عملتُ في سوريا مرتين لأنسق مهام الأمم المتحدة. المرةُ الثانية كانت لتنسيق الشؤون الإنسانية بشكل رئيسي وشملت بالتوازي تنسيق الشأن التنموي و استمرت في عمر الأزمة السورية من أكتوبر 2016 و لنهاية ديسمبر 2018. كان مقر عملي بدمشق مع سفرٍ لمناطق مختلفة في سوريا منها ما كان تحت السيطرة الحكومية و منها ما لم يكن.
كنت بالتحليل المنطقي أرى أن أي حل للمأساة لا يشمل الاتصال المباشر مع الحكومة السورية المعترف بها رسمياً سيكون عبثا. و كان هذا مثار جدلٍ أو صمتٍ، أو هجومٍ مضاد ينالُ من حياديتي المهنية كلما وصَفْتُ حجم المأساةِ وآثارها، وأن سوريا التي أصبحت بحكمِ المنبوذ ليست الوحيدة المسائلة عنها، بل أن عشرات الأطراف الرئيسية و الفرعية التي يتحدثُ معها المجتمع الدولي بأريحية ضالعة بالأزمة و يجب مُساءلتها أيضاً. قلتُ أن عزل سوريا بالنبذ و الحصار و بمهادنةَ بل بدعمَ ما يقوض مبادئ السيادة لن يصل بالنهاية لحل الأزمة بل سيُبقي طرفها الرئيسي خارج دائرة النقاش و في فورة الغضب و العناد، و سيزيدُ من التباعد بما لا يخدم النوايا الإنسانية و سُبُلَ الوصول للسوريين كلهم بالمساعدة والتعاون.
آمنتُ أن في التواصل الإقليمي العربي مصلحةً حيويةً ليس فقط في الجانب الإنساني الذي زحف إلى الأردن و لبنان و بعض العراق الشمالي حيثُ تبلورَ ضغطاً على الموارد والمصروفات الحكومية، لكن أيضا في الجانب التنموي المتعلق بِمَنَعَةِ وديمومة معاش الناس بكرامة في سوريا والبلدان المحيطة التي أربكتها الأزمة. لذلك كنتُ أدعو وأعمل لأن تتوجه الأمم المتحدة لخلق بيئةِ تنميةٍ في سوريا موازيةً للعون الإنساني تسمح للمجتمعات المحلية والمؤسسات التنموية الرسمية و الأهلية لكسر حدة العزلة و الفقر و تساعد بالخدمات المجتمعية المطلوبة. لكن جهاتٍ مسؤولةٍ عديدة ما كانت تجرؤ على دعم هذا النصح أمام شراسةِ الرافضين و المصممين على تناول السوريين بموجب العازة الإنسانية فحسب و أولوية التغيير السياسي قبل أي تنمية.
و كنت ُرأيتُ المعاناة السورية تتشكل منذ بدايات الألفية الثانية نتيجةَ تضارب السياسات السورية مع سياسات دول نافذة و نتيجةَ تراكم أزمات سوريا الداخلية حين يختلطُ رأسِ المال بالفساد و المصالح الجهوية فينشر الغِنَى بين الصفوة و يُرْدِي الباقي فَقْراً و تهميشاً. و قدَّرْتُ ببداية الأزمة أن الانسحاب العربي عن سوريا و تركها للتمزيق و التقتيل هو من أسوءِ القرارات التي اتخذها العرب. كان تحالف هذه العوامل الخارجية و الداخلية و العزوف العربي و تورطه قد قاد للمأساة المستمرة. فهل غابت هذه العوامل عن حاضر سوريا اليوم؟ كلا؛ لكن كان من شأنها بمنتصف سعير الأزمة أن تكون دعوةً لا مهرب منها لتحالف سوريا مع من يعينها في أحلكِ الظروف و هو ما حصلَ و باتَ يُشكلُ حلقةً صعبةً في المنطقة. لكن يبدو أن الوقت حانَ لعودة سوريا للحضن العربي، الذي عبر العقود لا يفتأ يَلْفِظُ وليدهُ ومن ثم يُعيدُهُ والوليد يلملم أشلاءً و يلعقُ جراحاً. فهل من شأن التوجه العربي نحو سوريا اليوم أن يفكك هذا التحالف الذي يرى فيه العرب أذىً إقليمياً و يحل مكانه؟ لا أظن.
في خضم هذه الموجة من الصحوة تجاه سوريا لا بد أن نسأل عمن سيقولُ ماذا لضحايا سوريا الذين بلغ قتلاهم، حسبما توثق السيدة باشيليه، المفوض الأعلى لحقوق الإنسان، 350,000 قتيل؟ أو لملايين النازحين و اللاجئين و ملايين الفقراء و ملايين المشرذمين بين أركان سوريا المُحتلة في كل الاتجاهات الجغرافية و هل سيغيبون عن الصحوة؟ ماذا تغير بسوريا لكي يقرر الحضنُ العربي إعادة احتضانها؟ لم يتغير شيء سوى أن الأزمةَ تَقْرِصُ الإقليم اقتصادياً و مالياً و تختبر حكوماته بغليانٍ مجتمعي بما لا يستطيع تحملَهْ، و سوى انتباهة العرب المتأخرة أنه عند سوريا تلتقي أهم شرايين الحياة في زماننا.
إن سوريا لم وعلى الأغلب لن تتغير حُكماً و جيشاً و منطقاً سياسياً. لكن بفضلِ الأزمة صارت سوريا ليست فقط أضعف بل أيضاً محتلةً، و ليس صهيونياً فقط، وتحولت بعض محافظاتها مرتعاً لخوارج هذا العصر. وهي إن نجحت بقلع بعضٍ من أراضيها وإعادتها للدولة فهي فعلت ذلك بخسائر بشرية و إنشائية و مستقبلية باهظة و بمساعدة حلفائها لا بفضل الحضن العربي. فهل سيكون من مقومات الاحتضان العربي اليوم أنه سيعين سوريا لتعويض الخسائر و لتحرير باقي أرضها حيث الموارد الأهم؟ لا أظن، مع أن كثيرا من شرايين الحياة هي في المناطق التي لا تسيطر عليها الحكومة، فكيف ستنساب العلاقات و المنافع الإقتصادية من مناطق محتلة؟
لقد رأت سوريا خلال هذا العقد و رأى الأردن و لبنان و العراق بشكل مباشرٍ أو عرضي كل أشكال القتل و التدمير الذي تزيد تكلفة إعادة إعماره من بنيةً أساسية في سوريا فقط عن التريليون دولار، و الحبلُ على الجرار كما يقولون. و لو افترضنا أن دية الإنسان المقتول هي 10 ألف دولار، فستكون دية القتلى السوريين فقط هي 3 ترليون و 500 بليون دولار. و لو افترضنا قدرتنا على حساب الفرص الضائعة من ثمار الحياة للمقتولين و أهلهم و للنازحين و اللاجئين و الذين اختفوا بلا أثر لما تمكنا من حصرها بالمال. الواقع المؤلم أن الحضنٍ العربي لا يتسع لتعويض هذه الخسارة المفجعة في الإنسان الذي رأى مجتمعه يتمزق حرفيا أمام عينيه؟ و الحضن السوري ما بين حكومةٍ و معارضةٍ لا يتسع الواحد منهم لشقيقه، فكيف سيتصرف الحضن العربي تجاه هذا الوضع السوري الأليم و هذا الانفصام؟ هل ستمضي لعبة الأمم في سوريا الممزقة لآجالٍ طويلة وهي الأمم التي لم تقدم إيجابياً أية حلول؟ نعلمُ أن الحضن العربي واقعيا لا يملك و لا يستطيع أن يقدم حلولاً لمجتمعاتٍ محطمة بأرجاء سوريا و مناطق محتلة في الشمال السوري فهل ستؤول هذه المهمة لحلفاء سوريا و هل عندها سيضعف الموقف العربي و السوري أكثر مما هو عليه من ضعف؟ وهل العودة العربية لسوريا ستكون على الأقل بالزخم الاقتصادي الذي سيرفع عن كاهل البلد وشعبها المقيم و المشرد تبعات المأساة من فقر و بطالة؟
رغماً عن هذه المخاوف أفهم حاجةَ سوريا و الإقليم لأن ترتخي القيود و آملُ أن أرى العلاقات العربية تتحسن ولا تنتكس و أن تنبني على المصالح ذات الديمومة النفعية للشعوب بغض النظر عن الاختلافات السياسية. لكنني أخشى من دوام الاحتلال ودوام الإرهاق العربي و اكتفائه لملمة فتات الفوائد بينما المخزون الاستراتيجي لسوريا يتلاشى تحت الاحتلالات المتجددة التي يفشل الحضن العربي بمنعها. القلق المشوب بالأمل يدعو لننظر كيف سيتصرف الحضن العربي في سوريا في الأشهر القادمة و هل سيزداد اتساعاً و يستثمر في إعادة سوريا بحق لوضعها الطبيعي و المتحرر أم أنه سيتراجع أمام الضغوط.
و لنأمل أن يقرر الحضن العربي أن الوقت حان لكي يتوقف العرب في اليمن عن القتال. و أن يحتضن خلاف المغرب و الجزائر المخيف لكل صادق و يضع له نهاية قبل الهاوية. و أن ينظر لفلسطين التي يًغتال شبابها فلا تُقامَ المياتم و لا يُأْخذُ الثأر. إنهُ غيضٌ من فيضِ الآلام التي لا يُلامُ فيها إلا الحضن العربي و الذي نبقى نتأملَ منه الأفضل و لو عصى.
علي الزعتري دبلوماسي اممي وكاتب اردني