ليست دعوة وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية أنتوني بلينكن لتثبيت التطبيع مع العدو الصهيوني وضرورة شموله اقطار عربية أخرى، اجتهاداً شخصياً منه فقد ورد في احد الوثائق الاميركية ان الرئيس بايدن قال: "لا استقرار في الشرق الاوسط الا اذا طبّعت جميع الدول العربية مع اسرائيل واعترفت بها كدولة قومية يهودية"..
فما الفارق بين بايدن وترامب حتى تهرع دول عربية لاعادة تنشيط الدور الاميركي فيما يسمى بعملية السلام؟
بايدن مع دولة قومية يهودية وليس ضد تهويد القدس ولا ازالة المستوطنات، ولا مع المبادرة العربية للسلام. اما اعادة دعم الاونروا وغيرها من الامور البسيطة، فلا تعني ان بايدن في صدد الغاء صفقة القرن لترامب، ولا هو بالأساس قدم دليلاً واحداً على التزام اميركا بقرارات ما يسمى بالشرعية الدولية باستثناء، تصريحات نظرية عن ان هناك ارض محتلة.
ان بايدن يطالب العرب بتحويل الفلسطينيين في فلسطين الى جالية في دولة قومية يهودية، والاعتراف بالكيان الاسرائيلي بدون ترسيم لحدود الكيان، ولا ننسى ان بن غوريون احد مؤسسي الكيان قال يوماً عن حدود اسرائيل "ان الحدود مفتوحة لآخر جندي اسرائيلي يصل اليها".
ان الاعلانات المتوالية لادارة بايدن عن حقوق الانسان والديمقراطية، لا يصدقها اكثر من نصف الشعب الاميركي من السود والهنود والاسيويين وابناء اميركا اللاتينية ومعظم الكاثوليك الامريكان فضلاً عن المسلمين الاميركيين.
ان الديمقراطية بكل مدارسها المعروفة تتناقض مع العنصرية السائدة في الولايات المتحدة، فاي ديمقراطية يتحدث عنها النظام الأميركي؟
هل استعباد دولة لشعب آخر ديمقراطية؟
هل استعمار واستباحة بلد آخر ديمقراطية؟
إن قتل مليون ونصف مليون عراقي هو اجراء ديكتاتوري اجرامي. وفرض دستور تقسيمي اميركي على العراق منذ عام 2003 هو اجراء ديكتاتوري لا علاقة له بأبسط قواعد الديمقراطية، وما حصل في افغانستان من غزو امريكي مدمر للشعب والمؤسسات ياتي في نفس السياق.
ما يهمني في هذه المقالة هو ان الولايات المتحدة التي تطالب قيادات البلدان العربية بالتطبيع الالزامي مع الكيان الإسرائيلي، فانها كعادتها في كل تاريخها تنفذ رغباتها الاستعمارية بالقوة والحصار، ولا تكترث بالرأي العام وبالديمقراطية وحقوق الانسان.
لم تطالب امريكا بعرض اتفاقية كامب دايفيد عام 1979 على استفتاء شعب ديمقراطي، وما مقاطعة الشعب المصري لكل انواع التطبيع بعد هذه المعاهدة الا دليلاً عن الرفض الديمقراطي بالاغلبية الكاسحة لهذه الاتفاقية.
والامر ينطبق على اتفاقية وادي عربة في الأردن، وكذلك الحال مع اتفاق اوسلو مع السلطة الفلسطينية، فلا استفتاء للفلسطينيين بالداخل ولا في الشتات، بل اتفاق مفروض على الفلسطينيين ومرفوض منهم.
وتأتي اتفاقيات "ابراهام" الاخيرة مع رئيس الحكومة الاخواني في المغرب، ومع جزء من الامارات، والسودان الذي يتواصل حكامه مع العدو لا يستطيع ابرام اتفاق لان الحكم السوداني انتقالي بطبيعته بعد الانتفاضة ولا يملك هذا الحق دستورياً، وهذا التواصل المدان هو محل استنكار معظم الاطراف الشعبية السودانية بما فيها وزيرة الخارجية الدكتورة مريم الصادق المهدي لان حزب الامة القومي الذي تنتمي اليه هو ضد التطبيع بالمطلق.
الاستنتاج الاول ان اتفاقية كامب دايفيد نفسها تم تجاوزها بانتشار الجيش المصري في كل سيناء وتعزيز قدرته وبتنويع السلاح المتقدم وباشياء اخرى، وكل المراقبين يعلمون بان التطبيع ساقط عملياً في الاردن ولا تتجرأ السلطة على استفتاء الشعب على اتفاقية وادي عربة.
اما في ساحة فلسطين فمعظم شعب فلسطين في الداخل والخارج ضد اتفاق أوسلو، وفي اجتماعات الفصائل للتوحيد فان اوسلو سقط وداسته اقدام الشرفاء في انتفاضة رمضان الشاملة. فاذا كانت الاتفاقات التطبيعية القديمة قيد التصدع والتلاشي، فهل يكون مصير اتفاقات ما يسمى ابراهام الاخيرة قابلة للحياة والاستمرار؟
ان اميركا التي تعجز عن تطبيق العدالة على مواطنيها، والعدالة احدى اسس الديمقراطية، هل هي مؤهلة لمساعدتنا على تطبيق الديمقراطية وحقوق الانسان وهي التي جردت الانسان من حق الحياة في كل بقاع الارض التي استولت عليها وعلى نظمها؟
واذا كانت الحكمة العربية تقول ان الاناء ينضح بما فيه فالاناء الاميركي وحشي عنصري ديكتاتوري ظالم، انه نظام الرأسمالية الوحشية.
ولحسن حظ العالم الثالث المنكوب، فانه يتطلع بأمل لهذا الغروب التدريجي للدور الاميركي الاستعماري في العالم، مع بزوغ الامل لنظام التعددية القطبية الدولي، فروسيا والصين وقوى اسيوية ولاتينية تتقدم الى الامام وتنحسر كل دول الاطلسي الى الوراء سياسيا وعسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا.
ان كل التهويل الاميركي ضد صعود الصين الشعبية لا يغير من المعادلة الجديدة في مطالع القرن الواحد والعشرين، يكفي الصين فخراً انها حققت هذا الموقع المتقدم عالميا وتقدمت على امريكا في كثير من عوامل النهضة. لم تستعمر الصين اي بلد في تاريخها ولن تستعمر، وتقدمها كان بحضارة شعبها وبالارادة الصلبة.
والى الحكام العرب نجدد القول: لا تخافوا اميركا، فاذا كانت عاجزة امام كوريا الشمالية صديقتنا التي لم تعترف باسرائيل حتى الآن، وعاجزة امام ايران وتقدمها الشامل عسكرياً وتكنولوجيا رغم الحصار الكامل، وعاجزة امام فنزويلا وكوبا الصامدة الشجاعة، فهل تستطيع الولايات المتحدة منع صعود روسيا والصين وغيرهما؟
ان الادارة الاميركية مع النخبة العنصرية فيها لم تتحمل عجزها المالي الذي بلغ اكثر من اربعين تريليون دولار، والاقتصاد الاسيوي يتقدم عليها. ولم تتحمل تقدم التسليح لروسيا، ولم تتحمل تراجع دورها دولياً. انه غرور دولة كانت عظمى بفضل نهجها الاستعماري وتحولت الى دولة كبرى، وهي لا تستطيع تحمّل صعود دول اخرى الى دول عظمى. انها التحولات العميقة مع مطالع القرن الواحد والعشرين.
ان امريكا التي كانت تمسك بعصا الكيان الاسرائيلي لتهديد العرب زمن مضى، فالكيان الصهيوني منهزم ومحاصر بمقاومات عربية دخلت في حالة توازن ردع مع العدو، وبالمناسبة فان الهجرة الصهيونية من الكيان تتصاعد منذ معركة رمضان التي حققت اكبر انجاز في انتزاع صمامات امان الكيان الصهيوني الذي قام على انه المكان الامن لليهود في العالم، فاين هو هذا الامان الان مع التطورات التي ذكرناها؟.
لا تخافوا يا حكام الانظمة العربية من الكيان الاسرائيلي والامريكان، لقد جربتم العصبية القطرية والتبعية، جرب معظمكم نظام الرأسمالية الوحشية فماذا حققتم للشعوب العربية المقهورة؟
أمامكم طريق واحد، فالشعب العربي يريد العدالة في مواجهة الظلم والظلام، يريد المواطنة المتساوية في بلده، يريد التحرر من التبعية الأجنبية، يريد تحرير وعروبة فلسطين، يريد اقتصاداً انتاجياً وعدلاً اجتماعيا، يريد حقوق الانسان العربي كاملة ليعيش على ارضه حرا قويا عزيزاً.
مزّقوا اتفاقات التطبيع، فان لم تفعلوا ستمزقها الشعوب. ارفضوا الديمقراطية الاستعمارية وطبقوا الديمقراطية الصحيحة. ولن يستطيع اي بلد عربي بمفرده ان يتحدى الصهيونية والاستعمار وينجح في التنمية المستدامة ويحافظ على وحدة وعروبة واستقلال الكيان الوطني الا بالوفاق العربي كحد ادنى، وبالوحدة التكاملية العربية والدفاع العربي المشترك.
ان الامن القومي العربي لا يتجزأ، فلن يعززه ويتصدى لاختراقه الا التضامن العربي العملي والجاد. ودائما وابدا ان العروبة الجامعة هي الحل، فلتسقط الديمقراطية الاستعمارية ولتحيا الديمقراطية الانسانية.
بقلم: كمال شاتيلا
(رئيس المؤتمر الشعبي اللبناني)