يوم الأربعاء 15 سبتمبر 2021 أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في البيت الأبيض بواشنطن وعلى جانبيه في شاشة عملاقة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ورئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون عن شراكة أمنية ثلاثية أو بالأصح تحالف عسكري تحت اسم "أوكوس" تأمل كل من واشنطن ولندن وكامبرا أن يتوسع ليشمل دولا أخرى ويشكل وسيلة لفرض نوع من الحصار على الصين يسهم في الحد من قدراتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية وبالتالي السماح للولايات المتحدة بالاستمرار في تربع عرش القوة الأولى والهيمنة عالميا.
الإعلان عن نواة هذا التحالف اعتبره البعض تقليدا لعملية تشكيل حلف الناتو في القارة الأوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لمواجهة الكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفيتي ومنع توسعها غربا. في حين يقول المؤيدون لتحالف أوكوس أن هدفه الوحيد هو تطويق الصين ومنعها من بسط نفوذها على منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي.
التحديات التي يواجهها الحلف الجديد كثيرة، فقد شكل صدمة لأوروبا وخاصة فرنسا وأصبح يهدد بإنفراط عقد تحالف الناتو وكشف مرة أخرى أن واشنطن لا تبالي سوى بمصالحها والعمل على استمرار النظام القائم على الأحادية القطبية.
البعض في الاتحاد الأوروبي استغل الأحداث الأخيرة ليطالب بسياسة أوروبية مستقلة وبناء تحالفات جديدة سواء مع روسيا أو غيرها وعدم الانغماس في مشاريع أمريكية مهددة بنهاية كارثية مثل تدخل الناتو العسكري لمدة عقدين في أفغانستان.
زيادة على ذلك يشير محللون أن حلف أوكوس حتى ولو عرف توسعا كبيرا في المستقبل فإنه لن ينجح في تحجيم قدرات الصين في مواجهة الولايات المتحدة في مناطق خارج أسيا حيث أن بكين بنت علاقات وثيقة وشكل تحالفات في كل من أفريقيا وأمريكا اللاتينية فاقت في ثقلها في الكثير من البلدان مثيلتها الأمريكية.
الطابع الأنجلوساكسوني لأوكوس يثير حفيظة دول كثيرة تصنف حليفة لواشنطن، كما أنها ترى أنه بدون مشاركة اليابان وكوريا الجنوبية والهند في التحالف الجديد لن يمكن حتى مواجهة نفوذ الصين في آسيا بشكل عالي التأثير.
مشروع قديم
فكرة أوكوس ليست وليدة اليوم فقد تبلورت سنوات حتى قبل أن يعلن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما يوم الخميس 16 نوفمبر سنة 2011 عن نقل ثقل وتركيز الولايات المتحدة إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
فمن مدينى سيدني الاسترالية قال أوباما إن الولايات المتحدة تحول جهودها حاليا إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في الوقت الذي تنتهى فيه الجهود الأمريكية الحربية في كل من العراق وأفغانستان. وقال أوباما لبرلمان كانبرا في اليوم الثاني والأخير من زيارته لاستراليا: "بعد عقد خضنا فيه حربين كلفتنا غاليا من حيث الدماء والمال، تحول الولايات المتحدة انتباهها على الإمكانات الواسعة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ". وتعهد أوباما بألا يأتي خفض النفقات الدفاعية على حساب قوات بلاده في المنطقة. وذكر: "لن تأتي تخفيضات الإنفاق الدفاعي الأمريكي، وأكرر أن ذلك لن يأتي على حساب منطقة آسيا والمحيط الهادئ، سنحافظ على قدرتنا الفريدة على إظهار القوة وردع التهديدات للسلام. سوف نحافظ على تعهداتنا بما فيها التزاماتنا تجاه حلفاء مثل أستراليا".
كانت استراليا والولايات المتحدة قد اتفقتا على أن تستضيف مدينة داروين أقصى شمال استراليا 250 جنديا من مشاة البحرية الأمريكية ‘مارينز’ في دورات بالتناوب تستمر كل منها ستة شهور بداية من عام 2012، ليصل إجمالي العدد إلى 2500 جنديا خلال خمسة أعوام. كما أتاح تحديث التحالف العسكري الرسمي دخول أكبر للطائرات العسكرية الأمريكية. وقال أوباما "بامتلاكها أغلب القوة النووية في العالم وحوالي نصف تعداد السكان، ستحدد آسيا بشكل كبير ما إذا كان القرن المقبل سيتسم بالصراع أم التعاون، دون الحاجة للمعاناة". وأضاف أنه "كرئيس، اتخذت قرارا مدروسا واستراتيجيا – وهو أنه كواحدة من دول منطقة المحيط الهادي، ستلعب الولايات المتحدة دورا أكبر وبعيد المدى لتشكيل هذه المنطقة ومستقبلها، بالتمسك بالمبادئ الجوهرية وبشراكة وثيقة مع حلفائنا وأصدقائنا". كان أوباما قد وجه انتقادا للصين في وقت سابق يوم الخميس، حيث قال في كانبرا: "جميع بلداننا لديها اهتمام عميق في صعود صين سلمية تتسم بالرفاهية"، مجددا حديثه بأن الصين "تقامر" بالاقتصاد العالمي. وقال أوباما أمام جمع من البرلمانيين : "يعلمنا التاريخ أن القوة العظمى التي يعرفها العالم على الإطلاق من أجل تحقيق الثروة والفرصة هي الأسواق الحرة". وأضاف: "لذلك نحن نسعى نحو اقتصاديات حرة وشفافة .. نسعى نحو تجارة حرة ونزيهة، كما نسعى لنظام اقتصادي دولي تتضح فيه القواعد وتلتزم كل دولة بها". ودعا أوباما بكين إلى تحقيق التوازن بين النمو الذي تقوده الصادرات وتحفيز الطلب الداخلي. وأضاف: "نريد نموا متوازنا لأننا نزدهر أكثر عندما تتخذ بلدان ذات فوائض كبيرة إجراء لزيادة الطلب في الداخل".
في نوفمبر 2011، كتبت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية حينذاك، مقالاً في دورية "السياسة الخارجية"، اعتبرت فيه أن منطقة آسيا والمحيط الهادئ أصبحت المحرك الرئيسي للسياسة العالمية، مشيرة إلى ستة محاور أساسية ستمضي من خلالها واشنطن قدما في التعامل مع هذه المنطقة، وهي: تعزيز التحالفات الأمنية الثنائية، وتعميق العلاقات مع القوى الناشئة، والتعامل مع المؤسسات الإقليمية متعددة الأطراف، وزيادة التجارة والاستثمارات، وتوسيع الوجود العسكري على نطاق كبير، ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
أفريقيا
بعيدا عن الساحة الآسيوية تفوقت بكين على واشنطن في القارة السمراء التي يقدر اقتصاديون أنها بثرواتها غدت قبلة استثمار المستقبل.
فيوم السبت 25 سبتمبر 2021 أظهر التقرير السنوي للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين وإفريقيا أن قيمة التجارة الثنائية بلغت 187 مليار دولار خلال عام 2020، لتحافظ بذلك الصين على وضعها كأفضل شريك تجاري لإفريقيا في عام 2020. وقد ظلت الصين أكبر شريك تجاري لإفريقيا لمدة 12 عاما متتالية، رغم الصعوبات التي فرضها وباء كوفيد 19.
وأبرز التقرير أن التجارة الثنائية بين الصين وإفريقيا سجلت نموا قويا، حيث ارتفع حجم التجارة بنسبة 40,5 بالمئة على أساس سنوي ليصل إلى 139,1 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من عام 2021، وهو رقم قياسي، على أساس سنوي.
كما شهد الاستثمار الصيني في إفريقيا توسعا مطردا رغم الاتجاه الهبوطي في الاقتصاد والتجارة العالميين الناتج عن انتشار جائحة كوفيد 19، وفق التقرير.
وبلغ الاستثمار الصيني في إفريقيا 2,96 مليار دولار في عام 2020، بزيادة 9,5 في المائة على أساس سنوي. ومن بين القيمة الإجمالية، بلغ الاستثمار المباشر غير المالي 2,66 مليار دولار، بحسب المصدر ذاته.
وأشار التقرير إلى أن الاستثمار الصيني في قطاع الخدمات بإفريقيا شهد زيادة كبيرة، إذ ارتفع الاستثمار في القطاعات الفرعية مثل البحث العلمي وخدمات التكنولوجيا والنقل والتخزين وخدمات البريد، بواقع أكثر من الضعفين.
وخلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2021، بلغ الاستثمار الصيني المباشر في إفريقيا 2.07 مليار دولار، ما يعد أداء أفضل من المستوى المسجل في الفترة نفسها من عام 2019، قبل جائحة كوفيد-19.
وذكر التقرير أنه تم إنشاء إجمالي 25 منطقة صينية للتعاون الاقتصادي والتجاري في 16 دولة إفريقية، مشيرا إلى أنه حتى نهاية عام 2020، جذبت هذه المناطق 623 شركة باستثمارات إجمالية قدرها 7,35 مليار دولار، خلقت أكثر من 46 ألف فرصة عمل للدول المضيفة.
كما أشار إلى أن القيمة التعاقدية لمشروعات البنية التحتية الصينية الموقعة حديثا في إفريقيا، وصلت إلى 67,9 مليار دولار في عام 2020، بزيادة 21,4 في المائة على أساس سنوي.
ساحة أمريكا اللاتينية
جاء في تقرير حول العلاقات الدولية أن أمريكا اللاتينية أصبحت أحد مسارح المواجهة الصينية الأمريكية. وإحدى الساحات المهمة لصراعات القوة الجيوسياسية.
تعد أمريكا اللاتينية، بما يتوافر لديها من ثروات طبيعية ضخمة وموقع استراتيجي مهم قريب من الولايات المتحدة، أحد الأقاليم الجغرافية المهمة التي حرصت الصين على تعزيز حضورها فيه. وقد نجحت بكين، بدرجة كبيرة، في الاستفادة من تراجع الاهتمام الأمريكي في عهد ترمب بالقارة اللاتينية، وعملت على ملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة في المنطقة، وهو ما أدى إلى تصاعد وتيرة التنافس الأمريكي الصيني في أمريكا اللاتينية واتساع نطاقه، ليشمل مجالات عدة كما يتضح في ما يلي:
1- تنافس اقتصادي قوي: أصبحت الصين، في غضون سنوات قليلة، لاعبا رئيسيا في أمريكا اللاتينية، من حيث حجم التجارة الخارجية وتدفقات الاستثمار والتعاون المالي.
ويكشف الوضع الراهن عن أن الصين هي الشريك التجاري الأول للأرجنتين والبرازيل وتشيلي وبيرو وأوروغواي، وقد تطورت علاقتها الاقتصادية مع كولومبيا والمكسيك. كما ضخت الصين عشرات المليارات من الدولارات في صورة استثمارات في شبكات الكهرباء البرازيلية، والطرق السريعة الأرجنتينية، والشبكة اللاسلكية في المكسيك، ومحطات الموانئ البيروفية، ومصانع معالجة الليثيوم البوليفية.
وباستبعاد المكسيك، فقد تجاوزت تجارة الصين مع المنطقة، الولايات المتحدة في عام 2018، وزادت في عام 2019 لتصل إلى أكثر من 223 مليار دولار مقابل تجارة الولايات المتحدة البالغة 198 مليار دولار.
إلى جانب ذلك، قدمت الصين 137 مليار دولار في صورة قروض لدول أمريكا اللاتينية خلال الفترة من عام 2005 إلى عام 2019، متجاوزة الإقراض السنوي من المؤسسات المالية التي تقودها الولايات المتحدة، وحصلت فنزويلا وحدها على قروض صينية بلغت 62 مليار دولار. وجميعها عوامل ساهمت في تعزيز العلاقات الصينية اللاتينية من ناحية، وزيادة النفوذ الاقتصادي الصيني في القارة اللاتينية، في مقابل تراجع الحضور الأمريكي من ناحية أخرى، وهو ما اتضح في إعلان 19 دولة في المنطقة مشاركتها في مبادرة الحزام والطريق الصينية.
كما احتلت، إضافة إلى هذا، أمريكا اللاتينية في عام 2020 أهمية مركزية للمستثمرين الصينيين الذين نجحوا في تنفيذ عدد من عمليات الاستحواذ والشراء للشركات اللاتينية الكبرى العاملة في مجال الطاقة والبنية التحتية، فعلى سبيل المثال قامت مؤسسة الشبكة الحكومية الصينية (State Grid Corp) في نوفمبر عام 2020 بشراء شركة لتوزيع الكهرباء في تشيلي. وكانت الصفقة، التي قدرت قيمتها بـ 4.3 مليار يورو (5.2 مليار دولار) بما في ذلك ديون الشركة التشيلية، أكبر استحواذ صيني في الخارج خلال ذلك العام.
2- توظيف متفاوت للدبلوماسية الطبية:
أتاح تفشي وباء كوفيد 19 فرصة غير مسبوقة للصين للمضي قدما في تنفيذ أهدافها في أمريكا اللاتينية، وقد استخدمت “الدبلوماسية الطبية” لتوسيع نطاق نفوذها في المنطقة، جنبا إلى جنب مع التقدم الذي تحرزه في سلاسل التوريد والاستحواذ الاستراتيجي والقروض المقدمة للدول اللاتينية.
3- تباين في مستوى الثقة:
شهدت السنوات الأخيرة، تزايد في التوجهات الإيجابية لدى حكومات دول أمريكا اللاتينية وشعوبها نحو الصين، في مقابل تراجع النظرة الإيجابية تجاه الولايات المتحدة. وقد دفعت التجارة والاستثمارات الصينية بعض دول المنطقة، ومنها السلفادور، وجمهورية الدومينيكان، وبنما إلى التخلي عن اعترافها الدبلوماسي بتايوان، لصالح الاعتراف بسياسة “صين واحدة”.
وتظهر بعض الإحصائيات أن الصين تتفوق على الولايات المتحدة، ليس فقط من حيث تواجدها الاقتصادي في المنطقة، ولكن أيضا في تصورات ورؤى المواطنين اللاتينيين. وقد أظهر مسح أجرته مؤسسة أمريكاز باروميتر في أوائل عام 2019، تراجع معدل الثقة في الحكومة الأمريكية في 11 من أصل 17 دولة في أمريكا اللاتينية شملها المسح مقارنة بعام 2017. وكان هناك معدل ثقة أقل في الحكومة الأمريكية مقارنة بالصينية في عشر دول لاتينية عام 2017، واتسعت الفجوة بدرجة أكبر في مسح عام 2019 إذ أصبحت ثلاث عشرة دولة لاتينية لديها ثقة أقل في الحكومة الأمريكية مقارنة بالصينية.
4- التعاون الأمني:
أدى النفوذ الاقتصادي المتزايد لبكين، بما في ذلك حاجة دول أمريكا اللاتينية إلى التجارة والاستثمارات والقروض الصينية، إلى جعل بعض الدول أكثر تقبلا لتوسيع نطاق التعاون الأمني معها.
وخلال السنوات الماضية، أصبح جيش التحرير الشعبي الصيني نشطاً بشكل متزايد في أمريكا اللاتينية، حيث شاركت بعض قواته في بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في هايتي. كما نشر سفينته الطبية في ثلاث مناسبات منفصلة في موانئ دول المنطقة، ويقوم أيضا بإرسال سفنه الحربية بانتظام لإجراء تدريبات مشتركة، إلى جانب المشاركة في الدورات التدريبية، وتبادل الزيارات لضباط الجيش والشرطة في دول المنطقة والصين.
وفي الوقت ذاته، قامت شركات الدفاع التي تتخذ من الصين مقرا لها، مثل مجموعة نورينكو، ببيع مجموعة واسعة من المعدات العسكرية لقوات الأمن اللاتينية، بما في ذلك الدول الصديقة للولايات المتحدة مثل كولومبيا وبيرو، وليس فقط الحكومات المناهضة لواشنطن مثل فنزويلا.
ومن الملاحظ أن الصين تولي اهتماما كبيرا في الوقت الراهن بتطوير البنية التحتية للموانئ البحرية وموانئ المياه العميقة حيث وقعت 40 صفقة تجارية للموانئ في منطقة عمليات القيادة الجنوبية الأمريكية. وتكمن خطورة الحضور الأمني والعسكري الصيني المتزايد في المنطقة في أنه – في حالة اندلاع صدام عسكري طويل الأجل بين الصين والولايات المتحدة في آسيا – من المرجح أن تعمل بكين على استغلال هذا الحضور في مواجهتها العسكرية مع الولايات المتحدة، ولهذا فليس مستغربا أن يعتبر البنتاغون أمريكا اللاتينية “ساحة معركة” في الحرب العالمية الثالثة القادمة، ويستعد وفقا لهذه الرؤية.
التفوق الاسترتيجي
جاء في تحليل نشره موقع ميدل ايست يوم 26 سبتمبر 2021:
من الواضح أن إدارة بايدن تعمل وفقاً لاستراتيجية المحيطين الهندى والهادي التي صاغتها إدارة ترمب ورفعت عنها السرية في أوائل عام 2021. وقبل أسابيع من تنصيب بايدن طرحت الوثيقة ثلاثة تساؤلات رئيسة: كيفية الحفاظ على التفوق الاستراتيجى للولايات المتحدة فى منطقة المحيطين الهندى والهادي ومعارضة جهود الصين "لإنشاء مجالات نفوذ غير ليبرالية جديدة"، وكيفية كيفية منع كوريا الشمالية من تهديد الولايات المتحدة وحلفائها، وكيفية دفع عجلة القيادة الاقتصادية العالمية للولايات المتحدة.
وفي 3 مارس 2021، أطلق الرئيس جو بايدن "التوجيه الاستراتيجي الموقت" الذي يتضمن رؤية إدارته لعلاقات الولايات المتحدة مع بقية دول العالم، واعتبر أن الصين تشكل التحدي الأكبر للنظام الدولي، فوفق نص الوثيقة فإن "التحدي الذي تمثله الصين مختلف، لأنها الدولة الوحيدة التي تمتلك القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحدي النظام الدولي المستقر والمفتوح بشكل جدي".
وقام وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بجولة في جنوب شرقي آسيا أواخر يوليو 2021، وضع فيها مع حلفاء واشنطن الخطوط العريضة لمفهوم "الردع المتكامل". وأعقبت جولته زيارة نائبة وزير الخارجية ويندي شيرمان لسيول وطوكيو، وهما حليفان لا غنى عنهما للولايات المتحدة. وزار وزير الخارجية أنتوني بلينكن الهند لإقناعها بتحويل الحوار الأمني الرباعي (الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا)، المعروف باسم "كواد"، من منبر للنقاش إلى تحالف فاعل، وكذلك زيارة نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس لآسيا في أواخر أغسطس 2021. وليس سراً أن كل هذا الحراك السياسي هدفه ردع الصين، ووضع الخطط والترتيبات اللازمة لمنعها من ربح أي حرب قد تندلع هناك، بل لمنعها من التفكير في خوض حرب لأن ذلك وحده يزعزع النظام السياسي-الأمني-الاقتصادي الذي أرسته الولايات المتحدة في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ومن ناحية ثانية، تمثل الميزة الجغرافية لأستراليا والعلاقات المتدهورة مع الصين خيارا جيدا لواشنطن، فالموقع الاستراتيجي لأستراليا يجعل نشرها للسفن النووية يمثل رصيدا أكبر بكثير للمصالح الأمريكية والغربية الأوسع. فنظرا لأن القواعد الأمريكية في "غوام" وجزيرة "ويك"، ناهيك عن القواعد في كوريا الجنوبية واليابان، تعتبر بشكل متزايد معرضة بشدة لجيل جديد من الأسلحة الصينية والكورية الشمالية، إلا أن أستراليا لا تزال قريبة بما يكفي لتكون نقطة انطلاق قيمة للعمليات الهجومية. وبالتالي فإن توفير الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية يمثل جزءا من اتجاه أوسع نحو ظهور أستراليا كجزء مركزي من جهود نشر القوة الغربية الموجهة إلى شرق آسيا، مع استضافة الدولة للبنية التحتية الجديدة والأصول القتالية لهذا الغرض.
إن التحول في المنظور الاستراتيجي للولايات المتحدة من محاربة الإرهاب إلى مواجهة الصين واضح. وجددت نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس هذا التعهد خلال زيارة سنغافورة وفيتنام في أواخر أغسطس 2021، بالتزامن حرفيا مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، حيث قالت إن الولايات المتحدة "ستسعى إلى منطقة المحيطين الهندي والهادي الحرة والمفتوحة التي تعزز مصالحنا ومصالح شركائنا والحلفاء".
الحسابات البريطانية
بالنسبة لبريطانيا، فإن طموحات العودة إلى منطقة الإندوباسيفيك تراود بقوة القادة البريطانيين. فمنذ عام 2019، وبعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، بدأت المملكة المتحدة في التوجه شرقا وإنشاء قواعد عسكرية في آسيا مرة أخرى.
ويتلاءم هذا التوجه تماما مع استراتيجية "بريطانيا العالمية" المحددة في وثيقة المراجعة المتكاملة التي نشرت في مارس 2021، والتي تمثل "رؤية الحكومة لدور المملكة المتحدة في العالم" بحلول عام 2025، وتوضح سياسة الأمن القومي والسياسة الدولية للبلاد بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي. ومصداقا لهذه الاستراتيجية أبحرت في يوليو 2021 مجموعة ضاربة بقيادة حاملة الطائرات "إتش إم إس إليزابيث" عبر بحر الصين الجنوبي في طريقها إلى اليابان. وفي 19 سبتمبر 2021، قالت ليز تروس وزيرة الخارجية البريطانية الجديدة، في مقال بصحيفة "صنداي تلغراف"، إن الاتفاق الأمني الجديد الذي أبرمته بلادها مع أستراليا والولايات المتحدة يبرهن على استعدادها لـ"التصلب" في الدفاع عن مصالحها، مضيفةً أن الاتفاق يبرز أيضا التزام بريطانيا بالأمن والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادي.
بالنسبة لأستراليا، فإن تحالف "أوكوس" يعد صفقة ضخمة، ومن الناحية العسكرية تكاد تكون وجودية. إذ تَعتبر كانبيرا الصفقة رهانا ناجحا على تفاني واشنطن طويل الأمد في الحفاظ على تفوقها البحري في آسيا. ورغم أن أستراليا لم تصنف الصين على أنها "عدو" صراحةً في تحديثها الاستراتيجي الدفاعي لعام 2020، لكنها تولي الاهتمام الواجب للمنافسة الناشئة بين الولايات المتحدة والصين في منطقة الإندوباسيفيك.
وكقارة جزيرة تعتمد على التجارة البحرية، تحتاج أستراليا إلى قوة بحرية قوية، لاسيما في مجال الغواصات، وهو أمر حيوي للردع البحري وجمع المعلومات الاستخبارية، وبخاصة أنها توصلت إلى اقتناع بأن الغواصات السويدية التقليدية الست التي تملكها تحد من قدرتها على الانتشار خلسةً في واحدة من أكبر المناطق البحرية في العالم.
وقد اشتدت المخاوف الأسترالية بشأن القوة الصينية مع تحول بكين نحو سياسة هجومية في المنطقة. فقد شرعت الصين في عملية طويلة الأمد لتطوير قواتها البحرية في بحر الصين الجنوبي، الذي هو شريان التجارة العالمية في هذه المنطقة الحيوية التي تضم ثلثي سكان العالم، و60 في المئة من حركة النمو الاقتصادي الدولي، وتكريس الحضور العسكري الدائم من خلال الغواصات النووية ذات القدرة الردعية والاستباقية الناجعة. إذ تملك بكين ست غواصات نووية حاملة لصواريخ نووية عابرة، من أصل 40 غواصة هجومية. وفي نهاية 2020، كانت الصين تملك ما مجموعه 350 سفينة قتالية وغواصة مقارنة مع 297 سفينة لكل الأسطول العالمي للولايات المتحدة، بحسب مكتب الاستخبارات البحرية الأمريكي، وتوقع المكتب أن تملك الصين 400 سفينة عام 2025، و425 سفينة عام 2030. وإذا كانت الولايات المتحدة تنشر في المنطقة خمسا من حاملات طائراتها الإحدى عشرة، فإن الصين بدأت ببناء حاملة طائرات ثالثة، وما زالت تبني مزيدا من المدمرات.
وفي الإجمال فإن تحالف "أوكوس" الثلاثي يعيد ترتيب هيكل القوة في منطقة الإندوباسيفيك، انطلاقا من فرضية أن الصين لم تعد منافسا يمكن مجاراته سلميا، بل تقترب من أن تكون عدوا خطيرا. وإلى جوارها فرضية أخرى مفادها أن مواجهة الولايات المتحدة لعدو بحجم الصين تتطلب مشاركة في الأعباء من قبل القوى الإقليمية الأكثر تضررا، كالهند وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، وغيرها من بلدان آسيا التي تنظر إلى الصعود الصيني كمصدر تهديد لمصالحها العليا.
التداعيات والإشكاليات
لا شك في أن تشكيل تحالف "أوكوس" يطرح تداعيات وإشكاليات عديدة، لاسيما في منطقة جنوب شرقي آسيا، فضلا عن الأزمة الدبلوماسية التي تفجرت بصورة لافتة داخل المعسكر الغربي، وتحديدا من جانب فرنسا.
مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، لدى فرنسا أيضاً مصالح في المحيطين الهندي والهادي، إذ تعد فرنسا القوة الأوروبية الوحيدة الموجودة حالياً في المنطقة مع ما يقرب من مليوني مواطن وأكثر من 7000 فرد عسكري، منتشرين عبر امتداد بحري شاسع من جزيرة ريونيون في غرب المحيط الهندي إلى بولينيزيا الفرنسية ونيو كاليدونيا في جنوب المحيط الهادي.
وكرد عملي أولي على الخطوة الأمريكية البريطانية الأسترالية، تحركت باريس في اتجاهين: الأول، التقارب مع الهند، التي تشترك معها في رغبة الحفاظ على الاستقلال الاستراتيجي تجاه الولايات المتحدة، وفي حماية مصالحها الاستراتيجية والأمنية مقابل التهديد الصيني، لذا أجرى وزير الخارجية الفرنسي اتصالاً هاتفيا بنظيره الهندي، سوبرامانيام جايشانكار، في 18 سبتمبر الجاري اتفقا فيه على تعزيز شراكتهما الاستراتيجية "استناداً لعلاقة الثقة السياسية بين دولتين كبيرتين تتمتعان بالسيادة في منطقة المحيطين الهندي والهادي".
والتحرك الثاني كان مع الحلفاء الأوروبيين، ومن هنا أكد وزير الشؤون الأوروبية في الحكومة الفرنسية كليمان بون، في الاجتماع الذي ضم وزراء الخارجية الأوروبيين في 21 سبتمبر، أن أزمة الغواصات تعد "تنبيهاً" للاتحاد الأوروبي من أجل إظهار المزيد من وحدة الصف في مسائل السياسة الخارجية والأمن وتعزيز السيادة.
في الأساس لم تخض واشنطن نقاشاً معمقاً مع الحلفاء الأوروبيين، إذ تعرف مسبقاً أنهم غير متحمسين لمواجهة الصين في "حرب باردة" جديدة. وجوهر القضية في نظر كثير من الأوروبيين أن واشنطن لا تنظر إليهم كحلفاء يستحقون الثقة، خصوصاً عندما يتصل الأمر بمواجهاتها مع الصين، وتستثنى من ذلك بالطبع بريطانيا.
سباق تسلح
سيكون لتحالف "أوكوس" مخاطر بعيدة المدى على الاستقرار الاستراتيجي في منطقة جنوب شرقي آسيا، وهي منطقة تقع في قلب منطقة الإندوباسيفيك، المحور الرئيس لتحالف "أوكوس" الجديد. وفي حين أن التحالف قد يساعد في ردع حركة البحرية الصينية وتقليل احتمالية الصدام، فإنه يتضمن إمكانية أن يكون هذا الصدام أكثر تدميراً إذا أفلت. ومن الممكن أن تكون دول جنوب شرقي آسيا في المواجهة الأمامية، علاوة على وضع المنطقة بين منافسين استراتيجيين كبار، ويزيحها من مكانتها المزعومة من "مركزية" إقليمية، ويؤدي إلى تآكل استقلالها الاستراتيجي.
ولطالما دعت دول "الآسيان" إلى الحفاظ على جنوب شرقي آسيا "كمنطقة سلام وحرية وحياد"، خالية من تدخل أي قوى خارجية. ودول الآسيان بالفعل قلقة للغاية بشأن المنافسة بين الصين والولايات المتحدة التي تدور في فنائها الخلفي.
وعلى وجه الخصوص، عارضت ماليزيا بشدة خطة أستراليا للحصول على أسطول من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية وتخشى ماليزيا من أن يؤدي تحالف "أوكوس" إلى سباق تسلح نووي في منطقة المحيطين الهندي والهادي. وفي 18 سبتمبر 2021، انضمت ماليزيا إلى إندونيسيا في دق ناقوس الخطر بشأن الحشد العسكري في المنطقة والتأثير الذي يمكن أن يحدثه تحالف "أوكوس" على الاستقرار الإقليمي. ولا تريد ماليزيا أن تضطر إلى الاختيار بين التحالف الغربي المدعوم من الولايات المتحدة والصين. وحتى سنغافورة، الحليف الأكثر موثوقية لأستراليا في المنطقة، أعربت عن قلقها تاجه الصفقة.
وقد عزز تحالف "أوكوس" التصور السائد بأن ما ترفعه أستراليا من شعار بأنها "جزء من المنطقة" إنما هو، في الواقع، "كلام غير واقعي". وأشارت أستراليا بحزم إلى نيتها وضع حلفائها الأنجلوساكسون في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أولاً. كما يعزز "أوكوس" وجهة النظر القائلة بأنه لا يمكن قبول أستراليا كشريك أو لاعب إقليمي. ولسنوات، اعتبرت دول في "الآسيان" أستراليا بمنزلة "نائب عمدة الشرطة" للولايات المتحدة.
الصدام في بحر الصين الجنوبي
يعد بحر الصين الجنوبي من أخطر الأماكن من حيث احتمالات نشوب حرب بين القوى العظمى. ويشير تحالف "أوكوس" إلى أن الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة تنظر إلى بحر الصين الجنوبي كمكان رئيس لهذه المنافسة ضد الصين. وتمتلك الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، والتي ستمتلكها أستراليا، القدرة على تغيير الديناميات في بحر الصين الجنوبي وجعل الصينيين أكثر توتراً. وكانت هناك بالفعل الكثير من حوادث "المواجهة" بين البحرية الصينية والأمريكية في المياه المتنازع عليها، والبحرية الصينية والسفن التابعة لأعضاء الآسيان.
وتَعتبر بكين بحرَ الصين الجنوبي "درعاً طبيعيا لأمنها القومي". ويعد احتمال استخدام أستراليا الغواصات النووية للقيام بدوريات في بحر الصين الجنوبي تهديداً خطيراً للصين بشكل خاص، لأن إحدى نقاط ضعفها العسكرية هي الحرب ضد الغواصات. وقد تعني عمليات الانتشار هذه أن الولايات المتحدة وحلفاءها يريدون حرمان بكين من الحاجز الدفاعي لبحر الصين الجنوبي. وهذه ليست مجرد خطوة تكتيكية من قبل الولايات المتحدة وأستراليا، فهي من وجهة نظر بكين تهديد وجودي للصين.
لا يخلو تحالف "أوكوس" من الصعوبات المحتملة الخاصة به، فبسبب طبيعته المتميزة والحصرية يمكن للتحالف أن يخلق توترات مع حلفاء آخرين للولايات المتحدة، مثل اليابان وكوريا الجنوبية الذين قد يرغبون في الحصول على صفقات مماثلة، وهو أمر لا يبدو مقبولاً أمريكياً وبريطانياً بالنظر إلى خصوصية العلاقات مع أستراليا، تاريخياً وحضارياً ودينياً وعرقياً. وقد أكد مسؤول أمريكي كبير بإدارة بايدن على الطبيعة النادرة للغاية للترتيب والتكنولوجيا الحساسة للغاية التي سيتم مشاركتها، وقال: "هذا بصراحة استثناء لسياستنا في كثير من النواحي، لا أتوقع أن يتم القيام بذلك في أي ظروف أخرى في المستقبل، نحن نعتبر ذلك حدثاً لمرة واحدة".
يظهر تشكيل تحالف "أوكوس" بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا نهجَ بايدن في بناء تحالفات وشراكات متداخلة في التعامل مع التحدي الصيني. وتكمن أهمية التحالف في تحديد طبيعة الاستراتيجية الأمريكية طويلة الأمد تجاه الصين، فلسنوات كان النقاش في عدد من عواصم العالم يدور حول جدوى إنشاء تحالف عالمي واسع تقوده الولايات المتحدة لاحتواء الصين، بحيث يضم معظم الدول الآسيوية ويحاكي تحالف الناتو في أوروبا خلال الحرب الباردة، لكن هذا لم يكن ممكناً في آسيا. وبدلاً من ذلك يسعى الرئيس بايدن إلى الترويج لعدة ترتيبات وتحالفات وشراكات متداخلة ويكمل بعضها بعضاً، فـ "كواد" هو أحد هذه الترتيبات، و"أوكوس" هو ترتيب آخر، وستكون هناك ترتيبات أخرى في المستقبل القريب.
وتحتل الولايات المتحدة موقعاً حاسماً في كل ترتيب إقليمي منفرد، لكنها لا تترأس تحالفا موحدا على مستوى المنطقة. وتهدف الطبيعة المتداخلة لهذه الترتيبات إلى زيادة التكلفة التي قد يتعين على الصين دفعها في أي مواجهة مستقبلية، ولكنها في الوقت نفسه لا تعزل الصينيين أو تحكم على المنطقة بمواجهة على غرار الحرب الباردة.
وأخيراً، ليس من شك في أن التحالف الجديد يتم تصنيفه كخطوة تغيير أساسية في الهياكل الأمنية الآسيوية وربما العالمية.
عمر نجيب