الجزائر: نحن و”الجزيرة”

أربعاء, 2021-06-09 15:05

أجد لزاما علي، من واجب الأمانة الفكرية والاعتزاز بمواقفي تجاه احترام حرية التعبير، أن أذكر بأنني كنت من القلائل الذين دافعوا في الجزائر طوال العقود الماضية عن قناة الجزيرة، وتحملت الكثير من السلطات الجزائرية في السنوات الأخيرة، وعانيت من الشنآن مع قيادة المخابرات ووصل الأمر إلى حدّ الشجار مع الفريق محمد العماري قائد المؤسسة العسكرية، وهو ما كنت تناولت تفاصيله يوما، ولن أزعج القارئ بالعودة له وإلى كل ما سبق أن قلته في أحاديث سابقة.

من هنا أعتقد أن من حقي أن أعبّر عن خيبة أملي في القناة التي كنت أراها صوت العروبة الحقيقي في زمن الرداءة، ولعلي أكاد أقول إنني لست بعيدا عن الشعور بالندم على كل كلمة قلتها دفاعا عنها، وعن كل دعوة لاحتضانها، وعلى كل تصرف قمت به لأمكنها من حقها في ممارسة دورها الإعلامي، في الجزائر وفي غير الجزائر.

وكنت حاولت خلال “مروري” بوزارة الثقافة والاتصال أن أفتح مجال الجزائر أمام “الفضائية” العربية، لكن هذا تمت عرقلته من قبل بعض المواقع النافذة المسيطرة، بحجة أن رئيس الجمهورية، آنذاك،غاضب على الجزيرة، وهكذا ظلت الفضائية ممنوعة في الجزائر طوال العشريتين الماضيتين، ولم تكن “العصابة” بعيدة عن كل ذلك.

لكنني لم أتنازل عن يقيني لحظة واحدة، فواصلت مواقفي في السباحة ضد التيار، وكنت أقول وأكرر بأن القناة الإخبارية، أي قناة إخبارية، ليست جمعية خيرية، وبأن علينا أن نحترم كل المواقع الإعلامية النزيهة، والجزيرة في مقدمتها، وأن نقدم وجهة نظرنا بالأسلوب السليم الذي يحترم المنبر والمشاهد، وهو ما حرصتُ عليه شخصيا في تعاملي مع كل المنابر الإعلامية التي تفضلت باستضافتي، ومن بينها الجزيرة نفسها.

لكنني بدأت ألاحظ على بعض برامج الجزيرة ما رأيت لزاما عليّ أن ألفت النظر له، من منطلق الأخوة والاحترام، وهكذا كتبت في فبراير الماضي محذرا من تصرفات للفضائية اعتبرتها متناقضة مع القيمة التي كنت أتصورها للقناة القطرية، وذلك بعد متابعتي لفيلم وثائقي عن أغنية “جانيتو” الهندية، وكان فيلما يستحق”الأوسكار” في تفاهة المضمون وركاكة التعبيرات ويستحق “نوبل” في الإساءة للجزائر ولثورتها وللشعب الجزائري ومعاناته خلال العشرية الدموية.

وقلت يومها بكل أدب إنني أشعر بالأسى لأن فيلما كهذا كان أقل بكثير من مستوى الجزيرة، بحيث ادعى كثيرون عندنا أن المسؤولين عن القناة تعاملوا باستخفاف مع المشاهد الذي منحهم ثقته، ولا يعفيهم من المسؤولية القول بأن الفيلم هو إنتاج قدمته مؤسسة تحمل صفة العربية، لأن المضمون هو مسؤولية القناة، وليس ما “يرتكبه” أي منتج لا يمكن أن يمثل “كل” عربي، حتى في الزمن الرديء.

وكانت كلماتي تحذيرا أخويا للفضائية يذكر مسؤوليها بأننا نتابع ما يقدمونه باهتمام، وبأن واجبهم هو مقابلة هذا الاهتمام بما هو جدير به.

لكن يبدو أن القوم هناك مشغولون بأشياء أخرى، ليس دوري أن أتوقف عندها.

ولقد ترددت كثيرا قبل أن أسطر حديث اليوم، خصوصا وأنا لا أعرف ردود الفعل الرسمية حول ما استجد من مواقف رأيتها أقل بكثير مما كنت أنتظره وأتمناه.

ومناسبة الحديث هو حوار “لقاء اليوم” مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي قدمته الجزيرة يوم الثلاثاء الماضي، والذي دفع كثيرين إلى اجترار السقطة التي ارتكبتها الجزيرة مع الرئيس السابق عبد العزيز بو تفليقة في 1999، وكانت وراء غضبته ضد الفضائية القطرية.

وأتوقف لحظات لأقول إنني أعبر هنا عن رأي شخصي من منطلق شخصي، ولا شأن لي بالموقف الرسمي الذي أحرص على أن أظل بعيدا عن أي تأثر به، سلبا أو إيجابا.

كان موقف الجزيرة مع الرئيس تبون أسوأ موقف يمكن أن تتخذه فضائية عربية تجاه الرئيس الجزائري، خصوصا والإعلاميون العرب في معظمهم يأخذون على الجزائر اهتمامها المحدود بوسائل الإعلام العربية، ولعلهم على حق في هذا، لكنني رأيت في تصرف الجزيرة بالأمس تفسيرا معقولا لقلة الاهتمام الجزائري بمعظم وسائل الإعلام العربية، بل ويمكنني القول بأن كثيرين هنا اعتبروا ما حدث من الجزيرة خطيئة إعلامية، وقال لي أحد الرفاق غاضبا في تفسير ما حدث إن الجزيرة كانت تخشي أن يقول تبون، بصراحته المعروفة، ما يمكن أن يتناقض مع “التوجهات” القطرية “الحالية” بعد انهيار الحصار.

وهكذا كان ما سمحت به الفضائية هو استضافة الرئيس الجزائري في برنامج “لقاء اليوم” الذي لا يتجاوز نصف ساعة، قُدّم في غير أوقات الذروة الإعلامية، وهكذا لم يحظ واحدٍ من أهم الرؤساء العرب الذين يواجهون بكل شجاعة وصبر وإيمان وضعية بالغة الصعوبة بما هو جدير به من استضافة في برنامجٍ يضم أكثر من حلقة لا يقل كل منها عن خمسين دقيقة، تقدم بعد السابعة مساء بتوقيت غرينيتش.

ولست أقصد هنا أن يكون اهتمام الجزيرة ببرنامج الحوار مع عبد المجيد تبون تكريما للرئيس الذي فتح أمامها  أبواب الجزائر المغلقة في وجهها منذ سنوات، بل لسبب آخر بالغ الأهمية ويتعلق بالمسؤولية الإعلامية لأي فضائية عالمية تعرف واجبها تجاه الأحداث وأمام المشاهدين.

ولا أعتقد أن هناك من ينكر أن مضمون ما يمكن أن يقوله الرئيس الجزائري في أول خرجة إعلامية عربية له هو مادة إعلامية بالغة الأهمية ينتظرها الوطن العربي والعالم الإسلامي، على ما أتصور، بكل اهتمام، بل ويمكنني أن أقول أن مواقع في العالم أجمع كانت تنتظر ما يمكن أن يسلط الأضواء على بقع ظلٍّ كثيرةً تكمن في خباياها وقائع الأحداث الجزائرية، وهو ما يمكن أن يعني أن ما حدث هو مساسٌ بحق المواطن العربي في أن يعرف ما يجب أن يعرفه من مصدره الرئيسي.

ولست ألوم هنا المذيع عبد القادر عيّاض، لأنني لا أتصور أنه هو المسؤول عن هذا التصرف الإعلامي المعيب، وهو حاول بكل جهده أن يحيط بأهم القضايا التي تشغل بال الجميع، هنا وهناك، لكن الوقت كان دائما يداهمه، وكان مضطرا لمقاطعة الرئيس لكيلا يفلت من الحوار بندٌ له أهميته، وهكذا لم يتمكن البرنامج من أن يشفي غليل المشاهد الذي كان يريد أن يعرف أكثرَ عما يحدث في الداخل الجزائري، وعن محاولات توجهات إيديولوجية معينة ركوب الحراك الجزائري بعد أن فقد أصالته وحجمه التاريخي، وعن نظرة الجزائر لما يُسمّى بالإسلام السياسي، وعن تفاصيل العلاقات مع فرنسا التي تستعد لانتخابات رئاسية قادمة بينما يصفع مواطن فرنسي رئيسه، وعن الدور الجزائري في ليبيا وقصة الخطوط الحمراء، وعن انقلابات مالي وقوافل الأسلحة التي تغزو منطقة الساحل، وعن الهرولة والتطبيع والتخاذل، وعن خلفية العلاقات مع الجار الغربي وحقيقة الأزمة في المغرب العربي، بل وعن بعض التفاصيل الإنسانية عن الرئيس نفسه، والذي لا يعرفه كثيرون في الوطن العربي.

ولست أدري ما هو موقف السلطات الجزائرية من كل ما حدث ولم أحاول أن أعرفه ولن أحاول أن أعرفه، لكنني، كمجرد مثقف وطني، أسجل مرة أخرى خيبة أملي في مؤسسة إعلامية قامت بدورها الإعلامي تجاه الجزائر بشكل أراه أقل من المستوى الذي كنت أراها عليه، حيث كنت أريدها أن تكون النموذج الذي يُحتذى بالنسبة للمسؤولية الإعلامية والطليعة التي تقود مسيرة إعلام عربي مستنير يخرج بنا من مرحلة الرداءة، التي تذكرني بكلمات مريرة قالها يوما “غوار الطوشي” وهو يخاطب روح أباه الشهيد: الله وكيلك يا أبي …صِرنا فُرْجة.

 

دكتور محيي الدين عميمور مفكر ووزير اعلام جزائري سابق