى المبارك، في ليالي العشر الثانية من شهر رمضان.
و ما يحدث على أرض فلسطين المحتلة عامة و القدس خاصة يبشر بانتفاضة جديدة ، و نصر قادم لا محالة صناعه أحرار فلسطين و أحرار الأمة الإسلامية في كل مكان ، و رغم حزني و ألمي إلا أني متفائل و لست خائفا على القدس و المسجد الأقصى، لأن القران الكريم الذي يشكل دستور المسلمين في كل زمان ومكان، رغما عن أنف حكام وساسة كل هذا العالم، هذا الدستور فيه سورة تلخص الحكاية و تتضمن سند ملكية رباني أبدي للقدس ومعه “الأرض المباركة” لا يستطيع أحد أن ينزعه من المسلمين طال الزمن أو قصر، فقد قال تعالى في مطلع سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)} [الإسراء : 1-7]، هذا الوعد مقترن بالإيمان بالله و إتباع كتاب الله و سنة نبيه المصطفى، و هذا هو مفتاح النصر و التأييد، إلى جانب الأخد بأسباب القوة و الخروج من دائرة الغثائية و الضعف مصداقا لقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال : 60]
فقضية القدس و فلسطين ليست مجرد قضية أرض و شعب و خبز و تسهيلات إقتصادية، و إنما هي قضية عقيدة بدرجة أولى، و من يتنازل عن القدس و فلسطين فهو يشكك في حجية و قطعية دلالة القران الكريم، و يكذب رواية إسراء رسول الله عليه الصلاة والسلام و إمامته للأنبياء بالمسجد الأقصى ليلة الإسراء، ويفرط في ثالث الحرمين و أولى القبلتين، فالقدس و فلسطين تفدى بالغالي و النفيس لأنها قدس الأقداس في عقيدة أهل السنة والجماعة، و التفريط فيها لا يقل في إثمه عن التفريط في الحرم المكي أو الحرم النبوي…
بل إن القدس شكلت و لاتزال تشكل في الوجدان الديني المسيحي و الإسلامي أهم منطقة في العالم، فجمال القدس و عظمتها لم تستمدهما من بناياتها و لا جغرافيتها المتميزة أو موقعها الجيو-ستراتيجي، و إنما نابعة من كونها مهد لكل الديانات السماوية فهي الأرض المباركة التي بنا بها أدم عليه السلام ثاني مسجد بعد البيت الحرام، و هي المدينة التي هاجر إليها الخليل إبراهيم عليه السلام و هي الأرض التي اشتاق موسى عليه السلام لدخولها و قومه بعد الخروج من مصر،و ما دخلوها إلا في عهد داوود عليه السلام ..وهي المدينة التي ولد بها المسيح ابن مريم ..وبالأقصى الشريف صلى محمد عليه السلام بكل الانبياء و منها صعد إلى سدرة المنتهى..
هذا الإرث الديني للقدس جعل فلسطين أو أرض كنعان تتعرض للعديد من الغزوات الكبيرة، كغزو الفلسطينيين لساحل فلسطين أو كغزو الآشوريين و البابليين و الفرس و المقدونيين تم الرومان، و ذلك قبل ميلاد المسيح عليه السلام، ثم غزوات الصلبيين و التثار في القرون الوسطى و بعد الفتح الإسلامي للقدس ..
ومن مؤشرات المكانة السامقة للقدس هو تضارب الروايات التاريخية حولها، لاسيما في أوساط الباحثين الأوربيين و المستشرقين، الذين عملوا منذ القرون الوسطى، على تزييف الحقائق ودس روايات مجانبة للواقع التاريخي للمدينة و محركهم في ذلك: 1 – العداء للإسلام و 2- سيطرة الأساطير الثوراتية على و جدانهم و3 – تحريض شعوبهم على استعمار هذه الأرض و السيطرة عليها و هو ما تحقق فعلا من خلال الحملات الصليبية،و تتحقق في عصرنا هذا بالاحتلال الصهيوني لعموم فلسطين و القدس الشريف …
ولعل تركيز المقال على هذه المعطيات التاريخية و الجانب الديني هو عنصر أساسي في فهم الصراع العربي – الإسلامي من جهة و الصهيوني -الصليبي من جهة أخرى على أرض فلسطين عامة والقدس خاصة ، فالعرب و المسلمين تدعمهم الحقائق التاريخية منذ ما قبل ميلاد المسيح بآلاف السنين، فمن استوطن فلسطين قبل أن يدخلها النبي إبراهيم عليه السلام، بعدما خرج من العراق هو و ابن أخيه سيدنا لوط في عهد الملك الطاغية “النمرود”، متجها إلى فلطسين و التي كان يحكمها الملك العربي “ملكي صادق”، هم العرب الذين هاجروا إليها من الجزيرة العربية ، ففلسطين لم تكن يوما أرضا بلا شعب كما يدعي الصهاينة ، فأول من عمرها هم العرب و هو ما تدعمه الدلائل التاريخية..
بل إن ما تزخر به الأساطير الثوراتية هو مجانب للصواب، و اليهود لم يعمرو فلسطين إلا في فترات تاريخية متقطعة، و القران الكريم يعطي للمسلم سرد تاريخي لمراحل الوجود اليهودي في فلسطين..و لما كان المقال بطبيعته لا يسمح بسرد كل التفاصيل حول تاريخ فلسطين و القدس ..فان جوهر مايسعى إليه هذا المقال، هو دفع المواطن العربي إلى قراءة تاريخ فلسطين بتمعن وعبر مصادر متعددة، تحترم مبدأ الموضوعية التاريخية و التسلسل الكرونولوجي للأحداث بعيدا عن الذاتية والهوى السياسي أو العقدي و بعيدا عن علماء و فقهاء و إعلام السلاطين، و تجنب الرواية الغربية والرواية الصهيونية التي زيفت عن عمد العديد من الحقائق التاريخية وصورت الباطل حقا و الحق باطلا ..
و للأسف خروج من يقول بأن القدس و فلسطين ليست في سلم أولوياتنا كمسلمين وعرب هو نتاج لعملية غسيل المخ و التي نجح فيها الصهاينة كما نجحوا في عملية الغسل السياسي و الاقتصادي و التاريخي، و ذلك بتواطؤ مع أنظمة سياسية عميلة ضيعت الأوطان مقابل الحفاظ على الكراسي و المكاسب..
فلسطين والقدس هي قضية كل مسلمي العالم بل قضية كل الأحرار، و الحق العربي و الإسلامي لا يمكن إنكاره و من يفكر في غير ذلك فهو ينفذ أجندة الصهيونية ، لذلك المعركة حول فلسطين و القدس، ليست معركة يحسمها السلاح و إنما هي معركة وعي و إدراك لطبيعة النزاع، فهو نزاع ديني بين عقيدتين إحداهما لازالت تحتفظ بصفاءها الرباني، و أخرى حُرِفت و تحكم فيها الهوى البشري ، فنصرة القدس و الانتصار لها هو بخلاصة انتصار للعدل و للحق، و للأمل في غد تخرج فيه الإنسانية من ظلم الاستبداد و وجور الهيمنة و العبودية الاقتصادية والسياسية إلى رحابة وسماحة وعدل الإسلام…و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لايعلمون..
د. طارق ليساوي إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي. أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..