“عاش من أجل فلسطين ومات من أجلها”… هذا هو الشعار الذي رفعه شعب فلسطين عقب وفاة جمال عبد الناصر عام 1970. ففي 28 أيلول/سبتمبر 1970، مات عبد الناصر بعد أيامٍ طويلة من الإرهاق والسهر المتواصل لوقف سيلان الدم العربي في شوارع الأردن آنذاك بين الجيش الأردني والمنظمات الفلسطينية، ومن خلال جهد قام به ناصر لجمع القادة العرب في قمّة طارئة بالقاهرة..
فعبد الناصر أدرك هدف حرب 1967 الذي أشار إليه وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك موشي ديان والرئيس الأميركي الأسبق جونسون، بضرورة تخلّي مصر عن دورها العربي، وإعادة سيناء لها مقابل ذلك، فرفض ناصر استعادة الأرض عن طريق عزلة مصر وتعطيل دورها العربي التاريخي .. وجاء أنور السادات بعده ليحقّق المطامح الدولية والإسرائيلية في مقايضة الأرض بالعزلة عن طريق معاهدة كامب ديفيد.
عبد الناصر أدرك مخاطر الصراعات العربية/العربية التي كانت سائدة قبل حرب 67، فأوقف تدخل الجيش المصري في اليمن وأقام “تحالف المدفع والنفط” الذي انبثق عن قمة الخرطوم ثمّ تأكّدت أهميّته في حرب عام 1973.
.. واليوم نجد أنّ توقيع “المعاهدات” وتعطيل دور “الجيوش العربية” في المعركة مع العدو الإسرائيلي، لم يحقّق الأمن والسلام للعرب بل برّر للقوى الدولية الكبرى العودة إلى السيطرة على المنطقة من الباب الأمني الواسع والذي ما زال مشرّعاً على مصراعيه.
عبد الناصر أدرك بعد حرب عام 1967 أهميّة وجود كيان فلسطيني مقاتل، فدعم انطلاقة الثورة الفلسطينية وقيادتها لمنظمة التحرير الفلسطينية رافضاً إقامة “فصيل فلسطيني” خاص تابع له (كما فعلت حكومات عربيّة أخرى) انطلاقاً من حرصه على وحدة الشعب الفلسطيني وعلى توحيد جهود هذا الشعب من أجل استعادة وطنه، بينما نجد اليوم محاولات متكررة فاشلة لتوفير الحد الأدنى من وحدة الجسم الفلسطيني بعدما تمزق هذا الجسم وقياداته بين “مفاوض” و”مقاوم” منذ توقيع اتفاق أوسلو قبل 28 عاماً.
عبد الناصر أكّد بعد حرب عام 1967 حرصه على تعميق الوحدة الوطنية في كلّ بلدٍ عربي، وعلى رفض الصراعات الأهلية المحليّة التي تخدم العدوّ الإسرائيلي (كما فعل في تدخله أيضاً لوقف الصراع الداخلي في لبنان عام 1969 بعد صدامات الجيش اللبناني مع المنظمات الفلسطينية)، فإذا بالأرض العربية بعد غيابه تتشقّق لتخرج من بين أوحالها مظاهر التفتّت الداخلي والصراعات المحليّة بأسماء مختلفة لتبدأ ظاهرة التآكل العربي الداخلي كبدايةٍ لازمة لهدف السيطرة الخارجية والصهيونية.
لقد رفض جمال عبد الناصر إغراءات التسوية كلّها مع إسرائيل، بما في ذلك العرض الأميركي/الإسرائيلي له بالانسحاب الكامل من كلّ سيناء مقابل عدم تدخّل مصر في الجبهات العربية الأخرى، وإنهاء الصراع بينها وبين إسرائيل. وكان ناصر يردّد “القدس والضفة قبل سيناء، والجولان وغزة قبل سيناء”، و”لا صلح ولا اعتراف بإسرائيل ما لم تتحرّر كلّ الأراضي العربية المحتلّة عام 1967، وما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة”.
وأصرَّ ناصر على هذه الأهداف السياسية رغم قبوله بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن ثمَّ لما كان يُعرَف باسم “مبادرة روجرز”، وكان يتحرّك دولياً في مختلف الاتجاهات (رغم ظروف الحرب الباردة واضطراره لعلاقةٍ خاصّة مع موسكو) بلا تفريطٍ أو تنازلٍ عن الأهداف السياسية المرحلية، وبشكلٍ متزامنٍ مع البناء العسكري والمعارك المفتوحة على الجبهة المصرية ومع أقصى درجات التضامن العربي والدعم المفتوح لحركة المقاومة الفلسطينية.
هكذا جعل عبد الناصر من هزيمة عام 1967 أرضاً صلبة لبناء وضعٍ عربيّ أفضل عموماً، مهّد الطريق أمام حرب عام 1973.
هذه الحقبة الزمنية (من حرب 1967 إلى وفاة ناصر عام 1970) كانت مهمة جداً في التاريخ العربي المعاصر وفي تاريخ العلاقات العربية/العربية، وفي تاريخ الصراع العربي/الصهيوني. وللأسف لم يتوقف الكثيرون عند هذه الحقبة وما حملته من أساسات لم يحافَظ عليها لا في داخل مصر ولا في المنطقة العربية عموماً.
ويخطئ كثيرون حينما لا يميّزون المراحل في تاريخ التجربة الناصرية أو حينما ينظرون إلى السياسة التي اتّبعها جمال عبد الناصر وكأنّها سياقٌ واحد امتدّ من عام 1952 حينما قامت ثورة 23 يوليو إلى حين وفاة ناصر عام 1970.
أيضاً، جمال عبد الناصر لم يكن قائداً عربياً فقط، بل كان إضافةً لذلك حاكماً ورئيساً لشعب مصر. فبينما عرفه العرب غير المصريين بدوره كقائد تحرّر قومي، عرفه شعب مصر كحاكم يحكم من خلال أجهزة وأشخاص، فيهم وعليهم الكثير من الملاحظات والسلبيات، رغم ضخامة حجم الإنجازات الكبيرة التي تحقّقت للشعب المصري نتيجة الثورة.
ولم نكن كعرب في فترة عبد الناصر (ولسنا كذلك الآن طبعاً) نعيش في ظلّ دولة واحدة ليكون الفرز العربي الداخلي على أسس سليمة بين المتضرّر والمستفيد من وجود أفكار وأعمال التجربة الناصرية.
بل من المهم الأنتباه جيداً إلى أن ثورة 23 يوليو قامت عام 1952 بواسطة جبهة “الضباط الأحرار” وليس من خلال حزب أو تنظيم موحّد الفكر الأسلوب والرؤية لمستقبل مصر.
كذلك أحاطت بالتجربة الناصرية ظروف داخلية وخارجية معيقة لحركة “ثورة 23 يوليو”، كان أبرزها حال التجزئة العربية والتعامل مع الشعوب العربية إمّا من خلال الحكومات أو أجهزة المخابرات المصرية، وفي ظلِّ حربٍ باردة بين المعسكرين الدوليين، حيث تركت هذه الحرب بصماتها الساخنة على كلّ المعارك التي خاضها عبد الناصر.
فالمشكلة بتجربة ناصر أنّ ساحة حركتها وأهدافها كانت أكبر من حدود موقعها الجغرافي المصري.. فقد كانت قضاياها تمتدّ لكلّ الساحة العربية، وأيضا لمناطق أخرى في إفريقيا وآسيا.
لذلك يصّح القول أنّ “23 يوليو” بدأت ثورةً مصرية، ونضجت كثورةٍ عربية، ثمّ ارتدّت بعد وفاة ناصر إلى حدودها المصرية.
فالسياسة العربية لمصر عبد الناصر كانت مرتبطةً بالمراحل والظروف المتغيّرة رغم القناعة المبدئية بالعروبة لدى القيادة الناصرية.
إنّ ثورة 23 يوليو حصلت عام 1952 دون أي ادّعاء بالعمل من أجل أي قضية عربية، فقد كانت الأهداف الستَّة للثورة المصرية الّتي أُعلنت حين قيامها خاليةً تماماً من أي موضوع عربي وتمحورت جميعها على القضايا الداخلية المصرية.
ولم يظهر البُعد العربي واضحاً في ثورة ناصر إلاّ بعد تأميم قناة السويس ثمَّ العدوان الثلاثي (البريطاني/الفرنسي/الإسرائيلي) عام 1956 على مصر. فبعد هذه السنوات القليلة من عمر الثورة المصرية ظهر الالتفاف الشعبي العربي الكبير حول القيادة الناصرية واشتعل تيّار القومية العربية في أرجاء البلدان العربية كتيّار مرتبط بمطلب الاستقلال الوطني والتحرّر من الاستعمار وامتلاك الثروات الوطنية، في مرحلةٍ كانت معظم دول العالم الثالث فيها تعاني من الإستعمار الأجنبي ومن تحكّم الشركات الأجنبية بالثروات الوطنية. وكانت صرخة ناصر: “إرفع رأسك يا أخي، فقد ولّى عهد الاستعباد والاستعمار”، صرخةً مدوّية كان صداها يتفاعل في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاّتينية، فكانت دعوةً من أجل التحرّر والحرّية، وقد حرّكت وأنهضت الشارع العربي كلّه من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، وكان ذلك أيضاً دافعاً لربط مطلب التحرّر بالدعوة للوحدة العربية كتعبير عن وحدة الانتماء الثقافي ووحدة الهموم ووحدة الأحلام والآمال.
لذلك، جاءت تجربة الوحدة بين مصر وسوريا في 22-2-1958 تتويجاً لهذه المشاعر التحرّرية القومية، وقامت الجمهورية العربية المتحدة بناءً على ضغط الشارع العربي عموماً والسوري خصوصاً من أجل انضمام سوريا للقيادة الناصرية في مصر.
لكن عقد الخمسينات الّذي تميّز بمعارك التحرّر الوطني والاستقلال وبانطلاقة التيّار القومي العربي، تعرّض لنكستين كبيرتين في مطلع عقد الستينات وأواسطه، وانتهى هذا العقد بوفاة من قاد هذه المعارك التحرّرية، ومن أضاء في منتصف القرن العشرين شعلة التحرر الوطني والهوية العربية.
النّكسة الأولى، كانت بحقّ الجمهورية العربية المتحدة حيث قادت جماعة انفصالية في سوريا حركة الانفصال عن مصر يوم 28/ 9/ 1961، ثمَّ جاءت النّكسة الثانية يوم 5/ 6/1967 حيث جرت هزيمة حرب حزيران/يونيو وما نتج عنها من متغيّرات كثيرة في مصر والمنطقة العربية. وفي النكستين، كان ناصر مثالاً في المسؤولية وفي الحرص على العروبة. فلقد رفض عبد الناصر استخدام القوّة العسكرية ضدَّ حركة الانفصال السورية رغم مشروعية وقانونية هذا الحق، ورغم أنّ دولاً عديدة استخدمت القوة العسكرية للحفاظ على وحدة كيانها السياسي. وقد قال ناصر آنذاك: “ليس المهم أن تبقى الجمهورية العربية المتحدة بل المهم أن تبقى سوريا”، فقد كان حريصاً أن لا تقع حرباً أهلية في سوريا بين مؤيد ومناهض للوحدة مع مصر.
أمّا هزيمة عام 1967، فقد أعلن ناصر تحمّله المسؤولية الكاملة عنها واستقال من كلّ مناصبه الرسمية يوم 9 يونيو بعد أيام قليلة من حصول الحرب، ولم يعد عن هذه الإستقالة إلاّ بعد يومين من المسيرات الشعبية العارمة التي شملت مصر ومعظم البلاد العربية، ثمّ كانت هذه الهزيمة سبباً مهمّاً لإعادة النظر في المؤسسة العسكرية والبناء الداخلي وفي السياسة العربية لمصر الناصرية حيث وضع جمال عبد الناصر الأسس المتينة للتضامن العربي من أجل المعركة مع العدوِّ الإسرائيلي، وتجلّى ذلك في قمَّة الخرطوم عام 1967 وما تلاها من أولويةٍ أعطاها ناصر لإستراتيجية إزالة آثار عدوان 1967، وإسقاط كل القضايا الأخرى الفرعيّة بما فيها سحب القوات المصرية من اليمن والتصالح مع الدول العربية كلّها والسعي لتوظيف كل طاقات الأمّة من أجل إعادة تحرير الأراضي المحتلة.
وكانت هذه السياسة هي سمة السنوات الثلاث التي تبعت حرب 1967 إلى حين وفاة عبد الناصر.
لكن خلاصات تلك المرحلة كانت مزيجاً من الدروس الهامة لقضيتيْ التحرّر والوحدة. إذ تبيّن أنَّ زخم المشاعر الشعبية لا يكفي وحده لتحقيق الوحدة، وأنَّ هناك حاجةً قصوى للبناء التدريجي السليم قبل تحقيق الإندماج بين بلدين عربيين أو أكثر. وهذا ما حرص عليه عبد الناصر عقب حرب 1967 حينما رفض المناشدة اللّيبية ثمَّ السودانية للوحدة مع مصر، واكتفى بخطوات تنسيق معهما رافضاً تكرار سلبيات الوحدة الفورية مع سوريا.
أيضاً أدرك عبد الناصر ومعه كل أبناء الأمّة العربية أنّ التحرّر من الاحتلال يقتضي أقصى درجات الوحدة الوطنية في الداخل، وأعلى درجات التضامن والتنسيق بين الدول العربية.
كذلك، كان من دروس هزيمة 1967 وانفصال عام 1961، أنّ البناء الداخلي السليم وتحقيق المشاركة الشعبية الفعّالة في الحياة السياسية، هما الأساس للحفاظ على أي تجربة تكاملية بين البلاد العربية، وهما أيضاً الأرض الصلبة لقيادة حركة التحرّر من أيِّ احتلال أو هيمنة خارجية.
لكن هذه الدروس الهامة لم تعش طويلاً بعد وفاة ناصر، وهاهي الأمّة العربية الآن تعاني من انعدام التضامن العربي ومن الانقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلي في معظم البلاد العربية مما سهّل ويسهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها.
فنحن نعيش الآن نتائج “الزمن الإسرائيلي” الذي جرى اعتماده مصرياً من قبل أنور السادات بعد الرحيل المفاجئ لجمال عبد الناصر في العام 1970، ثمّ بعد الانقلاب الذي حدث على “زمن القومية العربية”، والذي كانت مصر تقوده في عقديْ الخمسينات والستّينات من القرن الماضي. فاليوم يشهد معظم بلاد العرب “حوادث عنف تقسيمية” و”أحاديث طائفية ومذهبية وإثنية” لتفتيت الأوطان نفسها.. لا الهويّة العربية وحدها.
وهانحن الآن في الذكرى 51 لوفاة جمال عبد الناصر، نجد أنّ مصر تغيّرت، والمنطقة العربية تغيّرت، والعالم بأسره شهد ويشهد متغيّراتٍ جذرية في عموم المجالات.. لكن رغم كلِّ تلك المتغيّرات يستمرّ الحنين العربي إلى حقبة ناصر .. حقبة الكرامة والعزة والتوحد. وما يحدث الآن في البلاد العربية هو تأكيدٌ جديد على أهمّية إعادة قراءة “المشروع الناصري” الذي لم يمنحه القدر الفرصة الزمنية الكافية لإثبات جدارته.
د. صبحي غندور مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن
Twitter: @AlhewarCenter
Email: [email protected]