في نقاش دار بيني و بين فريق عمل برنامج “إقتصاد×سياسة” قبل أيام ، تعرضنا فيه لقانون القلة والأكثرية، وقد أعطيت نموذج “محمد مهاتير” وكيف كان له تأثير بالغ الأهمية في نهضة ماليزيا، وتغيير بعض سلوكيات شعب الملايو، فقد سبق لمهاتير أن ألف في شبابه كتابا بعنوان “معضلة الملايو” إنتقذ فيه بشدة سلوك الخمول والاتكالية و العديد من السلوكيات السلبية التي طبعت أخلاق الملايو أنذاك، والتي إعتبرها سبب مباشر في تخلف أكثرية الملايو، مقارنة بباقي الأقليات في ماليزيا و خاصة الأقلية الصينية، وعندما أصبح وزيرا للتعليم قام بإصلاح منظومة التربية والتعليم و جعل من التعليم والقيم الإسلامية قاطرة لتنمية “شعب الملايو”، وهذا النقاش قادنا إلى قانون القلة والأكثرية في القران الكريم و كيف أن الله سبحانه وتعالى غالبا ما يقرن الأكثرية بغياب العلم و الإيمان و الفقه، ومن ذلك قوله تعالى في محكم كتابه : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف : 179] ، {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة : 100]، {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ۚ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ ۚ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [هود : 17]، فالأكثرية لا تعني بالضرورة الحق و الصواب، وممكن أن يكون الحق مع فرد أو جماعة صغيرة، ويمكن لهذا الفرد الواحد أن يغير مصير أمة بأكملها..
ولعل هذه المقدمة فرضتها المناسبة، وكما يقول المناطقة المناسبة شرط، والمناسبة أليمة ومحزنة لعموم المسلمين وللباكستانيين خاصة، ولها صلة بوفاة مهندس القنبلة النووية الإسلامية “عبد القدير خان”.. فقد أعلن التلفزيون الباكستاني يوم الأحد 10 تشرين الأوّل / أكتوبر 2021 وفاة العالم النووي عبد القدير خان الذي يوصف بأنه مهندس البرنامج النووي الباكستاني عن 85 عاما.. وكان خان قد أدخل إلى المستشفى العسكري بعد إصابته بفيروس كورونا، ثم نُقل إلى منزله بعد تحسن حالته الصحية، لكن حالته تدهورت فجأة الليلة الماضية، وتوفي في أحد مستشفيات العاصمة إسلام آباد.. رحم الله الرجل و أسكنه فسيح جناته وإنا لله و إنا إليه راجعون… فالمرحوم “عبد القدير خان” إتهمته الولايات المتحدة ببيع وتسريب معلومات ومواد تستخدم في تصنيع القنابل النووية، لدول مثل إيران والعراق وكوريا الشمالية..ويعدّ خان “مهندس القنبلة النووية الباكستانية” بطلا قوميا في نظر أغلبية الشعب الباكستاني، لأنه جعل بلاده أول قوة نووية إسلامية في العالم، و “ذو الفقار علي بوتو” أب القنبلة النووية فبعد انفصال بنغلاديش(باكستان الشرقية) عن باكستان، و تعرض البلاد للخيانة من قبل الحلفاء الغربيين، وأيضا تعرض البلاد للتهديد و للانقسام بفعل السياسات الخاطئة لقادة الجيش الباكستاني..فبعد أن فقدت باكستان جناحها الشرقي، وحوالي 60 ٪ من عدد سكان البلاد، فهل ستبقى البلاد متماسكة، أم أن جماعات إقليمية أخرى خاصة “البلوخيين” وقبائل “الباثان” ستحاول بدورها الإنفصال وتشكيل دولهم الخاصة، و تشكل دولة بنغلاديش التابعة للهند، أصبحت الهند السيد غير المنازع لشبه القارة الأسيوية الجنوبية..
و نتيجة لهذه الذلة والمهانة التي تعرضت لها باكستان في ديسمبر 1971، لم يكن أمام الحكام العسكريون الباكستانيون إلا العودة لثكناتهم العسكرية، و أن يسلموا مقاليد الحكم للزعيم السياسي المدني الذي لديه الأمل في الاحتفاظ بتماسك ما تبقى من باكستان، وكان هذا الزعيم هو “ذو الفقار علي بوتو”… وأكثر طموحات “علي بوتو” كان في ميدان العلوم النووية، ففي أيامه الأولى كحاكم مدني للباكستان، إنطلق “بوتو” في بناء القنبلة الذرية الأولى للعالم الإسلامي…
فبعد نحو أقل من شهر على تسلمه السلطة دعى إلى اجتماع سري حضره نحو 50 من كبار العلماء الباكستانيين والمسؤوليين الحكومين بمدينة “مولتان” القريبة من الحدود الهندية، وتم الاجتماع تحث خيمة أصبحت تعرف فيما بعد ب”خيمة مولتان”..
وبداخل هذه “خيمة مولتان” تم التداول في أخطر قضية و أكثرها تأثيرا: كيف السبيل إلى الحصول على القنبلة النووية؟ قد يبدو هذا الطموح ضربا من الخيال في بلد فقير ، لكن تحت هذه الخيمة حضر أفضل و أعظم العقول في الباكستان، و من هنا بدأت مسيرة القنبلة النووية، لكن عمق الانتماء الإسلامي دفع القيادة الجديدة وعلى رأسها بوتو إلى الاستعانة بالبلدان العربية و الاسلامية لتوفير الأموال ، وكذلك كان، فقد دفعت ليبيا و السعودية الكثير من الأموال لدعم الطموح النووي الباكستاني، فنتيجة للتحالف و التكامل بين المال العربي و الكفاءة العلمية والإدارية الباكستانية ، إستطاعت باكستان تفجير قنبلتها النووية بالرغم من الانقلاب على “علي بوتو” و إعدامه فيما بعد لكن طموحه النووي تم استكماله رغم الحصار الدولي الذي تم فرضه على نقل التكنولوجيا النووية لباكستان، مما دفع القائمين على المشروع إلى إقامة أكبر شبكة سرية و معقدة للحصول على المعدات و التكنولوجيا النووية، و نجحت باكستان في ما فشل فيه العراق و ليبيا..
وقد كان تفجير الهند قنبلتها النووية الأولى عام 1974 سببا في استنفار باكستان جهودها من أجل التوازن مع جارتها، فالتوتر بين باكستان والهند لازال هو السائد في العلاقات الثنائية، وقد تم توقيع اتفاقا لوقف إطلاق النار عام 2003، على امتداد خط المراقبة الذي يمثل الحدود الفعلية في كشمير، لكن الهدنة شهدت انتهاكات في السنوات و الشهور القليلة الماضية..
فقد انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي يوم 09 تشرين الأوّل / أكتوبر 2021 صورا دموية لضحايا قال ناشروها انها للمسلمين في كشمير، فيما انتشر هاشتاغ #انقذوا_المسلمين_في كشمير و #كشمير_تباد على وسائل التواصل الاجتماعي من دون اي تعليق من المنظمات الاسلامية او الهند نفسها ..
وقال النشطاء أن الحكومة الهندية طلبت من سكان كشمير باستثناء المسلمين مغادرة المنطقة حيث انها ستقوم بتنظيف المنطقة من “الإرهاب” بمعنى انها ستقوم بابادة المسلمين، وتحدث النشطاء ايضا عن عدد كبير من الضحايا قضوا برصاص القوات الهندية.و قد أعلن بالفعل الجيش الهندي في مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2021 أنه سينفذ عملية لتعقب المتسللين، وأن العملية لا تزال مستمرة وأن الوضع على الأرض ليس واضحا في المرحلة الراهنة…
ومنذ أغسطس/ آب 2021، قتل عشرة مدنيين ورجال شرطة على الأقل بأيدي مسلحين. وتقاتل مجموعات مسلحة الجنود الهنود منذ 1989 مطالبة باستقلال كشمير، أو إلحاقها بباكستان التي تسيطر على جزء من المنطقة المنقسمة وتطالب بها بالكامل مثل الهند..وتقطن أغلبية مسلمة منطقة كشمير التي تعد السبب الأساسي في عداء مستمر منذ عقود بين الهند وباكستان اللتين تسيطر كل منهما على جزء من المنطقة وتطالب بالسيادة عليها بشكل كامل… ويرفض ناشطون من كشمير الرواية الرسمية للسلطات الهندية ويعتبرون ما تقوله مزاعم لتلفيق تهمة “الإرهاب” للمسلمين والإسلام وهم براء منها.
و قد فرضت السلطات الهندية حصارا على إقليم كشمير إقترب من 800 يوم، و قد كشفت أحداث كشمير، الوجه القبيح للأنظمة العربية والإسلامية والمؤسسات الدولية والحقوقية، فما يحدث- بحسب الناشطين- هو إبادة جماعية وتطهيرا عرقيا على مرئ ومسمع العالم…وبدورنا ندد بصمت وسائل الإعلام الغربية و العربية ، وقادة دول العالم و على رأسهم حكام البلدان العربية و على رأسهم العاهل السعودي ، على إعتبار أن بها الحرمين الشريفين و قبلة للمسلمين، و نرجو من عامة المسلمين في كل بقاع العالم إطلاق حملة شعبية لمقاطعة السلع و المنتجات و الخدمات الهندية ، تضامنا مع المسلمين …
أما العرب فللأسف لا حياة لمن تنادي، فقد بلغوا درجة من الإنحدار تشبه حالهم، قبل بعثة محمد عليه السلام، فقد كانت الجزيرة العربية و الشام يتحدد مصيرهما من قبل القوى الدولية المهيمنة أنذاك، خاصة الفرس و الروم، و لم يكن للمنطقة استقلال سياسي أو سيادة على أراضيها في الغالب، فما أشبه اليوم بالأمس، و علة ضعف العرب و انحدارهم نابع بالأساس من ابتعادهم عن مصدر قوتهم و وحدتهم، و تخليهم عن سفينة نوح ..و سفينة نوح بالنسبة للعرب هي الإسلام بشقيه الكتاب و السنة، فهذا الابتعاد عن المنهج القويم و إتباع إرادة أعداء الأمة قاد إلى ما نراه، من تدمير سوريا و العراق و اليمن و ليبيا و انتهاك حقوق مسلمي الإيغور و مسلمي الروهينغا و كشمير و لائحة الاعتداءات و الانتهاكات في حق المسلمين لايحصيها إلا رب العالمين، فدماء المسلمين من مالي إلى كشمير لا ثمن لها و لا مدافع عنها…
فمعظم البلدان و التكتلات الدولية أصبحت تبحث عن بدائل تخدم مصالح بلدانها، لكن العرب لازال أغلبهم متمسك بأدبيات العصر الإمبراطوري الأمريكي، الذي يتجه بالتدريج نحو التفكك و الإنهيار..و على الرغم من أننا نأسف لحال بلداننا العربية و الإسلامية، إلا أن ما يحدث على الساحة الدولية و الإقليمية، يدعو إلى قدر من التفاؤل، فصعود تركيا وتعافيها الاقتصادي و السياسي يعد بارقة أمل لكل العرب و المسلمين، فعلى الرغم من أن القيادة السياسية التركية تخدم مصالح شعبها بالدرجة الأولى، إلا أن موقفها من بعض القضايا العربية و الإسلامية شكل قيمة مضافة في ظل حالة الخنوع العربي …و هذا الأمل تعزز نسبيا بصعود السيد ” عمر خان” لرئاسة باكستان، و الذي عبر عن مواقف إيجابية تصب في خانة الوحدة الإسلامية ومناهضة الهيمنة الأمريكية..
و موقفه السياسي يذكرني بمواقف “علي بوتو”..فباكستان تعني في عرف غالبية حكام الخليج و أغلبية الشعوب العربية، مصدرا لليد العاملة الرخيصة، و لتفشي الفقر و الأمية، لكن ما لا يعلمه الكثير أن هذه الدولة الإسلامية تملك مصادر قوة غير متاحة للكثير من البلدان الخليجية التي تفتخر و تعتز بما لديها من ثروات قارونية..
فجمهورية باكستان الإسلامية دولة ذات سيادة في جنوب آسيا تأسست سنة 1947 وعدد سكانها يتجاوز 191 مليون نسمة، وهي سادس دولة من حيث عدد السكان ومساحتها تغطي 796095 كلم مربع و تحتل المرتبة 36 في العالم من حيث المساحة. وتحدها الهند من الشرق و أفغانستان من الغرب و إيران من الجنوب الغربي و الصين في أقصى الشمال الشرقي و لها حدود بحرية مع عمان ..
و باكستان لديها سابع أكبر قوات مسلحة في العالم، وهي أيضا قوة نووية، و دولة تمتلك أسلحة نووية معلنة، وهي الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي التي تمتلكه…و قوتها العسكرية و تحديدا النووية سبب رئيس في مكانة باكستان، فبعد حصول باكستان على استقلالها عاشت فترات عصيبة، وعانت من ويلات الحكم العسكري وعدم الاستقرار السياسي و النزاعات المسلحة مع الهند..
فباكستان قوة عسكرية و سياسية إسلامية، ينبغي الاستفادة منها، ليس لقصف اليمن أو غيرها من البلاد العربية أو الإسلامية و إنما توظيفها لتدعيم استقلال الأمة العربية والإسلامية و الحد من تبعيتها للولايات المتحدة أو روسيا، بل يمكن الاستفادة من باكستان و توجهها السياسي في تدعيم السلم المحلي و الإقليمي، و محاولتها تجنب الصراعات الطائفية و المذهبية، فباكستان تتشكل من فسيفساء عرقي و إثني، و تنوع مذهبي، فهي ذات أغلبية سنية، و لكن لديها أقليات شيعية، وهو ما يجعلها بعيدة إلى حد ما عن الخطاب الطائفي..
نتمنى أن يتم التعامل مع البلدان الإسلامية الصاعدة بإيجابية، فقوة تركيا و ماليزيا و أندونيسيا و باكستان، لن تكون في المحصلة النهائية، إلا في صالح العالم العربي و الإسلامي، فهذه الشعوب تتوحد شعاراتها و مشاعرها عندما تتعرض المقدسات الإسلامية لأي تهديد، و تتوحد في عدائها للغطرسة الإسرائيلية و الأمريكية، و تتألم للدماء التي تسفك في اليمن و سوريا و العراق، و لن تتردد في الدفاع عن الحرمين، لكن حال البلدان العربية وفي مقدمتهم السعودية، عائق رئيس في الاستفادة من القوى الإسلامية الصاعدة، لأن حكام السعودية يريدون ولاءا و دعما لشخصهم و سياساتهم التي لا تعبر بالضرورة عن مصالح الإسلام و المسلمين، فلو إمتطت المملكة سفينة نوح لإستطاعت إنقاذ نفسها و إنقاذ باقي العالم العربي و الإسلامي، لكن للأسف المملكة إنحرفت عن الطريق المستقيم، و إختارت المسار الخطأ…و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون ..
د. طارق ليساوي إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة .