باعتراف وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، تستعدّ مصر وتركيا لمباحثات مباشرة في القاهرة خلال الأيام القليلة القادمة على مستوى نواب وزراء الخارجية، يليها لقاء على مستوى الوزيرين، مع رهان بعض الأوساط على لقاء مفاجئ بين الرئيسين رجب طيب إردوغان وعبد الفتاح السيسي.
القطيعة التركية مع القاهرة بدأت بالانقلاب الذي قام به السيسي على الرئيس الإخواني محمد مرسي، حليف الرئيس إردوغان الاستراتيجي عقائدياً، قبل أن يكون سياسياً واستراتيجياً. وكان الأخير قد عقد آمالاً مصيرية على حكم الإخوان في القاهرة بعد ما يُسمى بـ"الربيع العربي"، وخصوصاً بعد أن جاء هذا الحكم متمّماً لحكم "النهضة" الإخواني في تونس.
وقد شن إردوغان وإعلامه الموالي هجوماً عنيفاً جداً، وبأقسى العبارات والأوصاف، على الرئيس السيسي، "الديكتاتوري الظالم وعدو الإسلام"، ليرفع بعد ذلك شعار "رابعة"، ويفتح أبواب تركيا على مصراعيها أمام قيادات الإخوان المسلمين وكوادرهم (حوالى 8 آلاف) الذين اتخذوا من إسطنبول، عاصمة الخلافة الإسلامية، عاصمة جديدة لهم، كما كانت في العهد العثماني، فقد دخل السلطان سليم سوريا بعد معركة مرج دابق في 24 آب/أغسطس 1516، ودخلها إردوغان بعد 500 عام في 24 آب/أغسطس 2016، من دون أن يتسنى له دخول القاهرة كما دخلها سليم في 26 كانون الثاني/يناير 1517، ليعود منها خليفة على المسلمين، كما فعل كل السلاطين الذين جاؤوا بعده.
وقد دفع ذلك لاحقاً السلطان سليم الثالث ومصطفى الرابع ومحمود الثاني (1780 – 1820) إلى الاستنجاد بمحمد علي باشا، حاكم مصر، للقضاء على تمرد آل سعود في نجد وأرض الحجاز، وفي التاريخ الكثير من العبر!
وجاء الخلاف السعودي والإماراتي مع قطر ليزيد من حدة وشدة العداء التركي للرئيس السيسي الذي وقف إلى جانب الرياض وأبو ظبي. وبدورهما، وقفتا إلى جانب القاهرة في حساباتها الخاصة بليبيا ضد حسابات الرئيس إردوغان. وقد فاجأ الأخير الجميع باتصاله الهاتفي بالعاهل السعودي الملك سلمان في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، على الرغم من كل ما قاله عن ولي عهده محمد في قضية مقتل جمال خاشقجي في إسطنبول، التي أراد لها أن تعود عاصمة للخلافة والسلطنة في بدايات "الربيع العربي".
وبحسب اتهامات المعارضة له، سعى إردوغان، وما زال، لأسلمة الأمة والدولة التركية والتخلص من إرث مصطفى كمال أتاتورك، الذي أسس الجمهورية التركية العلمانية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية التي انهارت بعد الحرب العالمية الأولى.
لم يكن ذلك السبب الوحيد في فكر الإسلام السياسي التركي المعادي لأتاتورك، بل أيضاً لأنه ألغى السلطنة في الأول من كانون الأول/ديسمبر 1920، ثم الخلافة في 3 آذار/مارس 1924. وقد جاء الرد من مصر، إذ أعلن حسن البنا تشكيل تنظيم حركة الإخوان المسلمين، لتتحول بعدها الجغرافيا الإسلامية إلى ساحة للصراع العقائدي والسياسي، وأحياناً المسلح، بين الإسلاميين بجذورهم الإخوانية المصرية والعلمانيين المتأثرين بفكر أتاتورك.
ويفسر ذلك اهتمام إردوغان التركي بمصر العربية، سلباً كان أو إيجاباً، منذ استلام "العدالة والتنمية" السلطة في نهاية العام 2002، فهو يعي مدى أهميتها عقائدياً وتاريخياً واستراتيجياً بالنسبة إليه وإلى فكره الإسلامي وحساباته الاستراتيجية في المنطقة، باعتبار أن تركيا ومصر متساويتان سكانياً (ومعها إيران)، وتتميزان بأهمية جيوسياسية حساسة بسبب قناة السويس في مصر ذات الموقع الاستراتيجي في أفريقيا، والمضائق في تركيا ذات الموقع الأكثر استراتيجية في إيجة والأبيض المتوسط والأسود والشرق الأوسط والقوقاز.
وقد دفع ذلك إردوغان إلى التفكير في مساومات تكتيكيّة لكسب المزيد من الوقت في مساعيه للعودة إلى محيطه العربي الذي يعيش في عزلة تامة فيه بسبب تدخلاته العقائدية، ولاحقاً السياسية والعسكرية، بدول المنطقة، أولاً في سوريا والعراق، ولاحقاً في كل دول المنطقة، بما فيها مصر وجارتها ليبيا.
ومع استمرار الموقف المصري الرافض للمصالحة الاستراتيجية مع إردوغان إلا وفق شروط أعلنت عنها القاهرة أكثر من مرة، تتوقع المعلومات للرئيس السيسي أن يستغلّ نقاط الضعف التركية ليفرض شروطه ويعلن "انتصاره" على الرئيس التركي، وخصوصاً بعد أن حملته أحزاب المعارضة التركية مسؤولية تدهور العلاقات مع دولة مهمة كمصر، فالمصالحة مع القاهرة سيفسرها البعض بأنها تخلي إردوغان عن حلفائه السابقين من الإخوان المسلمين في معقلهم العقائدي والتاريخي مصر، ولاحقاً في أماكن أخرى، في الوقت الذي يستبعد الكثيرون له أن يستمر في مساره هذا، وأن يتخلى عن حلفائه في سوريا والعراق ودول المنطقة الأخرى، لما لذلك من علاقة مباشرة بمجمل سياساته الداخلية، فهزيمته في سوريا بعد انتكاسته في مصر، بانعكاسات ذلك على الدور التركي المحتمل في ليبيا، ومن ثم العراق، سيكون لها تبعاتها على الواقع الداخلي ومساعيه لإقامة الجمهورية الثانية التي يطغى عليها الطابع الديني، وإن لم تكن بذكريات الخلافة والسلطنة التي لم يعد يتحدث عنها أحد سوى في المسلسلات البطولية العثمانية.
وفي جميع الحالات، ومع انتظار إردوغان الاتصال الهاتفي من الرئيس بايدن ليحدد بعده مسار سياساته الإقليمية والدولية، مع صعوبة قراراته المحتملة، بسبب الأزمة المستمرة في أوكرانيا والتوتر مع اليونان وقبرص، سيكون الرهان هذه المرة على موقف الرئيس السيسي، فإما أن يضيء الضوء الأخضر لحسابات إردوغان مع مصر، وعبرها المنطقة العربية، وإما سيستمر في تحالفه الحالي مع الرياض وأبو ظبي اللتين لن تستعجلا في اتخاذ أي موقف إيجابي تجاه أنقرة، على الرغم من مساعي الدوحة المستميتة لتحقيق المصالحة التركية مع دول المنطقة التي كانت، وما زالت، على عداء مستميت مع أنقرة.
يأتي ذلك من دون أن يكون واضحاً موقف القاهرة، ومعها أبو ظبي والرياض، من المصالحة النهائية مع دمشق، وإغلاق ملفها عربياً، ما سيضع الرئيس إردوغان في موقف حرج جداً داخلياً وإقليمياً ودولياً، وخصوصاً بعد العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وهو ما يهم أنقرة عن كثب، لأنها ستجد نفسها بين فكي الكماشة التي تمسك القاهرة "العربية" بطرفها، فيما تمسك إيران "الفارسية" بطرفها الآخر، فالطرف الأول يساوم إردوغان على ورقة سوريا وليبيا والعراق، بينما يقف الطرف الآخر مع سوريا والعراق منذ بداية الأزمة وضد كل الأطراف العربية والتركية والغربية.
وفي جميع الحالات، وأياً كان الموقف المصري، ومعه السعودي والإماراتي، والعربي عموماً (باستثناء قطر)، في ما يتعلق بشروط عودة إردوغان إلى محيطه العربي كما كان قبل 2011، فقد بات واضحاً أن الأخير في وضع لا يحسد عليه أبداً، وإلا لما تودّد إلى الرئيس السيسي، الذي يبدو أنه ليس مشجعاً على ذلك، على الأقل حتى الآن، مع تجاهل الإعلام المصري إشارات الرئيس إردوغان.
يبقى موقف الرئيس الأسد هو القول الفاصل والحاسم في مستقبل التوازنات الجديدة. وإذا نجح في استغلالها والاستفادة منها بعقلية جديدة لن تتحمل أي خطأ، فسوف تجد الأزمة طريقها نحو الحل السريع، وفي إطار عربي -عربي، بعيداً من حسابات الأطراف الإقليمية، والمقصود بها الرئيس إردوغان. ومن دون تدخله المباشر، أو كما تقول المعارضة، "مغامراته العقائدية الإخوانية"، لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه في سوريا. ومن دون هذه المغامرات (بتشجيع أنظمة عربية)، لما كنا نتحدث الآن عما نتحدث عنه منذ فترة. ومن دون هذا التدخل، لما كانت تركيا الآن في وضعها الحالي داخلياً، وهي لا تحسد عليه أبداً، والمستفيد الوحيد هو الرئيس إردوغان الذي قام بتغيير الدستور وأصبح الحاكم المطلق للبلاد، وهو يعتقد أنه يستطيع أن يفعل ما يشاء في الداخل، بعد أن أقنع أنصاره وأتباعه بانتصاراته القومية في الخارج.
باحث علاقات دولية ومتخصص بالشأن التركي الميادين